الكاتب محمد نبيل محمد يكتب : أوراقه المبعثرة
الأوراق مختلطة.. مدون بعضها بالحبر والأخريات بالرصاص.. والمتبقي منها بمداد ممتزج ببعضه.. مبعثرة على طاولة
غير مستقيمة، المشهد يمتلئ بتعاريج ونتوءات لا صلة لها ببعضها، وتفتقد العلاقات المرئية.. وتربط بين أشيائها
مواثيق غير منصوص عليها من عهود سحيقة تقتبس ملامحها من آدم محب..
هو اسمه ورسمه.. الجالس دائمًا على تلك الأوراق المبعثرة.. يحفظها عن ظهر قلب كالعميان.. ويتمتم بتراتيل رمزية
يحمل وحده أكوادها ويعني دلالتها.. ينظر إلى إحداهن.. يبتسم.. حتى تلمع نواجزه تتقطر منها حلاوة الشباب..
ويصمت في سكينة كأنه يدخل في صلاة.. يبدأ بأنامله يداعب سطوره وكلماته، وكأنه يتلو ترانيمه من جديد حتى
يتيبس إبهامه..
وتبرق عيناه بألق الوجد، فيبدأ حديثه معها كما اعتاد بالتقاط أصابعها وغمرها بسيل قبلاته الدافئة مرسلة إليها حرارة
صبوه.. كرسائل ود من زمن فائت.. يغرق هائمًا في بحر عينيها الأسود كشعرها الليلى المنسدل بلا استحياء حتى
تدلى على خصر راقص هواه كما شاء.. متسائلًا بتنهيدات ساخنة.. أين كنت.. قبل مئة عام.. لِمَ كل هذا الانتظار؟
أراك خلقت لي هواءً ونورًا و.. فتباغته هي: أنت من جئت الدنيا من أجلي.. فأنا مملكتك وأنا وطنك، فافعل بملكك ما
تشاء وطء أرضك متى ترغب.. فأنا لك وادٍ وارفة ظلاله جار ماؤه.. صالحة للزرع والغرس.. فانثر على ضفتي نهري بذور
صباك السرمدي.. واغمر آباري الظمأى.. وامنح للعمر أزمانًا وأزمانًا..
قالت .. ثم باحت بما هو مسكوت عنه.. إلى أن بح صوتها وتوارى خلف الأوراق.. فأخذ يتعقب بصيصه وفى غمار بحثه
نسى.. حتى لامس إبهامه ورقة بعيدة، نصفها الأعلى فارغ إلا من سطور قليلة مفعمة بكلمات حبلى، تعنى الكلمة
أكثر من حياة وربما ما بعد الحياة..
وفراغ كبير ضخم يملأ معظم الورقة حتى أشرف هذا الفراغ على الموت على أعتاب بوادر سطور غير مكتملات
النهايات.. إلى أن غادر هذا الفراغ أمام زحام سطور نهايات الورقة.. والمدون عليها.. لن نفترق رغمًا عن ندرة اللقاء
وخصب الفراق… فتذكر أنهما افترقا أكثر مما اقتربا ولم يكن لبعدهما مساحات.. فقد هزما الزمن ومساحاته وتشابكا
خيالًا بجسد.. وامتزجا روحًا بنفس.. وتندت شفتاهما برضاب الجوى.. وتقابلا مرارًا في غفلة من ظروفهما ودون علم
من حولهما حتى أنهما لم يشعرا متى التقيا وأين..
تنهد ثانية وسافر بنظرة بعيدة إلى أبعد من هناك، حيث لم ترهما الأشياء الآدمية أو حتى غير الآدمية.. لم تولد هناك
شمس ولم يمت ليل.. لقد سكنا السر حتى احتبل بهما وباتا في عداد المفقودين فيه.. ولم ترتد نظرته من حيث
توقف التاريخ هناك..
ومن جديد عاد على ما بدأ يلملم أوراقه مدعيًا ترتيبها.. كأنه القدر أو هو تقريبًا.. يداعب ورقة.. ويملؤها سطورًا.. ويترك
في أخرى كلمات قليلة بلا سطور.. وينشر أحزانه في بحور أخرى فيحيلها إلى موج هائج دائم يرفض أن يمتطيه أحد
غيره.. يروح.. ويجيء على صدر سطوره.. يمحو ويكتب.. يمحو ما أشرف على الانتهاء ليكتب حرفًا يملؤوه حياة.. ويعود
من جديد يدعى أنه يرتب أوراقه المبعثرة على طاولته المليئة بالتعاريج والمتداخلة النتوءات.. يصنع بإبهامه ما يشاء.