عبد الناصر البنا يكتب : هموم وطن .. تبطين الترع !!

عبد الناصر البنا

فى أغانى كتيرة فى تراثنا الغنائى ” زى يامقبل يوم وليله ـ محلاها عيشه الفلاح .. وغيرها ” لما تسمعها تعيد لك ذكريات أيام جميلة ، خاصة للناس إللى إتولدت فى الريف سواء فى صعيد مصر ودلتاها ، وغيرهم من الناس إللى يقٌدروا ويعرفوا الحياة فى الريف ، وسط الخضرة والميه وجناين المانجه والعنب والرمان .. وغيرها من خيرات ربنا .

وأعتقد أنه حتى من إختار منهم العيش فى المدينة أو السفر للخارج تلاقى عنده حنين لحياة الريف

، وتلاقيه كلما سمحت له الظروف يقتطع من وقته أيام يروًح فيها عن نفسه وسط أهله وأصدقاءه

وزيرا كان أم خفيرا ، وأنا واحد من هؤلاء الناس أعشق حياة الريف البسيطه ، واتحين الفرص لأعيش الحياة كما

وهبتها لنا الطبيعة فى صعيد مصر ، وأعتقد أن ” العودة إلى الطبيعة ” أصبح نمط جديد للحياه تطبقه بعض الدول ،

وحتى فى مصر هناك فنادق بيئية فى واحة سيوه .. وغيرها تعتمد على نمط حياة بعيد كل البعد عن المدنية

بحداثتها وتلوثها .

وحتى لا أطيل فى زيارتى الأخيرة لمسقط رأسى فى صعيد مصر ، كانت ” المنجه ” هى كل مايشغل تفكيرى وأنا

من الناسكين فى محراب هذه الفاكهة الجميلة التى أعتبرها ” مخدر مباح ” ، وكل أمنيتى فى الحياة عندما أتقاعد

أن أعيش بقية عمرى تحت شجر المنجه ، لكن يبدو أن الرياح تأتى أحيانا بما لايشتهى السفن ” الملاح ” ، وقد زحف

العمران بكل مافيه من قبح على الريف ، وحلت الكتل الخرسانية محل الطوب اللبن ، وأصبحت هى نمط العمران

السائد ، حتى فى البيوت وسط المزارع ، ناهيك عن أطباق الدش والإنترنت والسايبر وشاشات العرض العملاقه حتى

اصبح المزارع يسهر حتى الساعات الأولى من الصباح ، يتابع الـ show time وكأس السوبر الأوربى والدورى الانجليزى

، وأعتقد أن الشىء الوحيد الباقى من الهوية والتراث هو ” الزى الصعيدى ” المميز وبقايا من الكرم والعيب والشرف

والأخلاق .. وغيرها من العادات والتقاليد .

طوال رحلة العودة إلى الجزور كانت تداعب خيالى ذكريات الطفولة بكل مافيها من عبث وشقاوة ، وقد إعتدت وقتها

على قضاء فترة الأجازات الصيفية عند خالتى أو عماتى ، وكانت فرصة للإفلات من الأوامر والنواهى الصارمة خاصة

تلك المتعلقة بعدم الإستحمام فى الترع التى هى دوما سبب العقاب ، وهاهى الفرصة قد جاءت على طبق من

ذهب للإفلات والانطلاق للعوم فى النيل لساعات طويلة ، بعيدا عن تلك الأوامر والنواهى ، ويكتمل اليوم بالتسكع

وسط جناين المانجو التى إستوت وتساقطت حباتها على الأرض ، بخلاف ذكريات أخرى تتعلق بالأكل الصعيدى

المسبك الذى يسيل له اللعاب بكل انواعه ، وللصعيد فى الأكل مشارب ، حتى الخبز أو العيش قيلت فيه الحكم

والأمثال ، وله أنواعه مابين ” شمسى ويقال له الرغفان ، وشريك أو فايش ويسمى أيضا منون ، وفطير مشلتت ،

ومصبوبه ، وفطير لمرق البط واللحمة الضانى ، وبتاو ، ومرحرح ، وقرص ، وأنواع تانيه كثيره يمكن عوامل الزمن

نستهالى .

داعبت تلك الأحلام خيالى طوال الطريق ، مرحبا بكم فى ” نجع حمادى ” ها نحن وصلنا إلى المركز الذى تلقيت

دراستى الثانوية فيه أحد مراكز محافظه قنا ، وهنا قرية هٌو مسقط رأسى ، لبست الجلابيه البلدى ، وقصدت زيارة

بيت خالتى ” رحمها الله ” ، وكانت قد إعتادت على إستقبالنا بما لذ وطاب ، وأعتقد أنها كانت لو تطول تجيب لنا حته

من السماء مكانتش هتتأخر ، الجميل أنه حتى لو تغير المكان والزمان ، إلا أن الحنين للماضى يجعلك تبحث عن أى

خيط يعيد لك ولو ذكرى من تلك الأيام الخوالى ، مباشرة قصدت البيت القديم المقام على حافة الترعة وسط المزارع

كونه مبنى بالطوب اللبن ، وفيه أغلب الذكريات ، وأنا كم كنت أستمتع برائحة شجر الكافور وهو يحترق معبئأ جنبات

المكان !!

