محمد نبيل محمد : مهرجان العلمين… تأملات الثقافة لجغرافيا الوطن..الأمن الثقافى (١٢)
يقول المنطقيون أو المناطقة بأن العلم لاحظ أن كلًّا من التصور والتصديق ينقسم إلى بدهى ومكتسب؛ فالبدهى: هو ما لا يحتاج
إدراكه إلى تأمل، أما المكتسب فهو ما نتأمله بعين اليقين. وما كان حال (العلمين) الآن إلا فرصة للتأمل فى ما صارت إليه دلالات هذا المكان، ومعناه الذى تحول من مجرد مكان إلى تحدٍّ ونموذج أداره المصريون باقتدار.
وكما يقول المناطقة عن المفهوم والماصدق: يطلق لفظ المفهوم ويراد به مجموعة الصفات والخصائص الذهنية التى يثيرها اللفظ فى ذهن السامع والقارئ، أى: هو ما يفهم من اللفظ، أى: معناه.
أما الماصدق: فهو المسميات الخارجية التى يصدق عليها اللفظ، وهى الأشياء التى جاء هذا اللفظ ليسميها.
ومن هنا كانت (العلمين) عند الغالبية تعنى أمرين؛ أحدهما على وجه الخصوص كان يرتبط بمعركة العلمين، وبالتالى لا يأتى ذكرها إلا فى مشاركة قدامى الحرب العالمية الثانية فى تأبين ذكرى زملائهم، وأيضًا فى مطالبة مصر بصفة دائمة مشاركة دول المحور والحلفاء فى تطهير العلمين من حقول الموت أو الألغام. وكلا الأمرين كانا موسميين الاهتمام.. وأيضًا على وجه العموم ما كانت (العلمين) عند عموم المصريين سوى صحراء شاسعة مطلة على البحر وتندر فيها مقومات الحياة من استقرار واستمرار،
هذه كانت مفردة (العلمين) لدى المصريين وغيرهم.
أما ما تبدل إليه الحال -الآن- فهو تغير دلالة اللفظ ومعناه أيضًا. وهنا نعتمد فلسفة التغيير التى مال إليها عموم الفلاسفة وحادوا عن الجمود والتجمد(!) وشخصيًّا أعتقد فى كون التغير والتغيير من سنن الوجود بعكس ما قاله أحد الفلاسفة وأهمهم لدينا -ابن خلدون-: لا جديد تحت الشمس…
فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن مشاركة الفرد فى بناء مجتمعه ضرورة حضارية -كما فى فلسفة (التغيير الاجتماعى) عند مالك بن نبى- إذ يذهب إلى أن إِحداثَ التغيير ضرورى من أجل الارتقاء بمستوى الفرد وبالتالى بمستوى المجتمع، ذلك أن مالك بن نبى يرى أنه: “لكى نبنى مجتمعًا متحضرًا يجب علينا أن نجعل الفرد يؤمن بضرورة المشاركة فى هذا البناء؛ حيث يعمل كل فرد على تحقيق المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة”… وهذا الفعل هو ما قدمته الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية فى (العلمين)، وهنا بيت القصيد، فعندما شارك عموم المصريين فى بناء (العلمين)؛ بات لكل واحد منا قصد فى البناء، وهو الصالح العام لحاضر المصريين ومستقبلهم، وتجلى الفعل الحضارى فى مشاركة الثقافة فى هذا البناء. وفى تصورى هى المشاركة ذات الفاعلية الأعظم لإحداث التغير؛ إذ لا يتطلب الأمر بناء الحجر فحسب، إنما من الأهم -أيضًا- بناء وعى عام لمجموع المصريين بحتمية تغير الحال وتبدل الواقع من مجرد صحراء جرداء -وهى الصفة الدالة على (العلمين)- إلى مقاصد لفرص التحضر المجتمعى والتطور العمرانى والخلق الثرى والخصب لفرص الاستثمار الفردى والجماعى، وبالتالى لن يغير المفهوم سوى الثقافة بأذرعها المتنوعة والمتشابكة، ولن يبدل حال الجمود من السكون إلى الحركة سوى الفنون والآداب اللذين يحكما بناء الوعى والوجدان ويغيرا الفكر من المتجمد المسلم بالأمر الواقع، إلى المتغير الخلاق المبدع لصور المدنية الحديثة، إلى هذا الجانب المادى والملموس من الحضارة التى ينشدها المصريون (مصر الجديدة).
من هنا أضحت مفردة (العلمين) ذات دلالة مغايرة لماضيها حتى عهد قريب -سنوات معدودات- وكان وقع نطق (العلمين) وسمعها بل ومشاهدتها عند المصريين وغيرهم مختلفًا ومغايرًا عما كان بالأمس القريب، فأصبحت (العلمين) عند المناطقة لها من الدلالات والماصدق ما يجعلها خطوة حقيقية على طريق (مصر الجديدة). ومن هذه الدلالات والماصدق؛ أن مصر أثبتت لنفسها أولًا -وللعالم ثانيًا- قدرتها على القيام بفعل التغيير الحضارى بسواعد أبنائها وفكرهم الخلاق وإرادتهم فى تغير حال الصحراء إلى جنة واعدة بمزيد من الفرص.
