محمد نبيل محمد يكتب : زمزم والنيل أسفار الحج (٦)
ما زلنا فى رحاب البيت الحرام الذى يملك من الأسرار ما يأسر الألباب ويخطف الأبصار، وتهوى إليه الأفئدة، ما من أحد نزل ضيف عليه إلا ونال بنهم من كرمه الفياض، وجاد البيت -أيضًا- على ضيفه بأمر الله، وكل مَن هنا فى محيط البيت قد نالوا من الفيوضات والفتوحات والقربات والقبول للدعوات ما بين الرجاء والإلحاح فيه طلبًا للمغفرة عما يعلمه الضيف ويستره المضيف، وكذلك طمعًا فى الرحمات التى تشمل حال الدنيا والآخرة، ويتبدل حال الضيوف فى البيت ما بين الطمع فى العفو والكرم الإلهى وما بين الخوف من عقابه وعذابه، إلى أن ينتهى بك الأمر إلى التسليم بكونك ضيف الله، ويتملكك اليقين بكون المضيف أكرم من أن يعذب أو يعاقب ضيوفه، فلا تصل بقلبك هنا إلا لمبتغى واحد ووحيد؛ وهو أنك تنتظر كرم المضيف الذى أتيت إلى بيته بعد جهد جهيد يختلف ويتنوع فى صوره وأشكاله ما بين مادية وبدنية وغيرهما، إلا أن هناك أمرًا يسعى الضيف إليه سعيًا ربما ليكافئ نفسه به، ورغم أن هذا المسعى ليس من أركان الحج أو العمرة إلا أن الضيف يتلهف عليه مرات ومرات، وهو الشرب من ماء بئر زمزم حتى التضلع بنوايا الشفاء والقبول، وأسرار أخرى للضيف يعلمها المضيف، وما زلت تستشعر استثناء يخصك أنت وحدك ألا وهو؛ وكما كان السعى بين الصفا والمروة فعلًا جهيدًا لأمّنا هاجر المصرية، كذلك كانت زمزم مياه دعت بها ورجتها من الله تعالى أمنا هاجر لتلبى حاجة وليدها إسماعيل عليه السلام -أبو العرب- وتروى ظمأه، فهى مَن قالت بعد سعيها السابع من الصفا إلى المروة: “إنى أسمع صوتك فأغثنى إن كان معك خير”، وكان هو جبريل عليه السلام الذى نزل بأمر الله ليضرب الأرض بعقبه ليخرج ماء آية للناس بعد توسل سيدتنا هاجر وسعيها بين الجبلين، وهى مَن أخذت تحيط بالرمل حول الماء خشية التسرب فى الصحراء وتقول بالسريانية: “زم زم”، ومن هنا كانت تسمية البئر من لسان أمنا هاجر.
وهذه البئر التى تضخ تقريبًا ثمانية عشر لترًا من المياه فى الثانية، وتمدها روافد كثيرة لم يكتشف العلماء أسرارها، وهى على مسافة ٢١ مترًا شرقي البيت، ويصل عُمقها نحو ٣٠ مترًا، وتصبُّ فيها عدد من عيون الماء قديمة قِدم البئر نفسها، التى ترجع إلى ألفين عام قبل الميلاد.
و الأحاديث النبوية فى مائها المبارك كثيرة، وأن فيه شفاء البدنية والروحية، ولبئر زمزم ومائها أسماء عديدة، ففي لسان العرب لابن منظور الذى نقل عن ابن بري اثنا عشر اسمًا لزمزم، فكانت: «زَمْزَمُ، مَكْتُومَةُ، مَضْنُونَةُ، شُباعَةُ، سُقْيا الرَّواءُ، رَكْضَةُ جبريل، هَزْمَةُ جبريل، شِفاء سُقْمٍ، طَعامُ طُعْمٍ، حَفيرة عبد المطلب».
وذكر ياقوت الحموي أسماء أخرى لزمزم في معجم البلدان: «ولها أسماء وهي: زمزم، وزَمَمُ، وزُمّزْمُ، وزُمازمُ، وركضة جبرائيل، وهزمة جبرائيل، وهزمة الملك، والهزمة، والركضة بمعنى المنخفض من الأرض، والغمزة بالعقب في الأرض يقال لها: هزمة -وهي سُقيا الله لإسماعيل عليه السلام، والشباعة، وشُبَاعةُ، وبرَة، ومضنونة، وتكتمُ، وشفاءُ سُقم، وطعامُ طعم، وشراب الأبرار، وطعام الأبرار، وطيبة».
إلا انه لم يبق من الأسماء إلا (زمزم) الاسم الذى اسمته سيدتنا هاجر (زهرة اللوتس) المصرية وبنت النيل ..
وهنا وأنت تتأمل زمزم تكتشف تشابهًا إلى حد بعيد مع نيل مصر الذى جاءت فى شأنه أحاديث نبوية عديدة كلها تذهب إلى كونه نهرًا يجرى من السماء من عند سدرة المنتهى، وكم هو مبارك هذا النيل، وكم كان ذا كرم على المصريين وغيرهم؛ فمنه كانت قافلة المدد والغوث للمدينة فى عام العسرة التى كان أولها فى المدينة وآخرها فى مصر. كذلك يروى التاريخ عن نيل مصر ما مفاده مباركة الله تعالى لهذا النيل، والأقرب فى ذلك “بطاقة عمر بن الخطاب أو رسالته التى كتبها إلى نيل مصر مباشرة من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: “إذا كنت تجرى من عندك فلا حاجة لنا منك، وإن كنت تجرى من عند الله فسر ببركة الله”. وكانت تلك الرسالة عندما بعث إليه عمرو بن العاص عن حكى أهل مصر أنهم فى اليوم الاثنى عشر من بؤنة يرسلون إلى النيل أجمل فتياتهم. وانتهت هذه الأسطورة عند هذا الحد من الحكى(!).
إنما القصد كان فى مباركة مياه بئر زمزم وأيضًا مياه النيل، وما يستشعره المصرى عندما يرتشف من زمزم ومن النيل؛ فكلاهما قيل عنهما إنهما يجريان من عند الله.
وتلك خصوصية أخرى للمصريين هنا فى مكة المكرمة، ولنا حديث قادم إن شاء الله عن أسفار الحج.