محمد نبيل محمد يكتب : الأمن الثقافى (١٩) ” مؤتمر الحسنة والسيرة السيناوية “.. حتى لا ينسى الأبناء ولايتناسى الأعداء
خير لنا أن نسكن تراب سيناء أشرافًا من أن نمشى فوقه أذلة”… هذه المقولة الخالدة التى أطلقها مشايخ سيناء، ومنهم الشيخ سالم الهرش -شيخ قبيلة البياضية- يوم ٣١ أكتوبر لعام ١٩٦٨، عندما توهم موشيه دايان أنه استمال السيناوية ضد وطنهم (مصر)، ونظم مؤتمر الحسنة لتدويل سيناء أمام وسائل الإعلام التى حضرت من كل حدب وصوب نكاية فى المصريين ودعمًا -كما هو معتاد- للصهاينة. وهنا فى الحسنة من وسط سيناء أعلن مشايخ قبائل سيناء وطنيتهم فى فطرة معتادة منهم، فهم أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعًا عن الوطن، وفى دهاء عانى من ويلاته الصهاينة، فأعلنوا رفضهم للاحتلال وولاءهم لمصر.
فاستحق هذا اليوم أن يكون مخلدًا فى وجدان الشعب المصرى، ولأن عدونا يحارب الآن فى معركة الوعى على نسيان التاريخ وتشويه الحقائق وتهميش النماذج الوطنية؛ أصبح مقتضى الحال يدعونا إلى إعادة الحديث عن هؤلاء الأبطال أبناء مصر، الذين لهم من قداسة أرض سيناء، كما قال الشهيد جمال حمدان: “إن الأرض تعطى صفاتها لمَن عليها”. ولأن الصحف المقدسة قدست سيناء، وأقسم ربنا فى عليائه بجبال سيناء وشجرها وثمارها ووديانها، فهكذا بالمنطق الأرسطى، اكتسب أهل سيناء قداسة من أرضهم.
وبعد يونيه ٦٧ أعطوا معنًى حقيقيًّا للثأر نحته أبطال سيناء بين مفردات الوطنية، فكانوا كحال المصريين الذين نكستهم هزيمة يونيه، وربما ما زاد الأمر قتامة فى أجفانهم هو أنهم كانوا شهود عيان لفعل الخسة الصهيونى المجرد من مبادئ الإنسانية وهم يقتلون بدم بارد رجالنا العزل من سلاحهم رميًا بالرصاص أو دهسًا بجنازير الدبابات، وأيضًا طنطن فى أسماع السيناوية دون غيرهم من المصريين صيحات (تحيا مصر) التى لم تفارق حناجر الرجال وهم يقتلون الموت بصيحاتهم، ويملؤن صدور الصهاينة رعبًا وخوفًا، هذا الحال ما زاد عند السيناوية أكثر من حال عموم المصريين، ما جعل لروايات البطولة طعم الثأر، فذخر الصغير صالح عطية طفولته لتكون سهمًا فى نحر معسكرات الصهاينة، وتحت ستر تجارة البيض لمعسكرات الأعداء بات أصغر عميل فى تاريخ المقاومة. وغزلت البطلة فهيمة الهرش على شالها تفاصيل هذه الوحدات الجبانة. وبطلة ثانية هى فرحانة حسين التى جعلت من عقدها قنابل تفجر تلك المواقع الخسيسة. وثالثة كانت وداد حجاب التى ملأت أثير سيناء بمنشورات المجاهدين الرافضين لدنس الاحتلال الصهيونى، وكان معها على درب المقاومة دون علم أى منهما بما يقوم به الآخر أخيها رشاد حجاب، الذى اشترك مع زملاء المقاومة الأبطال عادل الفار، محمد حجاج، فضل عبد الله حسين مغازى، عبدالحميد محمد الخليلى، وسعد عبد الحميد سعد جلبانة فى تفجير قطار محمل بالأسلحة ثم أتوبيس إجازات للضباط والجنود. واختارت البطلة صابحة سليمان الرفاعى أن تلف رضيعها عبدالمنعم الرياش بخرائط تجمعات العدو فى الشيخ زويد لتصل بطفلها غرب القناة إلى جهات تحليل المعلومات. والشاب بلال سويلم الذى يقسم على نفسه ألا ينعم بزفافه إلا بعد تحرير معشوقته سيناء، حتى أنه حكم عليه بالسجن بمعتقلاتهم لمدة اثنى عشر عامًا، وكان معه بمعتقل غزة الأبطال حماد عيد بلال، جمعة سالم سلامة من قبيلة الترابين، مبارك أبو صلاح وعبد الكريم أبو لافى ومحمد خالد صالح من قبيلة السواركة، أحمد حجاب من العريش من عائلة أبو حجاب، إبراهيم من البياضية، وعمدة المجاهدين حسن على خلف، وجميعهم خرجوا من المعتقل المركزى بغزة على ثلاث دفعات عقب مبادرة السلام.
وكان محمود السواركة الذى يمهر خطيبته ابنة عمه برأس ثلاثة وثلاثين طيارًا إسرائيليًّا، وشاب آخر هو عبدالله جهامة الذى يفجر طرق متلا والجدى ولحفن ليحرم العدو من المرور عليها، وزميله منصور عيد سليمان الذى يرمز تجمعات العدو وأوصافهم وأعدادهم بحزم الحطب، والداهية عودة صباح الوليمى الذى يخدع العدو بخروجه من المعتقل ليدلهم على جهاز الإرسال ثم يتركهم فريسة التيه بجبل الحلال، وهو مَن أبلغ عن تدريب العدو عند سد الروافعة على العبور عبر مياه السد، وإعداد القوات والمعدات والأسلحة والمركبات والمجنزرات المستخدمة فى التدريب، وكان ذلك قبل تنفيذ الثغرة بأيام معدودة.
ومتعب هجرس الذى يتظاهر بتعاونه مع الصهاينة وكان سمع وبصر المصريين على الأعداء، وأصغر الشهداء وأولهم بعد أيام من النكسة كان الشهيد نصر عودة الذى قفز بالملاحات ومعه خرائط تجمعات العدو ببئر العبد عندما أصابه العدو بوابل من الرصاصات أيقن -حينها- بموته وأصر بدفن المعلومات معه فى قاع الملاحات، حتى لا يعلم بها العدو.
وفجر العديد من المواقع وأرتال التحركات للعدو فى وسط سيناء كل من أحمد المسعودى ومعه الأبطال حسين مسلم ومبارك أبو صالح وعادل أبو منونة وعبدالمعطى فلاح وعيد عوض وهلال سليمان، وفى أثناء القتال كان المسعودى والبطل عيد أبو عوض من العيايدة عند المعدية نمرة (6) يبلغون تحركات العدو بعد وقف إطلاق النار خلال سير عمليات أكتوبر 73.
أما الشهيد البطل الشيخ حسين مسلم سالم، الذى طالما صحبه الشباب من أبناء سيناء فى تنفيذ عملياته الفدائية ضد معسكرات الصهاينة، وبعد إحدى تلك العمليات من فرط حب وإعجاب أحد الشباب بالبطل الذى كان قدوة ونموذجًا فى البطولة والشجاعة والفداء؛ فتقدم الشاب الفدائى إليه لخطبة ابنته التى ما فى أتون العملية، ووافق البطل حينها فى 1969 لكنه قال لا فرح إلا بعد النصر والفرح الكبير لسيناء الحبيبة، لكن فى أثناء تنفيذ إحدى العمليات الفدائية له مع زملاء البطولة والفداء فى ذات العام 69، وفى منطقة القنطرة شرق وعند مهاجمتهم لمعسكر الصهاينة ونجاحهم فى إنزال الخسائر فى الأرواح والمعدات والسلاح لديهم، وأثناء انسحاب القوة المنفذة للعملية؛ قام العدو بملاحقة القوة، وهنا آثر البطل تغطية زملائه، وتعرض بمفرده لصد هجمة الصهاينة، مما أدى لاستشهاده، وأصر أبناء المساعيد الحصول على جثمانه فى مبادلة بجثة طيار صهيونى، وبعد النصر فى أكتوبر- رمضان أقيم -طبقًا لوصيته- فرح زفاف ابنته من البطل الشاب.
وكذلك كان البطل عيسى الخرافين وأبناء الرميلات نموذجًا فى الفداء، وأيضًا كان الأبطال مبارك سليمان عيسى وسالم سليم الصباح وهدهد سيناء أو البطل خالد شلاش.
هكذا كان أبناء سيناء فمنهم أو غالبيتهم نذر شبابه لسيناء، فلم يتزوجوا إلا بعد (الثأر)، وكان عند بعضهم (الثأر) هو المهر،
حتى أحدهم قدم مهره مبكرًا جدًّا ولم يكن قد مضى من يونيه سوى أيام، ولم يكن قد قضى من عمره سوى عقدين إلا ثلاث سنوات، فكان أول شهيد وأصغرهم على الإطلاق. وكهل هرم أعجب بحماسة زميله فى خندق (الثأر) فعرض عليه خطبة ابنته له على أن يكون الزواج بعد أفراح (الثأر)…
هذا (الثأر) أقدمه لشبابنا كما أقدمه لأعدائنا بعنوان (الثأر ليونيه) حتى لا ينسى كلا الطرفين.
كانت مهام أبناء سيناء منذ يونيه ٦٧ الأولى وهى الأهم: هى جمع المعلومات عن تحركات العدو وأعداد أفراده وفرزهم إن أمكن وتصنيف درجاتهم ورتبهم، وكذلك تحديد أنواع الأسلحة الجديدة باستمرار بالوصف الدقيق للسلاح أو المعدة أو المجنزرة أو المركبة إذا تعذر معرفة اسمها ونوعها، وأيضًا لا يخلو الأمر من وصف دقيق لمعسكراتهم ودورياتهم وتوقيتاتها ونطاق خدماتها وحراستها، وأيضًا تزويد عناصر المخابرات بتفريدات الإمداد اللوجستى من أنواع الطعام الواردة إليهم، وكانت المجموعات تجيد الرسم التفصيلى للتجهيزات الهندسية ولخرائط حقول الألغام التى ينفذها العدو الصهيونى.
أما المهمة الثانية وهى الأقرب لقلوبنا والذى نؤديه كما يقول السيناوية حينها (بمزاج عالٍ) فهو قنص أفراد وقادة بعينهم، وسبق تحديد أوصافهم وأسمائهم وتحركاتهم بدقة متناهية، وأيضًا تلغيم ممرات التحرك المنتظر لأرتال دبابات ومركبات العدو الصهيونى، التى كانت نتائجها عندما تتصاعد ألسنة اللهب إلى عنان سماء سيناء معلنة احتراق وتفحم الصهاينة، كانت تنزل على صدورنا بردًا وسلامًا تشفى الغليل من صور قتلهم لرجالنا عقب يونيه ٦٧.
وحتى لا ينسى القادم من الأجيال وحتى لا يتناسى الحالى من الأعداء أقدم بعضًا من هؤلاء الأبطال (أبناء سيناء) المقدسة.