” فتحات القفص ” .. قصة قصيرة الإعلامي محمود عبد السلام
أخيراً توقفت أنفاسه اللاهثة ، ودخلته لحظة موته ، هدأ الكون من حوله ، وتجملت السماء بنجوم لامعة تضوى أشعة منسوجة بخيوط من حرير فضية مائلة للزرقة
ورف عصفور ملون على غصن الشجرة الجدباء ، يغنى أغنية عن العمر إذا طال والعمر إذا قَصُرّ ، فى البعيد البعيد غابة كثيفة الأشجار ، يجرى فى وسطها نهر من حليب وعسل ، يلمع النهر فى النهار ويعكس ضوءاً باليل ، وتسير الحياة فى تفاهم وتناغم ،
كل من فى الغابة يعمل ويعرف ماله وما عليه ، والخير وفير ، وكنت وأخوتى نلهو ونقفز من شجرة إلى شجرة ومن غصن الى غصن ومن زهرة إلى زهرة ،
ألوان الريش الزاهية كانت تثير فى نفسى الأحساس بالزهو والأفتخار ، لم أكن أدرى أن نفس هذه الألوان هى التى دفعت الصياد فى أحد النهارات ، حين فاجأنى وأنا مرتكن على جذع شجرة بشباكه تلتف حولى ،
حاولت التملص من بين الثقوب الضيقة فتعثرت بين الخيوط المنسوجة بدقة وأحكام ، نظرات عينه وهو يمسك بى أثارت فى نفسى الرعب ، تلقفتنى يداه ووضعتنى فى قفص به ماء وطعام ، وسار بى فى دروب الغابة وأنا أنظر من فتحات القفص مستوحداً ومستوحشاً وأنا أودع غابتى وشجرى وأخوتى وأصدقائى ونسمات الهواء الطليقة الحرة التى طالما ملئت بها صدرى ،
زقزقت طويلاً محدثاً صائدى لكنه لم يفهمنى ، كان منظر الشبكة بين كفيه والبندقية على ظهره والسكين فى جنبه يثير بداخلى الرعب ، فتوقفت عن الزقزقة وألتمست الصمت ، فرأيت أن المعركة خاسرة ، زقزقتى وأستغاثاتى فى
مقابل شباكه وبندقيته وسكينه ،
السوق الكبير يسير فيه ناس يتزاحمون حول الأقفاص التى تحوى القرود والطيور والنمور والقطط والكلاب ، يخرجون
من جيوبهم بضع نقود يضعونها بيد الصياد ويرفعوا الأقفاص ويرحلون من حيث أتوا ،
حملنى أحدهم إلى بيته أجلسنى بين أطفاله ، ووضع لى طعاماً كثيراً وماءاً وفيراً ، لكنه أغلق على باباً فرق بينى
وبين غابتى البعيدة ، فالتزمت الصمت وسكت ثم سكنت سكون الماء الذى لا تحركة رياح ، ولا يتحرك الا أذا ألقى فيه
حجراً من شخص عابر يتسلى لحين ،
أصابع أولاده تخترق فتحات القفص فأشعر بالخوف ويتملكنى الرعب فأصرخ مصدراً صوتاً يثير ضحكهم ، أنا الذى لم
أعرف الا الغناء أصرخ الأن ،
أعتدت على تلك الأصابع الرفيعة فلم أعد أصرخ أو أخاف ، كنت فى لحظات الليل عندما يأوى الجميع إلى فراشهم
أسند رأسى على القضبان الحديدية وأغمض عينى وأترك نفسى لتيار الذكريات الذى ينسال علىّ كانهمار المطر
على أشجار غابتى التى أفتقدها ، أجلس هكذا بالساعات ،
أتذكر أيامى السعيدة هناك ، وأفكر كيف أعود مرة أخرى ، وكلما حاولت فتح باب القفص محاولاً الطيران أجد نفسى
عاجزاً ويتراءى لى صورة الصياد وبندقيته وشباكه اللعين ، فاآثر البقاء هكذا وحيداً حزيناً خائفاً مرتعباً ،
تعودت طعامهم الزائف وشرابهم العكر ولم أعد أفكر فى الطيران ، فكلما حاولت الرفرفة أصابنى ألم شديد يلزمنى
الطاعة والسكون ،
لم أعد أحب أن افكر فى الخروج من القفص وأقنعت نفسى بأن هذا أفضل ، فأنا لم أعد أجهد نفسى فى البحث عن
الطعام ، رغم أن أكلهم به غُصْة إلا أنى تعودت عليه ، فى بعض الأحيان كنت ألوم نفسى لماذا توقفت عن الزقزقة
ومحاولة الهروب والطيران ؟
لكنى أعلم أنى لم أعد أنا كما كنت .. لقد أحتوانى القفص وأنا أعتدت الاستسلام ، وطال نهاراً وقصر ليلاً ، وطال ليلاً
وقصر نهار ، وأنا معانق صمتى مبحراً فى ذكرياتى ، حتى جاءتنى لحظة موتى نظرت أمامى ونظرت خلفى ونظرت
حولي ، فوجدت الموت فى كل مكان ، مرّ أمام عينى كل عمرى الذى قضيته فى القفص مستسلماً ليد الصياد
متسائلاً هل كان من الأفضل أن أموت وانا محاولاً الهروب والطيران !؟