محمد نبيل محمد يكتب : الاستثمار الثقافى والمصرى الجديد (١١) .. الذات المثمرة والذات الشحيحة !
لا يختلف اثنان على أن العطاء ليس هو السبيل للفناء, ولم يكن –أبدًا– سببًا للنقصان, بل على النقيض تمامًا, فما كانت النبتة التى صارت شجرة تتشبث جذورها بأعماق الأرض وتلابيبها، ويرتفع جذعها ليلامس عنان الأفق, وتتسع ظلال فروعها تلملم وتحوى أطراف جغرافيا المجال,
أما ثمارها فهى حق للجميع القاصى كما الدانى، ولصاحب العوز كما المترهلة بطونهم, الجميع شركاء فى هذا العطاء اللامحدود، المتجاوز كرم الملموس إلى السخاء الرحب للمجرد,
فتجد من ينظم الشعر وغيره يسطر النثر وآخر يطلق الومضات للتصوير ورابع يهيم إبداعًا بالرسم وعديدين يفترشون
الظل وكثيرين يستقبلونها محرابًا للحب،
وللسفر فى أرجاء الشجرة المثمرة منافع عدة ومأرب أخرى، حتى أن كهوف المساكين من هذه الشجرة، ومنابر
الواعظين من هذه الشجرة، وكد الحطابين ودفء السهارى من هذه الشجرة،
ولن يمتد طريق قطار إلا بهذه الشجرة، ولن ينتصب عمود إنارة إلا أيضًا بهذه الشجرة، والكثير بما تعنيه مفردة “الكثير”
الذى لا يحصى عطاءً من هذه الشجرة التى تشبه إلى حد بعيد شجرة أفلاطون فى عالم المثل،
هى بقدر عميق كادت أن تكون مثالية كتلك التى تطل على عقولنا من نافذة المدينة الفاضلة، وهذه الدافئة اليانعة
بين دفتى أدبيات اليوتوبيات، وهى التى نظنها –وهمًا– تسكن فضاء الخيال، أو تروح وتجرى مع مداد الكلمات
فحسب!,
وفى الحقيقة هى كائنة مستقرة بيننا نراها ونتعامل معها نأخذ منها، ومنا الشاكرون ومنا دون ذلك، وهى الذات التى
تعطى لكل من حولها،
ودائمًا يكون العطاء سببًا محوريًّا فى ثرائها وتنامى معطياتها، وهى الأم وهى الأب والمرأة العاملة المعيلة والعامل
المتقن والأديب الصادق والطالب المجتهد والتاجر الأمين والواعظ القدوة، وهى كل هؤلاء وغيرهم،
هذه الذات التى يراها بعض منا ويتوقف عندها يتحدث إلى ذاته –الخجلة– ويقول: “لولا هذه الذات لما استمرت الحياة
فى تطورها وارتقائها”، وبعضنا الآخر يمر عليها صمًّا وعميانًا,
وقليل يسخر منها ويعدها كأقنان الأرض أو كحطب نار المدفأة, وربما كان هذا حسدًا من عند أنفسهم؛ لأنهم لو
استطاعوا الاعتقاد فى العطاء وممارسة شعائره لما كانوا من هؤلاء الذين ننعتهم بشحيحى العطاء، هم مَن يمسكون
خشية الفقر واعتقادًا فى الندرة،
وهم مَن يقتنعون بأن العطاء سبب فى زوال النعم، فمارسوا الشح حتى بخلوا على ذاتهم بأسمى نعمة وهى
“الوجود”، فصاروا لا يعطون الحب حتى مارسوا الحقد،
فكانوا مكروهين ممن حولهم، وهم أيضًا لا يعطون العلم ونسوا أن العلم يزيد ويربو بانتقاله إلى الآخرين، وإلا لما جاء
إلى مدعيه، وهم لا يعطون العطف فصاروا غلاظ القلوب،
وهم لا يذرفون الدمع فتشبهوا بالتماسيح، وهم مَن لا تجد لديهم المروءة والشهامة والصدق والأمانة،
وهم مَن ضاق وجدانهم فلا إبداع يملكون، وهم مَن أسروا أنفسهم طواعيةً وقيدوا أرواحهم جهلًا فى غيابات الشح،
وهم أصحاب أشياء لم يملكوها؛ لأن قاعدة الملك: أن تملك القدرة على التصرف بالعطاء والهبة والتنازل وغيرها من
صور التصرف فيما تملك،
أما مَن لا يستطيع ممارسة آليات التصرف فهو لا يملك ما يتوهم أنه بيده، بل هو مَن أمسى ذاتا مملوكة, مارست
الشح حتى ضنت على التمتع بالوجود الحقيقى إلى الوجود الصفرى، وهكذا محصلة مجموع هذه الذات لن تغير
مجتمع ولن تطور إنسانية،
هى بالكاد تجمدت فى مكانها انتظارًا لأن تكون إرثَا لغيرها من الأمم والمجتمعات، أما الذات المثمرة المتجددة الطاقات
الواهبة للوجود حيويته ونضارته؛ فهى ذات فى مجموعها تضيف للإنسانية رصيدًا من القيم والمبادئ،
كما تزيد من العلم، وهى أيضًا تثرى الوجدان الإنسانى كما تتكرم بمعطيات الحياة, هذه الذات المثمرة هى الذات
المتطورة, المتغيرة, المتحركة, والموقرة.
وسيأتى الحديث عن الذات الحرة والذات الحبيسة. ونستكمل فى القادم إن شاء الله لنبنى أركانًا جديدة فى المصرى
الجديد بعد اكتشافه لذاته وإدراكه لإمكاناته فى التغيير,
وعلى الإنسان أن يعيد تقييم ذاته ليرسم بيده ملامحه ليست الشكلية فحسب، وإنما الباطنة أيضًا, ويعود كما كان
أجداده الأصل وأصحاب الفعل، وليس الشبه والمفعول به!.