عند البيت عبادة التأمل ترتقى بالروح والعقل.. وأمام العلم تحنى الهامات لأبطال ما زالت أرواحهم بيننا.
.. أحب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وطنه وهدانا إلى البيت، ومن الواجب علينا اتباعه فى حب الوطن كما فى التعبد بالبيت العتيق.
وهنا فحسب وأمام البيت العتيق، عبادة يتفرد بها البيت ويختص بها ضيوفه، وهى مجرد النظر إليه فحسب، وأمام بيت الله الحرام تأخذك التأملات إلى رحلات بالروح تارة، وأخرى بالعقل نحو مسافات قريبة وبعيدة، وإلى أزمنة قديمة وقادمة، ويعج الصمت بحوارات تتواصل لتتصل، وبعضها لينقطع، لتبدأ حوارات أخرى بعناوين متباينة، ولا يمكنك كبح جماح تلك المناقشات التى قد تكون نشاطًا عقليًّا مجردًا، وربما تغوص حواراتك إلى أعماق نفسك تصحح تشوهات حادثة بصراحة لم تعهدها مع ذاتك من قبل، وتتكشف أمام الروح مجالات اللاممكن أو الذى كنت تظنه مستحيلًا ليكون واقعًا ممكنًا، ولا مانع من أن تتبع روحك فى أسفارها بين الزمان والمكان وبين الخلائق؛ لتسبر أغوار الحقائق التى قد تكون هنا –أمام البيت– من المنح الربانية، والعطايا الكريمة، والفتوحات العظيمة، وبمثابة نفحات تفتح لك مغاليق الأسرار، وليست بالضرورة جدليات الفلسفة أو ماهيات الكون وغيبيات السماء؛ بل قد تصل بك إلى حلول لمعضلات كنت تظن فك شفراتها محالًا، فتتصالح مع نفسك أولًا، وذاك أول الغيث، أن تروض تلك النفس وتُعيد تصنيفها، وتُرقى مراتبها ما بين النفس اللوامة إلى المطمئنة، وهنا تكتشف جمال الحياة وسرها فى كونك إنسانًا خُلقت لك الدنيا لتنعم بها ولتتعايش فى أنس وألفة مع مَن حولك ممن هم فى دوائر علاقاتك بأكملهم، بل قد تتخطى تلك الدوائر المحدودة لتجود بمشاعر إنسانية حقيقية من التعاطف والتراحم بمَن هم ليسوا على أطراف علاقاتك الأسرية، وجيرانك، وأصدقائك، وزملائك، وشركائك فى الوطن، إلى علاقات تراحم بمَن سبقوك وتركوا الدنيا، وبمَن سيأتون من بعدك.. تلك حالات الصفاء مع الآخر التى تكتشفها أثناء تأملاتك أمام البيت ذي المهابة والجلال، وتنتهى بك التأملات أو قل تبدأ معك فى حالات الرضا بالحال والطموح للارتقاء والوصول، وحالات التوافق مع الآخرين بل والتواد معهم وتمنى الخير لهم. ما أجملها عبادة تلك التأملات أمام هذا البيت القديم، الأول. وما أن تخرج من صحن البيت وأنت فى تلك الحالة السامية إذ تُدهشك تأملات أخرى، ولِمَ لا وقد اعتدت عبادة التأمل ونلت منها قسطًا من الراحة ونصيبًا من الخلاص، وربما كانت هى الأدهش والأجمل معًا، تلك البنايات التى تناطح السحاب من نُزل الضيافة التى تتجاوز الخمسين طابقًا تزدان بطولها وعرضها براية هى الأغلى على الإطلاق فى قلوب كل المصريين السابقين والقادمين، هو علم مصر. وبمجرد خروجك بالجسد من صحن البيت الذى تترك فيه روحًا محلقة وعقلًا عاملًا بما خُلق من أجله، تجدها أمامك تحلق حول هذا العلم الذى يترجم دلالة مباشرة على وجود البعثة المصرية للحج، والتى نالت الحظ الأوفر من نسبة عدد الحجاج لأسباب عدة: أولها عشق المصريين للبيت الحرام، وفى ذلك هم سواء ما بين فقير وغنى، ومعافى وسقيم، وشيخ وعجوز ورجل وامرأة وشاب وطفل، كلنا فى العشق الإلهى متنافسون، فضلًا عن تعاظم نصيب نسبة المصريين أمام الشعوب المجاورة إقليميًّا أو المتباعدة عالميًّا، وإذا شئت تحدث عن مكانة مصر بين الدول الإسلامية التى تزيد من حصتها فى عدد الحجاج، وغير ذلك كثير. وتعود إلى راية المصريين تجدها تثير الفخر وتدعو إلى العزة، ذاك العلم الذى صانت حريته الطليقة فى سماء الكون دماء زكية قيل عنها على لسان السيد الأعظم (محمد) عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: إنهم خير أجناد الأرض،
