” خريف العمر ” .. قصة قصيرة للأديب محمد الشرقاوي

الشاعر محمد الشرقاوي

منذ أن وطأ بقدميه أرض القرية وهو سابح في بحر من الدهشة ، فالمنازل الصغيرة صارت أبراجا شاهقة ، والطرق الترابية المظلمة تم رصفها وإنارتها ، أما الهدوء الذي كان معتادا فقد تحول إلى ضجيج متواصل بفعل تلك المتاجر والمحلات التي انتشرت بشكل لافت للنظر ، يضاف لذلك هذه المقاهي بتصميماتها الحديثة وزخارفها الرائعة والتي تنافس مثيلاتها في كبريات المدن ويجلس بها عدد كبير من الناس ، كل منضدة تجمع جيلا بحكم العمر ، أما اللافتات المضيئة فلا تكاد تنفصل عن بعضها البعض حتى أحالت الليل إلى نهار ، سيول من التكاتك الجديدة التي تمر في الاتجاهين بكل سهولة وجميع سائقيها من الأطفال وصغار الشباب .

ما زال الدكتور شاكر يواصل سيره باحثا عن منزل أخيه ، يمضي بخطوات بطيئة خشية أن يخطأ الطريق ، تتجول عيناه يمينا ويسارا في محاولة للاعتماد على نفسه حتى لا يشعر بأنه أصبح غريبا عن مسقط رأسه ، يقترب منه شاب يبدو أنه في الثالثة عشرة من عمره ، يلقي عليه السلام فيرد الدكتور شاكر السلام مصحوبا بابتسامة صادقة .
الشاب : هل حضرتك تريد الوصول لمكان ما ؟
الدكتور شاكر : نعم ، إلى منزل الحاج طه عبدالكريم .
الشاب : إنه قريب جدا ولكن إذا سمحت لي سأذهب مع حضرتك حتى باب الدار .
الدكتور شاكر : بارك الله فيك ، إن الكرم والشهامة ليسا جديدين على أهل القرية ، ولكن هل تعرفني بنفسك ؟
الشاب : اسمي خالد عبدالحليم السيد من عائلة الرحمانية .
الدكتور شاكر : قل لوالدك : عم الدكتور شاكر يسلم عليك .
خالد : وهل تعرف والدي ؟
الدكتور شاكر : نعم بكل تأكيد ، فنحن أصدقاء وزملاء دراسة منذ سنوات طويلة .
خالد : لقد سمعت كثيرا عن حضرتك ، فوالدي يحفزني دائما للاقتداء بك ، فنحن جميعا في القرية نفخر بما وصلتم إليه من نجاح .

يشير خالد بيده نحو أحد المنازل قائلا : لقد وصلنا ، ثم ينادي من الخارج : يا عم طه ، لقد وصل أخوك الدكتور شاكر ، يظهر صاحب الدار مسرعا مبتسما فاتحا ذراعيه للقاء أخيه ، يحتضنه بقوة معبرا عن فرحته الغامرة ،
الدكتور شاكر : أهلا بكم أخي الحبيب ، لقد كدت أنسى الطريق لولا هذا الشاب الجميل .
يرحب الحاج طه بخالد ويدعوه للجلوس معهما ولكن الشاب يشكره ثم ينصرف .
تتشابك يدا الرجلين ، يدخلان الدار ، ما زالت عبارات الترحيب والسعادة تتوالى ، وما زال الشكر هو الرد عليها ، ثم يعبر الدكتور شاكر عن دهشته بتلك التغيرات التي طرأت على القرية ، فيوضح أخوه قائلا : لقد أصبحت مدينة في شكلها ومضمونها وطريقة حياتها ولكنك لم تأت منذ سنوات بعيدة .

يدخل سامح ابن الحاج طه وفي إحدى يديه حقيبة من الجلد مفتوحة من أعلى وتطل منها رؤوس الدجاج الأبيض الذي مل الدكتور شاكر من لونه وطعمه ، أما اليد الأخرى فتحمل حقيبة شفافة بها بعض الطماطم والخضروات الأخرى ، يترك الحقيبتين جانبا ليسلم على عمه الذي يحتضنه بقوة قائلا : لقد صرت رجلا يا سامح ، حفظك الله وأسعدك ، ثم يلتفت لأخيه سائلا : ماذا حدث يا حاج طه ؟ أين دجاجكم البلدي الرائع ؟ واين الأرانب والبط والحمام ؟ يرد الحاج

طه : ألم أقل لك إننا أصبحنا نحيا حياة المدينة ؟! لم يعد شيء مما تقول يا اخي ، تغيرت المنازل ولم يعد فيها أماكن

لتربية هذه الطيور ، حتى النساء لم يعد لديهن القدرة على تلك الأعمال .

الدكتور شاكر : وماذا عن بساتين الخضروات التي كانت مزروعة خلف المنزل وبها الطماطم والفلفل والباذنجان وأصناف

الخضروات ؟

الحاج طه : لقد أصبح ذلك من ذكريات الزمن الجميل يا أخي ، إننا الآن نقف مثلكم في طوابير الخبز التي تزدحم يوما

بعد يوم .

يبدو الوجوم على وجه الدكتور شاكر وتدعوه ذاكرته إلى الإبحار في سنوات العمر حين كانت القرية مصدر الخير ومنبع

السلع والمنتجات الزراعية والطيور التي تغذي المدينة وكيف كانت الزيارات العامرة بالهدايا من اللحوم والسمن والجبن

والمخبوزات الجميلة تسافر من القرية لتمنح أهل المدينة عيدا يحتفلون به أياما واسابيع طويلة ، يترحم على تلك

الأيام الجميلة ثم يعود من رحلة الذكريات منتبها على صوت زميله وصديق عمره الحاج عبدالحليم السيد مناديا من

خارج الدار : يا عم الحاج طه : أين الدكتور شاكر ؟ لقد أشرقت الأنوار ، مرحبا بأغلى الأحباب ، اليوم عيد للقرية كلها .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.