محمد نبيل محمد يكتب : الأمن الثقافى (١١)..ثقافة الانتصار وسايكس- بيكو الرياضة

باستمرار قراءة المسكوت عنه فى مشاهد دورة أوليمبياد باريس ٢٠٢٤؛ تبين لنا كيف خدعت أمريكا -ودول الغرب من بعدها- العالم كله، وبالأخص شعوب العوالم النامية والمتحررة حديثًا -شكلًا- وروجت لنفسها فوزًا زائفًا بحصد ميداليات الذهب فى أوليمبياد باريس ٢٠٢٤، وكذلك إنجلترا وتابعتها تحت التاج البريطانى أستراليا وشقيقتها كندا والدولة المنظمة فرنسا، وكيف سعت تلك الدول لاستمرار احتلال أفريقيا وآسيا وتوزيع ثرواتهم البشرية كما حدث -سابقًا- فى مقدراتهم ومواردهم، ولا مانع من وجوه سمراء وصفراء مجنسة تحت العلم الأمريكى أو الإنجليزى أو الفرنسى، ما دام سيظل يرفرف بغض النظر عن هوية صناع هذا النصر (الزائف).
كما تبين -أيضًا- الترويج بالإمكانات الهائلة للدول الاستعمارية فى النهوض بالرياضة والرياضيين فى دولهم دون غيرهم، مما يزيد هوة الفجوة بين رياضيها الأفارقة والآسيويين الأصل وإخوانهم الذين ما زالوا متمسكين بجنسياتهم وأعراقهم، ولا مانع من تأجيج الشعور بالغربة والعزلة والإهمال وغيرها من القيم السلبية التى تشتت صفوف الشعوب وتمزق وحدة الأمم.
وقد يقول أحدهم إنه لا تمييز فى الرياضة، وهذا قول حق أريد به باطل، والرد الطبيعى هنا؛ هو لماذا إذن سعت اللجنة المنظمة من استبعاد البعثة الرسمية للاتحاد السوفيتى -القديم- روسيا حاليًا، وهى المنافس الأشرس فى حصد الذهب الأوليمبي أمام أمريكا وحلفائها، فكانت الفرصة فى استبعادها لتظل السيادة الرياضية لأمريكا وقدامى أعضاء سايكس- بيكو، وكانت الحجة فى أنها دولة معتدية، وهنا؛ ألم تكن إسرائيل المشاركة ب ٨٧ رياضى هى الأخرى دولة -من وجهة نظر الغرب- ومن جانبنا هى كيان لا تتوافر فيه عناصر الدولة بالمفهوم الجيوبوليتيكي، كما قال أحد المؤرخين اليهود الأوائل: “إن الأمم كانت إمبراطوريات وإمارات متعارف على حدودها وشعوبها عدا اليهود كانوا شتات”
وهو يوسيفوس فلافيوس أو يوسيپوس أو باسمه العبرى الأصلى يوسف بن ماتيتياهو (38- 100 للميلاد)؛ كان أديبًا مؤرخًا وعسكريًّا يهوديًّا، عاش في القرن الأول للميلاد واشتهر بكتبه عن التمرد اليهودى على الإمبراطورية الرومانية.
إلا أنه فى الحقيقة يعد خائنًا؛ إذ قرر يوسفوس الاستسلام أمام الجنود الرومان، وعندما هرب يوسفوس ورجاله واختبؤوا في مغارة، قرر رجال يوسفوس أن يقتل بعضهم بعضًا كي لا يسقطوا فى أيادى الجنود الرومان، أما يوسفوس فبقى الأخير مع رجل آخر، وندم الاثنان على فكرة الانتحار وسلما نفسيهما للرومان، وتعاون يوسفوس مع الرومان بعد استسلامه وساءت سمعته لدى اليهود وأخذ البعض يعدونه خائنًا.
نجا يوسفوس من الإعدام بعد أسره بفضل الصداقة التى نشأت بينه وبين قائد القوات الرومان، فسبازيان الذي أصبح قيصرًا لاحقًا. كذلك تعاون يوسفوس مع الرومان تعاونًا كاملًا وساعدهم في قمع التمرد في 69 للميلاد. وأُطلِق سراح يوسفوس، وفي 71 ميلادية وصل إلى روما وأصبح مواطنًا رومانيًّا. بموجب القانون الروماني تبنى يوسفوس اسم عائلة وليه فسبازيان (مَن حرره من الأسر): تيتوس فلاڤيوس؛ حيث كان اسمه الرسمى فى روما: تيتوس فلاڤيوس يوسيپوس، ومن مؤلفاته كتابان؛ الأول: تاريخ حرب يهودا ضد الرومان، والثانى: عاديات يهودا…
ونعود إلى السؤال البديهى؛ ألم تكن هى الأخرى دولة معتدية على أصحاب أرض بهدف الإبادة العرقية وسلب الأرض ليكتمل للكيان صفة الدولة، والأدهى هو السماح لبعض الرياضيين بالمشاركة تحت اسم الوفود اللاجئة، كما كانت مشاركة رياضى روسيا باسم رياضيين محايدين تحت علم محايد بعدد ٣١ رياضيًّا(!)
