لا ينكر عاقل صدق المقدس من الكتب السماوية وآخرهم القرآن الكريم حيث ذكرت فيه تلك المفردات الثلاثة (مكة والمدينة ومصر)، ولكل واحدة منهن دلالة ومعنى واحد لم يتغير بتغير الزمان، بل وكل واحدة منهن لها صفة الديمومة إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها. فالأولى؛ مكة: وهى البلد الأمين، وبكة، وأم القرى، وهى محل البيت العتيق. والثانية؛ كانت المدينة: هى مقصد هجرة حضرة سيدنا النبى صلى الله عليه وسلم وبارك، وأما الثالثة؛ فكانت مصر: هذه المفردة السياسية لدولة بالمفهوم السياسى والاجتماعى الكاملين الشاملين، وهى الدولة الوحيدة التى ذكرت فى القرآن كتاب المسلمين، وفى العهدين القديم والجديد -بالترتيب الزمنى التصاعدي- لشريعتي اليهودية والمسيحية.
ويتفق الجميع -أيضًا- أن القرى والمدن والبلدان كافة، بل والحضارات التى ذُكرت فى الكتب المقدسة الثلاثة لم يتبق منها إلا رواية النص المقدس عنها، وهنا يجب الوقوف أمام القاسم المشترك بين المفردات الثلاثة الدالة على مكة والمدينة ومصر، فهى فى القرآن منذ الأزل وإلى الأبد، ومن هنا جاء حفظها كحفظ الذكر الحكيم، ما هذا التكريم الذى حظيت به مصر لتكون ثالث ثلاثة أولها مكة أحب أرض الله إلى قلب النبى محمد صلى الله عليه وسلم وبارك، والتى قال حضرته فيها ما يعلمنا كيف يكون من الدين حب الوطن، والثانية هى المدينة التى هى أحب أرض الله إلى الله تعالى، والتى كانت هجرة النبى صلى الله عليه وسلم إليها نوعًا من الترضية والتسرية على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم كان حضرته ينظر فى سجوده إلى بلده مكة حتى أرضاه الله تعالى وأنزل فى قرآنه أمر بتحويل القبلة إلى مكة. هكذا يعلمنا رسول الله كيف يكون حب الوطن، وإن كان المرء منا فى أحب أرض الله إلى الله تعالى، وهكذا كانت مصر معبر الأنبياء والمرسلين، بل وموضع المقام والتنشئة والتربية لعدد من رسل الله وأنبيائه عليهم وعلى سيدنا محمد الصلاة والسلام، ومنها كانت زوج أبو الأنبياء أمنا السيدة هاجر أم إسماعيل أبو العرب، ومنها كانت أم المؤمنين السيدة ماريا أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله.
وعندما بدأت رحلة الحج من المدينة مقر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مَن علمنا الطريق إلى الله، وإلى
المحطة الثانية؛ مكة، حيث شعائر الحج من طواف القدوم بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، إلى منى، ثم عرفات،
فالمزدلفة، ثم منى يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة، فطواف الوداع لمكة، إيذانًا بانتهاء شعائر الحج، ثم العودة للمدينة
لتحية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى علمنا كيف نعبد الله تعالى. وهنا كان يشق على النفس فراق بيت الله
الحرام، وكان الحديث الدائر بين النفس والبيت تعلقًا بالعودة، وكان الرجاء إلى الله تعالى ألا يكون هذا آخر عهد لنا
بمكة أحب أرض الله إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وربما كانت التسرية على النفس وما هدأ من لوعة
فراق مكة هو الانتقال إلى أحب أرض الله إلى الله، وهى المدينة؛ حيث الأنس بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعضًا من الزمن، ومهما طال الزمن فى المدينة ظل بعضًا من الوقت، يمر سريعًا. هكذا فى جوار الأحباب يتبخر الوقت
فلا تشعر به، وكأنها كانت لحظات وليست أيام، وتأتى لوعة الفراق على النفس من جديد، ولكن الحال للمصريين هنا
يختلف، ويتبقى المصرى كما هى حالته الاستثنائية؛ فكما يشعر بمصريته عند الصفا والمروة وعندما يشرب زمزم،
فهو هنا أيضًا يحظى ببعض التهدئة للنفس، فهو عائد إلى موطن الأم الكبرى لرسول الله وأيضًا لزوجته وابنه صلى الله
عليه وسلم وآله، كما فى مصر مقام الحفيدين السيدة زينب وسيدنا الحسين رضى الله عن آل البيت، والكثير من
مقامات الصحابة والتابعين والأولياء الصالحين، من أسوان إلى الإسكندرية، حتى أن فى المنيا بقيع يشبه بقيع
المدينة.
ويلملم المرء نفسه التى خارت قواها وذابت عشقًا فى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم عائدًا إلى مصر التى
أوصى بها رسول الله خيرًا، وقال عن جندها خير أجناد الأرض، وعن أهلها: إننا فى رباط إلى يوم الدين.
هذا كله يعطى بعضًا من قوة تمكنا من فراق المدينة إلى الوطن (مصر)، الذى علمنا رسولنا الكريم صلى الله عليه
وسلم كيف نحبه، وأن حبه عبادة، بل ومَن مات دونه فهو شهيد.
كما أن القران لم يخبرنا بان الله تعالى قد تجلى فى عليائه على أرض من خلقه سوى أرض مصر ، وسبحانه وتعالى
جمع فى قسمه بين البلد الأمين وطور سيناء وأقسم بأرض سيناء وجبالها ووديانها بل وشجرها وثمارها من تين
وزيتون ، وبارك عموم مصر بالأمن بأن قال : (ادخُلوا مِصرَ إِن شاءَ اللَّـهُ آمِنينَ) (آيه ٩٩ سورة يوسف)
وتبقى بقاء القرآن محفوظة البلدان الثلاثة (مكة والمدينة ومصر).
كما فى الآية ٩ من سورة الحجر صدق الله العظيم إذ يقول: ( إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ).