محمد نبيل محمد يكتب : فراق المدينة إلى وطن رسول الله ..أسفار الحج (2)
مشاعر متداخلة، متوهجة، ما بين حنان الدفء ولوعة الشوق، تتملكك وأنت ذاهب إلى زيارة حضرة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فما بين الفخر والتواضع مساحات نفسية تتنقل بينها، فتارة فخور ومتباهٍ باصطفاء الله لك بزيارة حبيبه، فذاك شرف لا يضاهيه مثيل، والأرض تعج بغيرك بأكثر من ستة مليارات من البشر، وما بين التواضع والخشوع فى حضرة السيد الذى أمرنا الله بألا نرفع أصواتنا عنده وأن نتأدب فى حضرته، ولم تكن تلك فحسب مشاعرك، بل ما بين الطمع والإيثار أيضًا تذهب وتجىء مرارًا مع عقلك فى حوارات؛ أولها: الرغبة العارمة فى إشباع الروح –التى لا تقنع ولا تشبع– بتلك الروحانيات الغالية والعالية من مجاورة حبيب الله، وكأنك تأبى -جسدًا وروحًا- مفارقة الروضة الشريفة، إلا أن تفارق الروح بنيانها إلى بارئها، وأنت على تلك الحالة الهائمة فى عشق إلهى، وتارة تجد فى آداب الاتباع لهذا السيد أن تحب لغيرك ما تحبه لنفسك، وهنا عليك التحلى بالإيثار، ولكن هل فى هذا الموضع تستطيع أن تمسك بتلابيب نفسك وتروض تلك الحاجة الملحة فى النهم لأقصى طاقاتك من ذاك الموضع الشريف، وعليك أن تسمح بفرصة لغيرك –كما منحك إياها مَن سبقك- ليروى بالجوار تشققات الروح الغائرة، وتطيب بالقرب جروح البعاد، نعم، عليك هنا التراحم للآخرين كما رُحمت نفسك وشُفيت روحك وربما كل سقمك، وهنا تتداعى على أسماعك آيات “قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله”، فتجد نفسك فى عون أخ أو شاب أو طفل أو شيخ هرم تسانده حتى تُسلمه موضع قدمك فى الروضة الشريفة، عله ينال حاجاته، وربما كان فى مسلكك هذا إرضاء لصاحب الروضة، فتنال مبتغاك فى المكوث وتحظى برضاه فى الفراق، وأنت تفارق الآن من مدينة رسول الله إلى موطن رسول الله –مكة– أحب بلاد الله إلى قلبه صلى الله عليه وسلم؛ لتقيم ركنًا أصيلًا من أركان الإسلام، أتذكر مقولة عالم العصر الإمام الشعراوى الذى قال: من الأدب أن تستأذن قبل حجك ممن هداك إلى حجك -صلى الله عليه وسلم-، فكان ذاك مسلك معظم الزوار من المصريين لحبهم الجم لمَن هداهم إلى أركان إسلامهم. وما أن تأسرك لوعات الفراق لمدينة رسول الله تجد ضالتك التى تطفئ لظى الشوق عندما تستشعر أنك ذاهب إلى أحب بلاد الأرض لقلب حبيبك، وأنك ذاهب لتلبى كما لبى الإمام الأول والرسول المُتبع، فما عليك هنا إلا التسليم لأوامر الله ونواهيه، وذاك كُنه الإسلام.
وفى الطريق إلى مكة من المدينة تستحضر أمرًا جللًا وهو هذا البيت العتيق الذى أراده أحد الخائنين بمكر الخيانة بالهدم، إذ دل أول الخائنين أبى رغال جيش أبرهة الأشرم على طريق مكة لهدم البيت وإجبار العرب والعجم على القصد والحج إلى كعبة أبرهة المسماه “فاليس”، وما كان لأبرهة وجيشه إلا الموت بأصغر أسلحة السماء وأضعفها على الإطلاق استحقارًا بجبروت أبرهة، أما مهانة وذل الخيانة لا يموتا أبدًا؛ فقد لحقا بأبى رغال حتى قيام الساعة، ليكون فى ذل الخيانة درسًا وعبرةً لمَن خان وطنه. وما أشبه مكة الحبيبة إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصر موطن الصهر والنسب ومنشأ الأم الأولى لسيدنا صلى الله عليه وسلم، هاجر المصرية زوجة أبى الأنبياء وأم الذبيح الأول إسماعيل الذى فداه الله بكبش عظيم كما فدى والد محمد الذى كان قد وهبه عبدالمطلب للبيت عند مولد أبيه عبدالله، ولما رأى جلال الطفل الوليد والد سيدنا، فداه عبد المطلب بمئة من الإبل عوضًا عن نذره، ومصر منها أم المؤمنين السيدة ماريا أم إبراهيم وليد سيدنا عليه الصلاة والسلام وآله، ومصر المفردة السياسية الوحيدة الدالة على دولة بمعناها الحقيقى فى القرآن، وما زالت باقية بقاء حفظ الله لكتابه. والمصريون هم مَن استوصى رسول الله بهم خيرًا.. ما كل هذا الاصطفاء لمصر أرضًا وشعبًا من الله فى كتبه ومن رسوله فى نسبه ودعائه وبشاراته! وهذا الوزير مؤيد الدين أبو طالب بن العلقمى الذى خان وطنه وأمير المؤمنين المستعصم، ومالأ هولاكو وأوشى بقومه للأعداء التتار؛ فأذله الله على يد سيده هولاكو حتى مرّت به امرأة وهو متخفٍ وخائف، راكبًا حمارًا ويرتدى الخيش بعد الحرير، فقالت له مستهزءة: “يا ابن العلقمى أهكذا كان يعاملونك بنو العباس؟!”
ولم يكن وليم جويس ذاك البريطانى الذى خان وطنه وظل يبث بالإنجليزية من ألمانيا رسائل الخوف والهلع للبريطايين حتى يستسلموا لأعدائهم الألمان وتُحتل بلادهم حتى قُبض عليه وأُعدم، ولم يقل هتلر فى حقه سوى أن أشار إلى جوبلز وزير دعايته متسائلًا عندما علم بخبر إعدام عميله الخائن: “هل تدرى مَن هم أحقر الناس؟ وأجاب عن سؤاله بنفسه: هم مَن خانوا أوطانهم ليُسهلوا لنا احتلالها!”.
وكذلك فعل خاير بك عندما خان طومان باى للعثمانيين، وأسماه المصريون (خاين بك)…
تلك رسائل تداعت عند فراقى للمدينة إلى مكة التى علمنا سيدنا صلى الله عليه وسلم من خلال ولائه لها وارتباطه وشغفه بها كيف يكون حب الأوطان، حتى كانت مكة -وطنه- نصب عينيه وفى دعاء سجوده صلى الله عليه وسلم.