إن مصر لا تقف عند حد المرثيات والتباكى -كما الآخرين- نحو قضية القضايا (فلسطين)؛ فكما كانت مساعدات مصر تتخطى نسبة السبعين بالمئة من إجمالى مساعدات العالم إلى فلسطين؛ فكذلك وجهت مصر نسبة الستين بالمئة من عوائد فعل التغيير فى (العلمين) لصالح أهالينا فى غزة.
إن مصر أثبتت للعالم أنها ما زالت ثرية بالفنون والآداب، بل وهى المقصد والقبلة كما كانت فى زمن الفن الجميل، لا يشتهر صيت مطرب أو شاعر أو موسيقى أو رسام أو قاص، إلا إذا جاء إلى مصر وتحدث بلهجة أهلها وتغنى وسرد ونظم بها، وهذا ما استعادته مصر فى (العلمين) عندما قدم إليها عموم الفنانين والأدباء من كل فج عميق لتزداد شهرتهم ويذيع صيتهم هنا فى (العلمين).
إن مصر بأهلها قادرة على حشد طاقاتها وإمكاناتها لإحداث الفعل التاريخى فى مرحلة ظن الحاقدون -بل وتمنوا- أن تسكن حركة الوطن وتتوقف صيرورته وتتجمد الصورة ويتخلف الركب…، وعلى العكس انتفض المصريون -بنائون وحكائون- ينحتون فى جغرافيا الحاضر مستقبلًا واعدًا بفرص الاستثمار وعوائد المصالح المشتركة جماعية وفردية هنا فى (العلمين).
إن مصر التى تملك الأذرع المخلصة تستطيع البناء فى ربوع الوطن؛ فما من موقع بالبعيد عن قلب الوطن، فلسان حال المصريين يقول بأن قوة النواة من قوة الأطراف، فحدود مصر جميعها شرقًا آمنة بسواعد العسكريين، وغربها مستثمرة بأذرع البنائين والفنانين والأدباء والاقتصاديين، وجنوبها مصان ونيلها جارٍ، وشمالها معطاء، فلا توقف للحياة كما تمنى الحاقدون. إن مصر بقوتها الناعمة (الثقافة) ما زالت تملك فعل التغير من أجل التحضر والبناء، وتعطى من (العلمين) نموذجًا يصلح أن يحتذى به فى الغردقة والأقصر والوادى الجديد وسيناء؛ فعموم خارطة الوطن تنبت بالخير والنماء أينما توجه المصريون ومتى أرادوا.
إن مصر تعطى نموذجًا فى الإدارة اللامركزية، فتنتقل إدارة الدولة فى يسر وسهولة يتوازيان مع الجدة والحكمة من عاصمة الحكم (القاهرة) إلى العاصمة الجديدة (الإدارية)، وإلى أقصى الشمال الغربى (العلمين)، وبذات القدرة الفاعلة؛ ففى علمَى السياسة والإدارة يصعب بل يستحيل ذلك الفعل إلا عند الدول ذات القدرة على الفعل، ولربما أشار هذا لقدرة الدولة على إدارة شؤونها من أى موقع، وإن كان جنوبًا عند خط ٢٢ أو شرقًا فى عمق سيناء المقدسة.
ان مصر مفعمة بالبهجة وتعيش اجواء السعادة وليس أدل على ذلك إلا بحضور العشرات من الالاف من الأسر المصرية والعربية ايضا للحفلات الفنية والمسابقات الرياضية واللقاءات الثقافية بمدينة (العلمين) وهنا يجب ان تراعى منظمة السعادة المسؤلة عن قياسات السعادة لدى الشعوب وترتيب الدول كما صنف تقرير السعادة العالمي لسنة 2019، والصادر عن شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، 156 دولة وفقا لدرجات حققتها بين 2016 و2018، تتعلق بنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، والرعاية الاجتماعية، ومتوسط الأعمار، والحريات الاجتماعية، وغياب الفساد، وجودة الصحة والتعليم، وسوق العمل وكانت فنلندا الاولى وبوروندى الاخيرة، واتوقع بعد مهرجان (العلمين) فى دورته الثانية ان يتقدم بترتيب مصر عالميا لمقدمته فى قياسات السعادة.
إن مصر تملك صورة هى أصل وطبيعة المصريين تتفرد بها عمن سواها، وهى أننا المصريون جميعنا نملك هذه الأرض كما نملك حرية الانتقال فى ربوعها، فكان فى المشهد (العلمين) التنوع الديموجرافى من فئات عمرية متنوعة، ومثلها من مستويات اقتصادية مختلفة، وأيضًا من تناغم فى تواجد القيادات السياسية والتنفيذية والنيابية وغيرهم جنبًا إلى جنب فى المشهد مع عموم المصريين، فكانت صورة الحاضر دلالة على مستقبل واعد لهذا الشعب ولهذه الأرض (مصر)… ما أعظمك من وطن.