محمد نبيل محمد يكتب : رحلة الحج فى لغتنا الحصينة ( أسفار الحج ٤ )
ادعى المستعمر التحضر ونادى بحق الشعوب فى تقرير مصائرها، وما زال يسعى لاحتلال العقول، وظلت اللهجة المصرية تتحدى مناوراته وتكتيكاته المعادية.
ولولا أبطال وبطلات صانوا لهجتنا المصرية؛ لما تنعمنا بلذة العبادة، ولا استشعرنا روحانيات افتقدها غير الناطقين بالعربية فى البيت العتيق.
… فى رحلة الحج أو القصد إلى بيت الله الحرام آيات عدة تتكشف أمام البصيرة -لمن أراد- بمجرد الولوج بالروح إلى دوائر الروحانيات الرحبة، التى تتسع لتشمل دلالات لجملة إشكاليات كنا نعتقدها بلا حلول، أو نتصورها مُسلمات يجب التسليم بوجودها دون تفنيد لأسباب وجودها فى حياتنا، وربما احتلت مساحة شاسعة الأبعاد فى تاريخنا المعاصر القريب. من الوهلة الأولى لتحسس قدمك إلى الأرض المباركة، واتساع حدقة العين لترتوى ببهاء المنظر الروحانى، وانغماس النفس فى ملذات النعم ما بين ترف الاختيار بين الصلاة الواجبة والفائتة وسننها ونوافلها، أوالترتيل لآيات الكتاب، أو الدعاء للنفس والغير من الأحباب وغيرهم الذين صاروا هنا من زمرة الأحباب!، أو التسبيح بما فتح الله على مخ العباد، أو الاستغفار عن ذنوب وخطايا وآثام ومعاصٍ يعلمها صاحبها ويخفيها المضيف!، أو النظر فحسب إلى البيت العتيق. ومن بين الاختيار من تلك النعم المتاحة كلها تجد تواصلًا مرغوبًا بينك وبين جيرانك من الضيوف، ويكون السؤال الاستفتاحى لبدء علاقة جيرة أو زمالة فى البيت هو: “من أى بلد أنت؟” والعجيب أن هذا الاستفسار يكون دائرًا بين حتى الناطقين بالعربية أوالعربية المُحرفة، وليس فحسب عند أصحاب الألسن السواحيلى أو الأردى أو لغات البنجاب أو غيرها.. وهنا يتبادر إلى الذهن إذا كان من الطبيعى للآسياويين التحدث باللغات الساكنة ما بين الصينية والكورية واليابانية إلى الأردية والهندية، لماذا لا يتحدث الأفارقة لغتهم السواحيلية؟ ولماذا يتجاوبون الحوار بالفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية وربما البرتغالية؟! والأعجب أن من بين هؤلاء الأفارقة تجد التوانسة والجزائريين والموريتانيين والمغاربة الأشقاء فى العربية ينطقون الفرنسية الطليقة والعربية بلسان أعجمى، فلا تتمكن حتى من إتمام حوار واضح الأركان جلِى المعاني حول موضوع بعينه إلا إذا كنت ممن يجيدون الفرنسية! نعم الفرنسية هنا فى الحرم ومع أشقاء العروبة، ناهيك عن حوارات تفرض وجودها مثل قضايا العروبة والوحدة وغيرهما بحوار مصرى –مغربى فرنسى، هنا الفاجعة الكبرى؛ إذ تنحل عقد الطلاسم للباحثين عن السبب الرئيس لعدم توحد الكتلة العربية، ويظهر بوضوح مسئول التعليم بالمستعمرات الفرنسية جورج هاردى، الذى أسس لتكون اللغة الفرنسية هى الرسمية الحكومية بدواوين الباى فى تونس والداى فى الجزائر والمولى بالمغرب وموريتانيا، فلن تستطيع إتمام مصالحك إلا بالتحدث بالفرنسية، فكان من المحتم تعليم الفرنسية بالمدارس الحكومية والأهلية فى النصف الشمالى الغربى من إفريقيا، وتحققت استراتيجية الهيمنة الثقافية لهاردى: “إن اللغة الفَرنسية هي سلاح المعركة، ولربح الرهان لا بد من حسن استعمال هذا السلاح، حتى ولو تطلَّب الأمر اقتلاع الشعوب والأمم من امتدادها الحضاري”. وكما جاء فى آراء الباحث المغربى سلمان بوعمان والكاتب محمد عابد الجابرى: “قبل 1944 لم يكن هناك أى اهتمام باللغة العربية، فقد كانت ممنوعةً أو شبه ممنوعة إلا ما كان مِن بعض الدروس الدينية فى مدارس الأعيان، أما بعد 1944؛ فقد تم تخصيص 10 