محمد نبيل محمد يكتب : الاستثمار الثقافى وبناء الإنسان (٥).. التغير يبدأ من إدراك الذات وتحققها
كنا قد اتفقنا بقدرٍ ما أن الإنسان هو محصلة مجموع عقله وروحه ونفسه وضميره وذاته معًا, تلك الخمس المكونة لهذا الإنسان محل الحديث عن ارتقائه وتحضره, شريطة أن تكون مجتمعة معًا،
وتلك اللحظة الإبداعية فى التغير الحضارى عندما تجتمع المكونات وتتحد فى تكوين وحيد اسمه الإنسان (المتحضر). واتفقنا أن الإنسان لن يملك تغير وضعيته إلى الارتقاء وتوصيفه إلى الأسمى فى حياته من الصفر الأنطولوجى إلى الرقم الصحيح الموجود والمؤثر إيجابيًّا بحضوره, وسلبًا بغيابه,
إلا عندما يدرك ماهية إنسانيته. والآن بعدما أدرك المصرى الجديد كنه الوجود وماهيته, عليه التحول من مرحلة المجرد اللاملموس من جانب إدراك فكرة وجوده إلى مرحلة الفعل المسبب لتحقيق هذا الوجود وإثباته, فلن تكن هناك أهمية حقيقية فى مجرد الإدراك – فحسب- بل العمل هو ما يصدّق الإيمان, ويتأكد الوجود الإنسانى بما صدق وما دل,
وهنا يتحتم على العناصر الخمس التفاعل الإيجابى, فيبقى الضمير يقظًا مراقبًا لشهوات النفس وغرائزها الحاكمة على مدى ارتقائها, وتظل الروح محركًا أساسيًّا تتفجر بطاقات إيجابية تتولد عنها رغبة عارمة وصادقة فى البقاء أولًا ثم التغير ثانيًا,
ويأتى الدور على العقل فى توقد نشاطاته الدائمة وممارسة عمله الوحيد الذى خُلق من أجله، وهو التفكير والتدبر
والاختيار بين الأولويات واتخاذ القرارت الناجم عنها بقاء صاحبه وتحضره وارتقاءه, وجميع تلك العناصر الأربع تسير فى
منحى إثبات الذات وتحققها، وهى العنصر الخامس للوجود الإنسانى؛
فلن ينادى أحد منا على آخر غير محقق الذات, ولن يعير المجموع الإنسانى اهتمامًا بالوجود الزائف للإنسان غير
المتحقق, وسيصدر العقل الجمعى قرارًا باستبعاد وربما وفاة الإنسان –غير المكتمل– الذى لم يحقق ذاته, وهو
الهدف الأسمى من الوجود الحقيقى للإنسان.
أجد أنه من المحتم التفريق والتميز بين الإنسان وغيره من الموجودات من الكائنات ليس بالروح فحسب فهى موجودة
فى عشائر النباتات, وقبائل البحار من الثدييات إلى الرخويات, وتجمعات الحيوانات من الفقاريات إلى الزواحف صاحبات
الدم البارد والدافئ على سواء, حتى المخلوقات وحيدة الخلية كالأميبا بها روح,
ولا نبالغ إذا تحدثنا عن الجان أيضًا؛ فالروح ليست الفارق المميز للإنسان على غيره, وهكذا ليست النفس؛ فالحيوان
والنبات يملك نفسًا تحكمها الغرائز كما يملك الإنسان والجان نفسًا تحكمها الشهوات والغرائز أيضًا, أما الفارق
الحقيقى ففى العقل المستبصر والضمير اليقظ والذات الباحثة عن التحقق. فعلى الإنسان أن يسخر عناصره المكونة
له لإثبات ذاته،
وما إثبات الذات إلا تحققًا إيجابيًّا للوجود, ولن نعيد الحديث عن الصفر الموجود لكنه بلا قيمة حقيقية إلا بإضافته لغيره
من الأرقام, فهكذا من الغريب أن يملك الإنسان روحًا ونفسًا وضميرًا وعقلًا ويرتضى أن تفنى ذاته متقوقعة فى المربع
صفر, ولا من المُفضل أو المحمود أن نرى أناسًا لبلابيين يرتضون برذيلة التسلق على نجاحات الآخرين وسيلة لإثبات
الذات,
ولا ينبغى أن نصنفهم أناسًا -كاملي الإنسانية- هؤلاء الذين يقنعون بالعيش على فُتات الآخرين الفكرية, والعلمية,
والإبداعية، فضلًا عن ضرورات الحياة من الملبس والمأكل!, فلا وجود حقيقى لمَن يحيا حياة التبعية ويدور كما الإجرام
فى فلك الشموس الكبار, ولا يسعى ليجد له مكانًا وسط الفاعلين,
ولنسأل أنفسنا –بصراحة– ما الكم الذى يمكننا أن نطلقه من الأسماء والصفات السلبية على هؤلاء المفعول بهم,
هؤلاء الذين يمشون إذا الناس مشوا ويتوقفون إذا الفاعلون توقفوا؟!,
والسؤال الثانى التلقائى: “هل نرتضى بأن نكون مع مَن وصفناهم بسيل عرم من الصفات أولها (المفعول به)
وأوسطها (التابع), وآخرها (الإمعة)؟!” الإجابة بديهية بالطبع لأحفاد القدماء المصريين صناع الحضارة الأولى والأبقى
فى التاريخ الإنسانى, حتى تضع النهاية أوزارها.
من الإيمان الحقيقى بالمقدس من الدين والشرائع, ومن الفهم المستنير لإبداعات الفلاسفة صناع الفكر الرشيد,
ومن التأمل الجميل لخيال الفنون ووحى الآداب؛ أن يجتهد الإنسان لإثبات ذاته,
تلك الذات التى تستحق الكثير, والتى خُلق الكون من أجلها, ولن يتحقق هذا الوجود للذات سوى بتغيير الباطن
والظاهر معًا, وبالتحرك فى الاتجاهات الإيجابية ليس للأمام فحسب وإنما ارتقاءً إلى الأعلى أيضًا, وهجر الحركة
-الكاذبة- فى اتجاهها للخلف ولأسفل،
فهى الردة الإنسانية والتدنى الحضارى, وبالطبع ترك السكون الخاضع فى المنطقة الصفرية التى لا قيمة لها.
ونستكمل فى القادم إن شاء الله لنبنى أركانًا جديدة فى المصرى الجديد بعد اكتشافه لذاته وإدراكه لإمكاناته فى
التغيير, وعلى الإنسان أن يعيد تقييم ذاته ليرسم بيده ملامحه ليست الشكلية فحسب وإنما الباطنة أيضًا, ويعود كما
كان أجداده الأصل وأصحاب الفعل وليس الشبه والمفعول به!.