” وقائع قتل المواطن محمد عبد النبى ” قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام
إذا ذكر أمامك أسم ( محمد عبد النبى ) فأول ما يتبادر إلى ذهنك ، أنه أسم فنان ، أو لاعب كرة ، وبعد قليل من التفكير تكتشف عدم وجود أى من المشاهير بهذا الأسم ، أنه مواطن مصرى ، مثل ملايين المواطنين الذين يعيشون فى بر المحروسة ، ممكن أن تلتقيه فى الشارع أو على مقهى أو فى أى وسيلة مواصلات ، لكنك لن تعيره أهتمامك ثم تنتقل إلى وجه آخر ثم الذى يليه ، حتى تعود إلى بيتك ، وتستعيد بعض الأحداث ، مثل كلامك مع نادل القهوة ، بائع البرتقال ، سائق الحافلة ،
لكنك إذا تعرفت على محمد عبد النبى الفلاح المصرى البسيط ، زوج روحية عبد الحفيظ ، ووالد كل من احمد ومصطفى وبهية ، وجار شيخ الغفر عبد التواب شديد ، الكائن بمحافظة المنوفية بدلتا مصر المحروسة ، ويملك بعض القراريط يزرعها قمح ، أختلط لون بشرته السمراء بطين هذا الوطن
أحلامه بسيطة كحياته ، ينام قرير العين كل ليلة بعد يوم عمل شاق ، فوق فرن الخبيز حيث الدفء فى ليالى الشتاء الباردة ، ويعتلى سطح الدار يبحث عن نسمة هواء فى ليالى الصيف القائظه ، يفرش جوال التبن بجوار أعواد القطن اليابسة ، يتمدد .. ينظر إلى السماء.. يتابع ضوء القمر وتلألأ النجوم ، والشهب التى تشق السماء بحثاً عن الجن الذى أخترق السمع كما قال الشيخ عتمان إمام مسجد القرية بخطبة الجمعة ، وينتظر صياح الديك وشقشقة الفجر ، ليوقظ زوجته روحية ليذهبا مع أخيه للغيط ،
أنتهى محمد من وجبة العشاء مع أولاده وزوجته ، أفرغت روحية ما تبقى من الجبن الحادق فى بلاص المش ، ولملمت كِسَرّ الخبز الجاف ، ووضعته فى أناء به ماء لتطعم به الدجاج ، همت بعمل كوب من الشاى لزوجها ، لكنه طلب منها أن تتبعه بكوب الشاى إلى سطح الدار ، لعله يطفئ لهيب هذا الطقس الحار ببعض النسمات الليلية ،
تكسرت أعواد الحطب تحت قدميه وهو يسير عليها محدثة أصوات متتابعة ، سار حتى وجد بقعة على السطح مفروشة بشوال من التبن ، جلس عليها ، وأشعل سيجارة ملفوفة من تبغ أشتراه عندما سافر إلى شبين الكوم ليبتاع أجولة السماد لمحصول القمح ،
ناولته روحية كوب الشاى وجلست بجانبه ، لاحظت شروده وهو ينظر نحو السماء وينفث دخان التبغ فى الهواء ،
درجات الحرارة فى الصباح لا تطاق ، وشمس أغسطس لاترحم ولا تغادر ظهر الفلاح طوال أنحناءه ليزرع أرضه ، لكن شيئاً آخر كان يشغل تفكير محمد أكثر من حرارة الصيف ومن كثرة مصاريف اولاده .. ولا من مطاردة العمدة أحمد بك حشمت له وللفلاحين ، طلب من زوجته ان تنزل لتنام مع الأولاد وتتركه ينام فوق السطح ،
فى معسكر للجيش الأنجليزى يبعد عن بيت المزارع محمد عبد النبى بضع كيلومترات ، كانت الدنيا تتهيأ لاستقبال
حدث درامى محبوك العقدة يلاقى فيه البطل التراجيدى مأساته ،
عند شاطئ النيل الغربى ، قرر الميجور كلهان أن يعسكر بالكتيبة ، لينالوا بعض الراحة قبل أستكمال رحلتهم نحو
الأسكندرية ، أقترب منه الكابتن رالف ، وأخبره بأن هناك قرية تبعد أقل من عشرة كيلو مترات ، تعج سماءها بالحمام
البرى ، بات الميجور كالهان والكابتن رالف ومعهم بعض الضباط الأخرين يعدون أنفسهم لرحلة صيد فى الصباح ،
أحتسو الخمر نخب مغامرتهم ، وأعدوا البنادق والخرطوش للصيد ،
فى الصباح مع نسمات الفجر الأولى نهض محمد من فوق جوال التبن وأنزلق نحو الدار هابطاً على سلم خشبى
متهالك ، أستيقظت روحية فى أثره وجهزت له ماء الوضوء ، ووقف بين يدى الله يصلى الفجر ويقرأ ما تيسر من القرأن