نعم هذا العلم كناية عن وجود خير أجناد الأرض على مر زمان الأرض وتجاور مساحاتها، مما يجعل الحاج المصرى فى
حالة من التباهى والتفاخر بين وفود العالم بجند بلاده… تتأمل الحال فى شوارع أم القرى تجد عشقًا لهذا العلم لا
يضاهيه عند الآخرين عشق؛ فربما تجد رايات على استحياء منزوية، وأخرى متقزمة وبمساحات متضائلة وغير لائقة
-بالنسبة لمعتقداتنا تجاه علمنا-، وتجد ذاك العقل الذى ما زال منشغلًا بعمله، تتداعى أمامه كل صور التضحيات من
المصريين من أجل ذاك العلم، ويتجول بك إلى أزهى أركان البيوت المصرية فى النجوع والكفور والبوادى والسواحل
والحضر، تلك البيوت كلها يأخذك العقل إلى زواياها المجيدة؛
فتجد صورة لشهيد مع رفقاء السلاح على جبهة الشرف، وتارة تنظر إلى برواز قديم –أصيل– يحتضن شهادة من
القوات المسلحة أو الشرطة بعظيم تضحيات وبطولات أب أو أخ أو ابن لذاك البيت، وتفخر إذ ترى براءة لنوط الشجاعة
أو الواجب وغيرهما إلى براءة ميداليات الشرف ووسام الجمهورية ونجمة سيناء. تلك النفائس تزدان بها جدران البيت
المصرى، وتُعد صكوك ملكية لهذا الوطن ولذاك العلم الذى دائمًا ما يعود يرفرف، كما جاء فى نبوءة الشهيد صلاح عبد
الصبور الذى مات ليس فى ساحات المعارك، بل هائمًا بذاك العلم غيورًا عليه والذى أبرق رسالته إلى أول جندى رفع
العلم: تراك ذكرتنى وذكرت أمثالى من الفانين والبسطاء.. وكان عذابهم هو حب هذا العلم الهائم فى الأنواء.. وقد
وقفت على قدمين.. لترفع فى المدى علمًا”…
وما كان ذاك العلم ليرفرف بحرية وسلام خارج الحد الجغرافى لمصر إلا بتضحيات رجال، فثمن تلك الرفرفة غالٍ لمَن
يعلمون. كما ناجاه أحمد عبد المعطى حجازى فى خالدته (العلم الذى عاد يرفرف): “واصطفى المجد أجملهم، واهبًا
لك أرواحهم يا علمُ.. لقد قسموا فيك أنفسهم.. جسدًا ضاربًا جذره فى الرمال.. وروحًا مرفرفة فى القمم”.
تلك أناشيد الوطن لذاك العلم، وتلك تأملات الروح والعقل ما بين البيت والراية، وكلاهما نجود فداء لهما بالروح والغالى
والنفيس، ولكليهما النظر والتأمل غذاء للروح وصفاء للذهن، حتى تتمكن من الحكم ببصيرة نافذة على ما يجول
بداخلك وما يدور حولك من أكاذيب ترتدى عباءة التدين وزى الوطنية. وإذا كان النظر إلى الكعبة عبادة..
أليس فى وجوب اتباع سنة مَن هدانا وأرشدنا إلى الكعبة فى عشق الأوطان ورفع راياتها عاليًا حرة آمنة. لحضرتك منا
المصريين الصلاة والسلام، ولمصر منك سيدى السلام. وبقىَ البيت مهابًا ما بقيَت الراية عالية، كما ذكر الأمان لهما
معًا دون غيرهما فى الكتب المقدسة والقرآن الكريم: “البلد الأمين” مكة البيت الحرام، و بالنسبة لمصر دون غيرها
من الأمم والدول: “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين”، ودام للبيت ولمصر الأمن من الله.