محمد نبيل محمد يكتب : لبنة “الحب” ركيزة البناء .. الاستثمار الثقافى وبناء الإنسان (٣)

محمد نبيل محمد
المصرى الجديد هو -ذاته- المسؤول الأول عن التغيير بهدف الارتقاء بمعتقده وفكره وأحاسيسه وسلوكياته للأفضل، ولن يتشكل هذا التغيير إلا اعتمادًا على أهم ركائز البناء فى شخصية المصرى الجديد، تلك اللبنة هى بمثابة الرابط المتشابك بجميع أركان بناء الشخصية الجديدة، لها من التأثير الكامن والظاهر أن تجعل البنيان قويًّا راسخًا وجميلًا بديعًا فى علاقة طردية مع قوة تلك اللبنة ونقائها، ألا وهى (الحب)؛ تلك المشاعر المؤكدة بمعتقد صادق وفكر مستنير ومتحضر، فلن يتمكن الإنسان من إعادة بناء ذاته إلا عندما تتواجد طاقة الحب التى هى مصدر وأساس الحركة والسكون، ودافع كل شعور، ومحرك كل تفكير، وانطلاق كل
سلوك لهذا الإنسان الجديد، ونعود نطرب لنظم إيليا أبو ماضى “إن نفسًا لم يشرق الحب فيها.. هى نفس لم تدر ما
معناها”، فغاية الغايات أن يدرك المرء ذاته وكنه وجوده، وحتى تتولد علاقة حب مع هذه الذات لا بد من مبررات
وأسباب ودوافع تحيط بعقل ووجدان هذا الإنسان وتؤثر عليه إيجابًا بالمضى قدمًا نحو البقاء، والدفاع عن وجود هذه
الذات التى يحبها، والتقارير الإخبارية تسوق كل يوم سيلًا من تدفقاتها الإعلامية على نحو بقاء إنسان ما على قيد
الحياة، حتى أن الكثير من الإجراءات الطبية الإكلينيكية تقف حائرة تبحث عن مبرر بقاء الإنسان الذى فقد -طبيًّا- كل
مقومات البقاء فى الحياة، سوى أنه يملك ذاتًا ما زالت تتشبث بالحياة وتأبى الرحيل، ويسرد الأدب فى رواياته ما
يفوق توقع البقاء فى الحياة؛ ففى سبتمبر من العام 1704 كان أليكساندر سلكيرك -بحارًا- بالقرب من إحدى جزر
تشيلى، حيث تحطم قاربه فى جزيرة جان فرنانديز، وبقى عليها وحيدًا مدة أربع سنوات وأربعة أشهر، وساقت
المصادفة بارجة حربية إنجليزية لتنقذه وتعيده إلى المدينة من جديد، ومن هذه الواقعة كان اقتباس أوليات الروايات
بالأدب الإنجليزى (روبنسون كروزو) لدانيال ديفو سنة 1719، تحكى عن شاب انعزل فى جزيرة وحيدًا لمدة طويلة دون
أن يقابل أحدًا من البشر، ثم بعد عدة سنوات يقابل أحد البدائيين من البشر، ويستطيع استئناسه وتعليمه وتدريبه
على صنوف السلوك الإنسانى، وتعكس الرواية مدى قوة رغبة الإنسان وشدة تمسكه بالحياة، وحتى يبقى، عليه أن
يعيش متحضرًا متمدنًا، رغم بدائية الحياة وفطرتها القاسية التى تتطلب منه -وحده- أن يُعيد تهذيب أشواك تلك الحياة
لتكون فى خدمته وتعينه على البقاء، وربما ليس فحسب البقاء وإنما كان التحدى هو الاستمتاع بالحياة، ولأن
الإنسان المتحضر صاحب الذات المتمدنة لا يستطيع أن يعيش منفردًا بل فى أنس بغيره من الناس؛ هكذا استطاع
المحب للحياة وللآخرين أن يستأنس ببدائيًّا من البشر الأوائل، ويعيد ترتيب فطرته إلى صفاتها الإنسانية، تاركًا عيوبها
المتوحشة حتى يكون له جار يتعايش معه فى حياة أكثر رقيًّا، ومن الرواية عدة أوجه متلألئة، كعادة الإبداع ساحر فى
كل أوجه ماسته الثمينة، ومن وجه ما يتضح أن حب الإنسان لذاته هو ما أبقاه رغم الظروف المستحيلة والمعاندة
للوجود، بل هذا الحب هو ما سعى بصاحبه إلى مصادقة الكائنات من بحار ونباتات وأشجار وحيوانات وأجواء تلتهب
بالحار وتضطرب بالعواصف وترتعد بالرعد، وكل هؤلاء استطاع الإنسان بحبه لذاته ورفضه الاستسلام بالرحيل؛ استطاع
أن يُجمّل بهم حياته، ولم يراهم أسباب فناء لوجوده، بل لأنه بحبه للحياة وإدراكه لمعنى الوجود وحقيقته استطاع أن
يهذب إنسانًا متوحشًا ترك نفسه لوحشية الحياة وغادرته ذاته الإنسانة، ليحل محلها روحًا همجية، ولكن لطبيعة
الإنسان الموجود فى نفس وذات هذا الكائن عاد من جديد إنسانًا حقيقيًّا يحب وجوده ويأنس بغيره!.
وليس هناك أصعب فى المعاناة من بقاء الإنسان -منفردًا- يواجه المحيط به من كل الكائنات، ليثبت لذاته أولًا ولغيره
ثانيًا إنسانيته المتحضرة وروحه المتمدنة، ورغم كل الصعوبات والعوائق بقى الإنسان إنسانًا محبًّا لذاته ومدركًا لحقيقة
وجوده، وهو إعمار الكون بالحب لا بالوحشية!
ونستكمل فى القادم -إن شاء الله- لنبنى أركانًا جديدة فى المصرى الجديد، نكتشف معًا كيف يكون الحب مصدرًا
للتغير وسببًا للبقاء، وعلى الإنسان أن يعيد تقييم ذاته ليرسم بيده ملامحه ليست الشكلية فحسب، وإنما الباطنة
أيضًا، ويعود كما كان أجداده الأصل وأصحاب الفعل، وليس الشبه والمفعول به!.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.