الكريم ، بعد ان فرغ من الصلاة أحضرت له روحية كسرة من خبز الذرة وقليل من المش وبعض أعواد الجعضيد ،أكل
وشرب ، ثم ركب الحمارة ، وروحية خلفه ، مر على دار أخوه وجداه قد سبقهم إلى الجرن ،
تزود الميجور كلهان بأدوات الصيد وبعض زجاجات الخمر وتقدم موكب الضباط الذاهبين لقنص الحمام ، كان فى
صحبتهم طبيباً بيطرياً حذرهم من حرارة الشمس التى وصلت لاثنين وأربعين ، وطلب منهم أتقاء الشمس ، ولبس
القبعات وشرب الماء بشكل مستمر ،
جلست روحية على النورج الذى يقوده شقيق زوجها لتدرس القمح ، ووقف على بعد محمد يجمع القمح المدروس
فى أكوام كثيرة ، تجمع الحمام الذى يحوم فى المنطقة على أكوام القمح ليأكل ،
وصل الضباط الأنجليز إلى أطراف القرية الهادئة الوادعة التى تعج بأسراب الحمام المعشش فى الأبراج التى بناها
الفلاحين وسط أراضيهم الزراعية ، أنهك الضباط حر أغسطس جلسوا على بعض أمتار تحت شجرة جميز عتيقة بجوار
ساقية مهجورة على أطراف القرية ، يشربون الماء ويحتسون بعض كؤوس الخمر ،
كان الحمام يطير فى أسراب على شكل دوائر كبيرة ثم يحط على أكوام القمح يلتقط منها ما يستطيع .
تقدم أحد الضباط الأنجليز وأطلق بندقيته الخرطوش نحو أحد أسراب الحمام التى تعلوه ، سخر منه زملاءه حين لم
يصيب أى منها ، أشار عليهم الأمباشى المرافق لهم من قَبَلّ البوليس المصرى ، لتسهيل مهمتهم بالدخول إلى
القرية بالذهاب أولاً للعمده أحمد بك حشمت ، لم ينتظر الضباط الأنجليز المرور على بيت العمدة للاستئذان وأنهمكوا
فى صيد الحمام .
عندما وصلوا إلى أطراف جرن محمد عبد النبى ، كان هو وزوجته وشقيقه منهمكين فى العمل تحت وطأة الشمس
الملتهبة ، سال لعاب الضباط الأنجليز على سرب الحمام الذى هبط على أكوام القمح فى الجرن ، أطلق أحدهم
خرطوش نحو الحمام فأشتعلت النيران فى الجرن ، حاول محمد وشقيقه والأمباشى التابع للبوليس المصرى أبعادهم
عن الصيد فى الجرن ، لكنهم أصروا بعنجهية وتكبر على أستكمال الصيد ، زادت النيران أشتعالاً ،
تعالت صرخات روحية مستنجدة بأهل القرية لأطفاء النيران ، تجمع كثير من الفلاحين وعلى رأسهم شيخ البلد ،
أطلق ضابط آخر خرطوش فأصاب روحية فى قدمها ، جن جنون محمد ، فأشتبك مع الضابط الأنجليزى محاولاً نزع
البندقية من يديه حتى لا يصيب بها أحداً آخر ، أثناء جذب محمد البندقية من يد الضابط الانجليزى خرجت طلقة أصابت
شيخ البلد ، أختلط الحابل بالنابل ورفع الفلاحون العصى والفؤوس مهددين الضباط الأنجليز ، ومطالبين بتسليمهم
البنادق وتسليم الضباط الأنجليز إلى البوليس ، سيطر الزعر على الموقف وأصاب الخوف أحد الضباط فهرب وهو يركض
نحو معسكر الكتيبة الذى يبعد عشرة كيلومترات عن القرية ، لم يتوقف عن الجرى حتى أصابته ضربة شمس أودت
بحياته ،
فى تلك الأثناء تفاوض الميجور رالف والعمدة أحمد بك حشمت مع الفلاحين وأتفقا معهم على تسليم البنادق فى
مقابل أطلاق سراحهم ،
المفارقة التى تستحق التأمل ، أن يدا كانت تستعد لأطلاق النار على الحمام بينما يد آخرى تربيه وتطعمه وتسقيه ،
وحين أطلق الضباط الأنجليز النار فأشعلت النار بالجرن ، كان محمد يأمل فى بيع المحصول والأستعداد لزراعة
المحصول الجديد ، وأن الوافد الأنجليزى أصابته اللوثة بسبب الخمر ففر هارباً يركض لمسافة كبيرة فى درجة حرارة
٤٢ درجة مئوية ، بينما محمد أصيب ليلة الحادث بضيق فى الصدر يستشعره قلب المؤمن إذا أحس بدنو الأجل مما
دفعه لقضاء ليلته فوق سطح الدار ، وأن القرية التى كانت وادعة مطمئنة أصبحت تستعد لأستقبال حدث هو من أكثر
الأحداث التى مرت على مصر وجسدت أقسى مراحل الظلم فى تاريخها أبان الأحتلال الأنجليزى للمحروسة ، كما
تجلت ، صور الخيانة والغدر جنباً إلى جنب بجوار صور القسوة والذل والهوان والقتل بأسم القانون ، خرج أهل قرية
دنشواى ليشهدوا محاكمة أكثر من خمسين رجلاً من رجال القرية بتهمة قتل ضابط أنجليزى والأعتداء على ضباط
آخرين ،
والمفارقة العبثية أن تقرير الطب الشرعى الأنجليزى أكد موت الضابط بضربة شمس ، كما شهد بذلك أيضاً الطبيب
البيطرى الذى كان معهم فى رحلة الصيد ، كان محمد عبد النبى صاحب الجرن المحروق وزوج الزوجة المصابة بطلق
خرطوش خرج من بندقية الضابط الأنجليزى ليصيب قدمها ، متهماً هو وزوجته بإثارة الأهالى للأعتداء على الضباط مما
تسبب فى هروب الضابط وموته وأصابة الضباط الأخرون والأستيلاء على أسلحتهم ،
أمام مبنى محافظة المنوفية بشبين الكوم ، أقيم سرادق كبير ينتهى بساحة مفتوحة لتنفيذ الحكم الذى وقع على
الرجال مسبقاً قبل المحاكمة ذاتها ، ومما يدمى القلب ومن مصائب الدهر التى أبتليت بها مصر فى ذلك الوقت إبان
الأحتلال الأنجليزى ، ( وحتى الأن ) مجموعة من الخونة ، كانوا على أستعداد تام لبيع ضمائرهم ودينهم وأخرتهم
بمناصب دنيوية على حساب أرواح بعض أفراد الشعب البسطاء ، رغم أمتلاك هؤلاء الخونة للجاه والمال ، لكنهم
طمعوا فى المزيد على حساب دماء المصريين ، مجاملة وتملق للمحتل الغاصب ،
تكونت المحكمة برئاسة بطرس غالى الذى سيصبح بعد ذلك وزيراً للحقانية ثم رئيساً لوزراء مصر حتى أغتياله ،
وعضوية أحمد سعد زغلول أخو الزعيم الوطنى سعد زغلول الذى كان يأمل أن يصبح وكيلاً لوزارة الحقانية ( يخلق من
ضهر العالم فاسد ) ، وعضوية رئيس محكمة القاهرة الأبتدائية ، أما المدعى العام الذى أطلق عليه المصريون أسم
جلاد دنشواى كان المحامى زرب اللسان ، قوى الحجة ، محقق البراهين ، حاوى قلب الحقائق وأخفاء الحق وأظهار
الباطل ، فكان أحمد الهلباوى ، وعضوية اللورد كرومر الذى جسد الأحتلال الأنجليزى فى أبشع صوره ، تفاني أعضاء
المحكمة المصريين فى ألصاق التهم بالرجال ، وتباروا فى أثبات الأدلة وقلب الحقائق ، والفلاحين خلف القضبان لا
يدرون من أمرهم شئ ولا يعرفون أى ذنب جنوه ، ونسائهم وأطفالهم أعتلوا اسطح البيوت المحيطة بالمحكمة
يصرخون ويولولون ،
حكمت المحكمة بإعدام محمد عبد النبى ومعه خمسة فلاحين أحدهم تخطى السبعين ، وجلد الأخرين ،
كان المشهد جارحاً للكبرياء الوطنى ، المحتل الغاصب يقيم محكمة صورية ويصدر حكم الأعدام بأيد مصرية خائنة ،
كلها ذهبت بعد ذلك إلى مزبلة التاريخ ، لكن التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى مرات ومرات ، والخيانة والتدليس
والمجاملة على حساب البسطاء مازالت تدور فى الأفلاك وتتوقف عند وطننا العزيز ،
قتل محمد عبد النبى شنقاً ومعه خمسة أخرين ، جاءوا إلى الدنيا عراة وعاشوا يلتمسون الستر وقتلوا على يد
أشخاص فى سبيل التطلع إلى المناصب وجمع الثروات ، ظلت جثة محمد عبد النبى معلقة فى الهواء لمدة طويلة
تدور حول نفسها فى عرض خسيس ودنئ تضامن فيه محتل ظالم مع مصرى خائن ،
وكم فى المحروسة من عجائب على مر التاريخ منذ شكوى الفلاح الفصيح مروراً بحادث دنشواى حتى الأن
، دنشواى القرية الفقيرة البسيطة الوادعة ، صاحبة أبراج الحمام الأشهر فى بر مصر دخلت التاريخ من أوسع أبوابه ،
لكنها دخلته من باب الظلم والخيانة والتدليس .