ساعات للغة العربية، مقابل 20 ساعة للفَرنسية، وفى الابتدائى ظلَّت حصص العربية هزيلةً مملة، غير خاضعة لأى توجيه أو مراقبة، فقد كانت طرق التلقين تقليدية، وكان الأساتذة ضعفاء، وفى الثانويات اعتُبِرت اللغة العربية لُغة ثانية، أما فى “الليسيات” -التى كانت مدار النخبة بعد أن تم السماح بعد 1944 للمغاربة بولوجها- فقد كانت العربية مادةً مهملة، مادتها قصص خرافية وحكايات تشوه المغرب وتاريخه”. ولم يختلف الحال عندما تتحدث إلى أبناء الشام؛ إذ لا تستغرب أن تكون المفردات العربية محشورة حشرًا مفتعلًا بين ثنايا الجمل الفرنسية الطويلة، ربما ذرًّا للرماد!، وليس الحال بالأفضل مع الأخوة الأفارقة؛ فجميعهم لا ينطقون سوى الفرنسية أو الإنجليزية ولا وجود لأية مفردة عربية على الإطلاق، وعندما تتحدث للهنود والباكستان والأندونيس تدرك مباشرة مستوياتهم التعليمية وانتماءاتهم الطبقية بمجرد أن يبدأ حديثه بالإنجليزية؛ فهى لغة الصفوة فى بلادهم التى احتلها الإنجليز قرونًا من الزمان، هكذا كانت أهداف الاستعمار احتلال المستقبل، فرغم ادعاء التحضر والجلاء تحت شعار حق الشعوب فى تقرير مصائرها لم يكن سوى جلاء واهٍ، شكليًّا، فما زالت العقول تفكر باللغة التى تنطق بها، وتلك أعظم حواجز وموانع الوحدة العربية. وداخل صحن البيت العربى العتيق لا تجد سوى المصريين يتحدثون لهجتهم المصرية التى صانت العربية من الانحدار والتعجم والاضمحلال والاندثار حتى تكون من اللغات المهجورة كما خطط أمثال جورج هاردى عندما احتلوا العرب. وهنا تبادر للذهن مباشرة مساعى بنت البادية ملك حفنى ناصف عندما تحدت الاحتلال البريطانى لمصر، وأصرت على تعليم الفتيات باللغة العربية داخل جدران المدارس الحكومية، مما تسبب فى فصلها عن عملها –تعسفيًّا–
ما أجمل تاريخنا الذى صان حاضرنا ومستقبلنا، فكنا فى أرض البيت العتيق ننعم ونتلذذ بعبادتنا لربنا بالعربية، ونستشعر روحانيات حُرم منها مَن لا يفهمون العربية، لغة القرآن، سلامًا على الأبطال والبطلات الذين حافظوا لنا على لهجتنا المصرية ولساننا العربى من بطش حضارة زائفة استراتيجيتها -عوضًا عن الاحتلال العسكرى- الهيمنة الثقافية، التى لو صحت لحُرمنا من لذة العبادة، نعم، المصرى هو الوحيد الناطق بطلاقة العربية، وربما له وحده تكون خطبة عرفات، فجميع مَن يشاركونا الجوار من آسيا وإفريقيا وأوروبا وغيرهم لا يفهمون إلا باللغات الناطقين بها، فهم فحسب ينتظرون انتهاء الخطيب من أداء خطبته، وعند سماع الأذان يصطف الجمع على اختلافه، وعند تلاوة القرآن ينصت الحشد لأنهم يقرأون القرآن ولا يفهمون العربية. وهنا هل من الممكن أن تتبنى مصر برامج يتم تحميلها على المحمول لترجمة خطبة عرفات لكلٍّ حسب لغته؟! وما أكثر الرعاة المتهافتون على أرباح الدعاية فى هذا الشأن!.
والأمر الثانى وهو من الحق والواجب ذكره، وهو مجاملة البعض من ضيوف البيت للمصريين ببعض الكلمات بمجرد علمهم بمصريتنا، وكان الاسم القرين بمصر هنا فى صحن الكعبة على ألسن أصحاب الوجوه السمراء والصفراء والقوقازية والبيضاء و… هى “مصر الأزهر الشريف”، فكل قادتهم ورموز شعوبهم وعمومهم تتلمذوا فى أزهرنا (… آه لو نعلم مكانته فى قلوبهم أو قل على رؤوسهم)، وأيضًا كانت الجملة الأشهر “تحيا مصر” تصحبها ابتسامات النصر والمودة والعرفان للمصريين بقوتهم فى الحفاظ على أرضهم وحاضرهم وسلامهم.. تلك من أجمل وأقوى عناصر القوة الناعمة التى ما زالت مصر تتقوى بها، وهى اعتراف الآخرين لنا بإرادتنا الصلبة فى الحفاظ على بقائنا!.