تخيل عزيزى القارئ روسيا وبيلا روسيا وريثتا الاتحاد السوفييتى وهو الآخر استمرار للقيصرية الروسية أصحاب الجنس القوقازى الثابت والنابت من الجبل الأسود حتى حد سيبريا الشرقى -المتجمد- هذه دول تتقاسم اليابسة منذ عدة مئات من السنون وأصبح واقع مشاركتها أنها ليس لها علم(!) وببضع أنفار من الرياضيين، فى حين تنافس أمريكا ب ٥٩٤ رياضيًّا، وفرنسا المضيفة ب ٥٧٢ رياضيًّا، وثالثتهما أستراليا المضيفة التالية ب ٤٦٠ رياضيًّا. ونستكمل باقى أعضاء نادى الاحتلال العالمى ومن دول المحور كإيطاليا ٣٨٠ رياضيًّا، وألمانيا ب ٤٢٧ رياضيًّا، واليابان ب ٤١٠ رياضيين، أما بريطانيا العظمى ٣٢٧، والتى تشارك بمستعمراتها بعدد أضعاف هذا الرقم، وطبعًا كلهم من الملونين وأصحاب الأرض الأصليين الذين كان كلاهما من المنبوذين والمضطهدين تحت رايات التطهير العرقى للأصليين المحليين والإنسانية المتدنية للملونين (من يريد الاستزادة فليرجع إلى بدايات الأوليمبياد).
ومن باب المفاخرة بالعدالة المخادعة لا مانع من مشاركة بلاعب واحد يرفع علم بلاده صاحبة المشاركة الرسمية مثل دول الصومال وبيليز وناورو وليختنشتاين(!)
أما فلسطين تشارك ب ٨ رياضيين، وفريق اللاجئين الأوليمبي بعدد ٣٧ لاعبًا، أيها الخجل أين حمرتك(؟!)
نعود لثقافة المشاركة التى روجت لها أدبيات النظم والنثر ودراما وفنون وإعلام الحداثة والذى يطلق زغاريد الفرح بمجرد المشاركة، قد تكون تلك هى جل أهداف شعوب لم تعتَد الانتصار، ولم يتنامى فى ثقافتها الشعبية قيم الحرية والكرامة والولاء والانتماء بل والتضحية من أجل حرية العلم، هذه الشعوب ونحن المصريين نموذجها الأوحد والذى تربى فيه المرأة وليدها على أن الأرض هى شرفه وعرضه وأن حرية العلم هى كرامة رأسه وكبريائه، وأنه لا مانع لديها أن يعود وليدها مخضب بدماء النصر ملتحف بعلم العزة ما دام الشرف مصان والعلم حر(!)
هذه بمنتهى البساطة تركيبة ثقافة الانتصار المصرية، والتى سردتها لى البطلة البارليمبية “رحمة خالد” أول مذيعة مصابة بـ”متلازمة داون”٬ وهو الحلم الذي سعت إليه منذ الثامنة من عمرها٬ وهى حاصدة ذهب بكين فى السباحة ٢٠٠٩، علمتنى هذه الطفلة البطلة درسًا لن أنساه عن ثقافة الانتصار وأصالة تلك الثقافة فى تاريخ المصريين وواقعهم؛ فقد قالت: “أبى من رجال القوات المسلحة، وكنت أغار من حكايات أمى عن أبطال أكتوبر الذين ضحوا بأرواحهم نظير الأرض والعلم، وكذلك عندما شاهدت أبطالًا يُستشهدون فى سيناء أيضًا من أجل حرية الأرض والعلم، وهنا أردت أن أرفع علم مصر. رغم كونى من ذوى الاحتياجات إلا أن رؤيتى لعلم مصر يُرفع وأولا وقبل بقية العلمين الآخرين للمركزين الثانى والثالث؛ كان هذا هو هدفى وتلك معركتى التى سوف أحكيها لأولادى عن علم بلادى الذى لم أتوقف عند التمثيل المشرف أو مجرد المشاركة، بل السبق فى أن يكون علم مصر هو الأول فى سماء النصر”.
هذه هى وبمنتهى البساطة ثقافة الانتصار المتوارثة من أصولنا إلى فروعنا، تصنع نجمًا يملك ثقافة الانتصار وليس المشاركة والتمثيل المشرف أو غيره(!).