“رصيف رقم واحد “.. قصة قصيرة للأديب محمد الشرقاوي
تطوي الأقدام الأرض طيا قاصدة بوابة الدخول ، الأجواء العامة تعلن أن المحطة ستكون مزدحمة بشدة في هذا اليوم الذي يعلن عن قدوم صيف شديد الحرارة ،
تتجه الجموع نحو ذلك الرصيف الذي يقصده المسافرون إلى عروس البحر الأبيض المتوسط ، تلك المدينة الفريدة صاحبة التاريخ الذي يجمع حضارات عديدة ، إنها الإسكندرية أو عاصمة جمال العالم كما يطلق عليها سكانها وزوارها ، القلوب يملؤها الشغف لرؤية شواطئها الساحرة وأمواجها التي تعزف أجمل الألحان ،
نسمات هوائها القادمة من الشاطئ الآخر والتي تغازل الروح فتمنحها جناحين تحلق بهما في سماء المتعة والشوق ، شوارعها المبتسمة الناطقة بكل صفات الجمال .
على رصيف رقم واحد يقف الأديب د . ربيع شكري ، ينظر تارة نحو القطار الذي أوشك أن يغادر القاهرة متجها نحو الشمال ، ثم يتفحص وجوه القادمين من بعيد لعله يرى الأديبين ،
على وجهه تبدو علامات القلق ، هاتفه لا يفارق يده ، يجري اتصالا تلو الآخر ، يسمعه معظم الواقفين على الرصيف
والصاعدين إلى القطار : أين أنت يا شرقاوي؟ لماذا كل هذا التأخير ؟ وهل اتصلت بالأستاذ ممدوح ؟ هل يعقل ذلك
منكما ؟
يأتيه الرد مطمئنا بعض الشيئ لكنه لا يزال منفعلا ، يعاود الشرقاوي الاتصال بصديقه الأستاذ ممدوح طالبا منه
السرعة لأن التذاكر معه ، على الجانب الآخر يعلن المذيع الداخلي للمحطة بأن القطار سيتحرك خلال دقائق ،
يعيد د. ربيع الاتصال لكن نبرة صوته تزداد حدة وغضبا : سيتحرك القطار ولن نلحق به ، يأتيه الرد من الشرقاوي : لقد
وصل الأستاذ ممدوح ، نحن الآن ننزل من المترو في محطة الشهداء ، ثوان معدودة تفصلنا عنك .
يطلب الشرقاوي من صديقه أن يجري بكل قوته ، يعلن الأستاذ ممدوح ندمه على الاحتفاظ بالتذاكر ، يحاولان معا
اختراق الزحام ، الأجساد متلاصقة ، الناس يسيرون بقوة الدفع ، الرحلة أمل كبير وانجاز ربما تمنع الظروف تكراره ،
يمسك الشرقاوي – بجانب حقيبته – حقيبة أخرى من حقائب صديقه تخفيفا عنه وتشجيعا له حتى يستطيع الجري ،
يحاولان ويحاولان بكل قوتهما ، يرن الهاتف لكن لا وقت ولا استطاعة للرد ، يرن مرة أخرى ، يمتنع الشرقاوي عن الرد
خشية أن يكون الخبر صادما ، يصعدان السلم ويمضيان نحو باب محطة القطار ، كم تمنيا أن يكون الممر فارغا من كل
ما يعيق جريهما ، يدخلان ، يرن الهاتف ويرن ، لم يجد الشرقاوي حلا إلا الرد : لقد وصلنا يا د . ربيع ، نحن نراك من
بعيد ، يصرخ فيهما : هيا ، هيا ، لقد أطلق القطار صافرته .
يقتربان شيئا فشيئا ، أخيرا وبعد عناء شديد وقلق أشد ويأس من إتمام الرحلة ، يصل المتأخران ، يلقيان السلام
على صديقهما لكنه يبادرهما بتوبيخ شديد اللهجة ، يكسو وجهه احمرار شديد ، أما عيناه فتطلقان رصاصات لا تخطأ
يصعد الثلاثة بينما بدأ القطار حركته كطفل يخطو خطواته الأولى ، يمضون في الممر الداخلي للقطار ، يزداد مستوى
السرعة بينما هم يبحثون عن أرقام مقاعدهم
دقائق من البحث يجلسون بعدها لتبدأ عبارات متتالية من الاعتذار يقابلها عبارات من التوبيخ الذي لا يخلو من المحبة
والثقة ،
يتلاشى الغضب والعتاب شيئا فشيئا لتعود ابتسامات الأصدقاء بعد أن تم شرح الأسباب وقبل الأخ الأكبر اعتذار أخويه
، يعود الحديث عن خطة الرحلة ما بين لقاءات ثقافية مع رموز الفكر هناك ، كذلك نزول البحر والتجول في أحياء
المدينة وزيارة الأماكن الساحرة في عاصمة الجمال .