دلفت من كوبرى صغير على المصرف أو السيالة التى تفصل بين البيت ، وقد ظننت للوهلة الأولى أننى تهت ، عن

المكان ، فأنا لم أجد أشجار المانجو التى كنا نستظل تحتها أمام البيت ، ووجدتها أرضا بورا .. والله فزعت ، ياحاج سيد

.. ناديت بأعلى صوتى ، وديتو الشجر فين ؟ ، على وقع الصوت خرج الحاج مهللا ومرحبا بإبن الخاله ، وهو يحاول أن

يسحبنى إلى داخل البيت ، لكنى تسمرت فى مكانى ، وقلت : عاوز أعرف شجر المانجه راح فين وفين الدكك إللى

كنا نقعد نتسامر عليها للساعات الأولى من الصباح ، ضحك ضحكة مشروخه من تأثير الدخان الذى لايفارقه ، وكانت

ممزوجة بالمرارة ، وأشار إلى الدبش الذى يبطن الترعة وقال : المقاول منه لله ، خلانا قطعنا كل الشجر ، وأشار بيده

وعلى إمتداد البصر على يمين الترعه ويسارها وقد أصبحت الأرض بورا .

طب إحكى لى إيه إللى حصل ؟ . بمراره أشار بيده مرة أخرى وقال : زى مانت شايف الدولة بطنت الترع ، وإللى أنا

مش فاهمه مين إللى أشار لهم بالشورى المهببه دى ؟ ومين قال لهم يعملوا كده ، وإيه فايدته ، كده كده بيبيعوا لنا

الميه ، أرضنا أرض سوده يعنى أرض شبعانه ميه ، ونسبة التسريب فيها قليلة أو قول معدومه موضوع التبطين دا

ينفع فى الأرض الرملة ، الرملة هى إللى الميه بتتسرب منها ، لكن تقول لمين ، وتفهم مين ؛ اهى فلوس وبتترمى

فى الأرض ، قلت له ياحاج سيد إهدى إحنا مش ح نفهم أكتر من الحكومة .

أنا كل همى عاوز أعرف إيه دخل دا بشجر المنجه إللى انا جاى مخصوص علشانه ، الشجر دا .. راح فين ؟ قال لى :

منهم لله المشرفين الزراعيين وبتوع الجمعية الزراعية نبهوا على كل المزارعين يشيلوا الشجر إللى فى الطريق

حوالين الترع والمصارف ، علشان الجرارات المحمله الدبش والأسمنت تعرف تعدى ، واجبرونا على قطعها وإللى مش

هيلتزم هيتغرم ، والنتيجة أهى زى مانت شايف خربوا بيوت الناس ، هنعمل إيه قطعنا كل الشجر إللى فى طريقهم

.. وحسبى الله ونعم الوكيل .

طيب سلام عليكو ياحاج سيد أصل الجبانه مش ناقصة قتلا ، يمين تلاته بالله ، قلت يمين على يمينك مانا قاعد

ولاداخل ، أنا جيت أسلم ووراى مشاوير كتيره ، إبقى إزرع غيرهم ويدينا ويديك العمر ربنا ، كتر الكلام زى قلته !!

لكن على قدر حزنى على شجر المانجو الجميل ، بقى كلام الحاج سيد يرن فى ودانى وشاغل تفكيرى لفترة طويلة

، صحيح فى فاقد كتير فى المياة والدولة فى الفترة الأخيرة عملت مشاريع كتيره للحفاظ على الميه ؛ خاصه فى ظل

الشح المائى إللى بنعانى منه ، وبتعانى منه دول كثيره .

أيوه الدولة عملت نظام للصرف المغطى ، وإستحدثت وسائل حديثة للرى بهدف توفير المياه والتقليل من الرى بالغمر

، وإستحدثت أنواع زراعات أقل إستهلاكا للمياه ، دا بخلاف معالجة مياه الصرف وإستخدامها فى بعض أنواع من

الزراعات ، وتحلية مياه البحر .. وغيرها .

لكن موضوع تبطين الترع خاصة فى الأماكن اللى الحاج سيد شايف أنها أقل تسريبا للمياه أو الأراضى الطينيه ، هل

تم أخذ راى المزارعين فيها ، وكما يقول المثل : أهل مكه أدرى بشعابها ، ولا الموضوع جاء هوب ياجدع يالا يارجاله

إقطع ودبش ياجدع ، وهل العائد من التبطين يساوى الخراب إللى حصل وتبوير مساحات لابأس بها من أجود الأراضى

الزراعية ، ونحن فى أمس الحاجة لكل شبر من هذه الأراضى ، أنا بس بأفكر مع الحاج سيد بصوت عالى ..

عموما عوضنا على الله ، فقط أناشد كل أصدقائى من مزارعى المانجو أرجوكم أن تراعوا الحالة النفسية التى أمر بها

، وتجودوا علينا بما من الله به عليكم ، خشية أن بيتليكم كما إبتلى أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ..

وإنتو عارفين بقية القصة كما وردت فى صورة القلم .. ويجعله عامر !!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.