” رقصة الكراسى ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام
خمسون عام من الإنفراد بالسيطرة على الحى ، كان ظهوره فى أحد الشوارع كفيل بإثارة الرعب فى قلوب الكبار والصغار ،
يحكى الأطفال أثناء لعبهم عن قوة ” جبر ” العسكرى ، يحلف أحدهم أنه يثنى الحديد بيديه ، ويرد آخر أنه رآه يرفع سيارة بيد واحدة ،
يتجمع الرجال بعد صلاة الجمعة فى بهو المسجد ، يتهامسون عنه وهم يتلفتون .. فالحيطان لها ودان ، كذئب شريد سكن “جبر” أحد الأكشاك الخشبية بجوار قهوة المعلم أبو زيد .. يلبد طوال النهار فى الكشك لا يخرج منه إلا لقضاء حاجته بميضة المسجد المجاور ،
ينتهز الشيخ فرج فرصة دخوله إلى المسجد ويدعوه إلى الصلاة ، ينظر “جبر ” للشيخ العاجز بعيون قاتل ثم يشيح بوجهه بعيداً ويمضى .. خلا المسجد من المصليين خوفاً من مقابلته صدفة وهو فى طريقه لقضاء حاجته
فى الليل يخرج من كشكه الخشبى كذئب جائع غادر جحره ، عيناه حمراوان بفعل الشراب وبطنه يسمع لها صوت قرقعة بسبب الجوع ، يدخل إلى دكان عبد السلام اللبان ليناوله كيلو من الحليب مذاب فيه قطعة من القشدة ، يرفع طاجن الحليب إلى فمه ولا يعيده إلا بعد أن يفرغه تماماً فى جوفه
يمسح فمه بكم قميصه ويأخذ نفساً عميقاً ثم يتجشأ كثور ويغادر الدكان دون أن يتفوه بحرف .. يقصد قهوة المعلم أبو زيد ، تأتى له “الجوزة ” وعليها قطع الحشيش صغيرة كحبات السمسم ، يشعل الحجر تلو الحجر حتى يكملهم دستة ، ثم يتناول كوبين من الشاى الثقيل دفعة واحدة ويعقبها بكوب من القهوة المغلية
يشعر بجوع الحشيش يقرص معدته .. يعرج على أبو عادل بائع الكبدة بأول شارع الأزهار ، يتناول – كحيوان – نصف كبده خروف نيئة خلال تحضير أبو عادل أطباقه المفضلة .. فى منتصف الليل يبدأ يجول فى شوارع الحى فى دوائر متسعة تضيق قليلا قليلاً حتى يصل إلى المركز ،
ينتهز فرصة أى فرح مقام فى الشارع ليستعرض قوته ، يطلب من الفرقة الموسيقية عزف السلام الأسكندرانى ، تتحرك قدماه ويتمايل جسده فى تناسق ، يفك زراير القميص الواحد تلو الأخر فتتكشف عضلاته ، ثم يخرج المطواة ويبدأ بضرب جسده بخبطات متوالية تاركاً أثراً دموياً على جميع الأنحاء وهو يتمايل مع الموسيقى ،
يتقدم واحد من المعازيم ويضع أمامه كرسياً خشبىا ، يتراقص حوله ثم يخرج المطواة الثانية ، وفجأه ينقض على أعلى
ظهر الكرسى بأسنانه ويرفعه فى الهواء دون أن يلمسه بيده ، ثم ينحنى بالكرسى إلى الخلف ويهبط به قليلا فيقوم
آخر بوضع أربع كراسى ويعلقهم فى الأرجل الأربعة، ويستمر العرض ويتوالى وضع الكراسى حتى يصل عددهم الى
أثنى عشر كرسياً ، يحملهم “جبر” العسكرى بين فكيه قابضاً عليهم كآلة حديدية عملاقة ، ويظل يتراقص ودمه
يغطى جسده كان هذا العرض كفيل بردع من تسول له نفسه التعرض ل “جبر” أو الأمتناع عن دفع الأتاوة
ثقلت الحياة على أهل الحى وأصبح شكواهم الدائمة من ضيق ذات اليد ومشاركة “جبر” العسكرى فى أرزاقهم ، فكر
المعلم أبو زيد أن يستدعى حسين كرشة من الحى المجاور بعد أن سمع عن معاركه ، لكنه تراجع فى اللحظة
الأخيرة خوفاً من أن يشى به أحد عند “جبر ” فتستحيل حياته إلى جحيم
أكتفى أهل المنطقة بالدعاء والتهامس سراً ، وفى أحد الأيام بمطلع الصيف ذهب عبد النبى المراكبى ليستأذن
“جبر” العسكرى لإقامة فرح أبنته صفية أمام بيته فى الشارع ، وترك له مائة من الجنيهات كرشوة لأتقاء شره مغلفة
بطلب رقص “جبر” فى فرح أبنته
فى منتصف ليلة الفرح تقدم “جبر” ليقدم رقصته المخيفة ، وبعد أن وضع المعازيم الكراسى فوق بعضهم تناولهم
بأسنانه ، وأثناء رقصه بهم وبين يديه المطواه ، تعثرت قدمه فأختل توازنه وترنح ، حاول أن يستعيد توازنه لكنه تراجع
إلى الخلف ، عض على الكراسى الأثنى عشر الهرمية أكثر بأسنانه حتى لا تسقط ، فمالت الكراسى كلها مرة
واحدة للخلف وسمع صوت أسنانه وهى تتكسر كالزجاج
صرخ صرخة مرعبة وسقط على الأرض والكراسى فوقه وتفجر الدم من فمه بغزارة وأخذ يتلوى ويتمرمغ فى التراب ،
ثم همد فجأة
أقترب المعلم أبو زيد منه ليساعده على الوقوف فوجده غائب عن الوعى تماماً ، فرفع رأسه ونظر حوله فى ريبه ،
فنكس المعازيم الملتفين حول الجسد العملاق رؤوسهم ، وفى لحظة سحب المعلم كرسى وهوى به على رأس
“جبر ” ثم سحب كرسياً آخر وضرب الوجه مباشرة ، ثم كرسى ثالث ورابع وخامس ، كان يضرب وهو متصلب الجسد
يتملكه الرعب من أستيقاظه فجأه
ولما شعر الجميع بأن هذا الجسد لن يعود إلى الحياة مرة أخرى ، أنهال المعازيم عليه بالضرب حتى لفظ أنفاسه
الأخيرة وهو يخور كذئب جريح أصيب فى مقتل
بعد رحيل “جبر” العسكرى عم الهدوء والسلام ، وعادت الأفراح تملأ الحى ويتردد فى أنحائه الأهازيج حتى نسى
الناس الخوف وأستتب الأمر وعم الرخاء
لكن أحدهم كان يفكر فى أعادة رقصة العسكرى ، وفى أحد الأفراح رفع المعلم أبو زيد يده نحو الفرقة الموسيقية
مطالباً بعزف السلام الأسكندرانى ، وقبل أن يتحرك من مقامه باغته أحد الشباب بضربة أعلى رأسه فانفلقت نصفين
وأنفجرت الدماء كشلال أحمر
ثم وقف الشاب مفتول العضلات ينظر الجميع إليه فى خوف وهلع وهو ينظر إليهم ، وأستمر الوضع هكذا ، حتى قام
ووضع الكرسى أمام الشاب ثم طلب من الفرقة الموسيقية عزف السلام الاسكندرانى.