عن كتاب ( الأنشودة في الشعر العربي الحديث في مصر ) .. للناقدة د مفيدة إبراهيم علي 

قراءة يسجلها الشاعر محمد الشرقاوي

الناقدة د . مفيدة ابراهيم علي

مما لا شك فيه أن المكتبة العربية عامرة بالمؤلفات في شتى أنواع العلوم والآداب والمعارف الإنسانية التي خدمت وستظل تخدم الإنسان في كل زمان ومكان مما جعلها تلعب دورا أساسيا فاعلا بقوة في مسيرة الحضارة عبر العصور ، ولا يستطيع أي إنسان عاقل منصف أن ينكر ما قدمه العلماء والمفكرون العرب والمسلمون من غرس بذور النهضة العالمية الحديثة التي كانت سببا في  التوصل لمعظم المخترعات الحديثة ويشهد بذلك المنصفون من علماء ومفكري الغرب .

وعندما ينتقي الإنسان كتابا لقراءته فإن معايير ذلك يمكن أن تنحصر في أحد العوامل الآتية والتي تتناوب تقديما وتأخيرا حسب كل قارئ :

الشاعر محمد الشرقاوي

أولا : ماهية المحتوى . ثانيا : اسم المؤلف وتخصصه . ثالثا : صلاحية المحتوى بالنظر لزمن قراءته . وأخيرا : مدى ما أحدثه الكتاب من تأثير بين أوساط المفكرين والجماهير . وبكل تأكيد فإن كل معيار مما سبق كفيل بمفرده أن يدفع إلى قراءة كتاب ما ، أما عندما تجتمع كلها في كتاب واحد فإن ذلك يعد إنجازا عظيما للمؤلف وكنزا عظيما لكل المشتغلين بهذا المجال والمهتمين به ، وبكل موضوعية نقول بأن كل المعايير السابق ذكرها قد توفرت لهذا الكتاب الذي سنبحر فيه معا ، وهذا الكتاب هو : الأنشودة في الشعر العربي الحديث في مصر لمؤلفته د مفيدة إبراهيم علي عبدالخالق ( أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهر وعدة جامعات عربية ) .

ومن الجدير بالذكر أنني عندما تناولت هذا الكتاب لم أكتف بقراءته مرة واحدة بل قرأته عدة مرات ، أولها لنهل ما فيه والتزود بكمية المعلومات الوفيرة بصفة عامة ، ثانيها للاستمتاع بالنواحي الجمالية والإبداعية لفن الأنشودة ، ومرة أخرى لاستخراج الخلاصة والإضافة التي أضافها هذا المحتوى والتي تميز بها عن غيره من المؤلفات النادرة كما وكيفا في هذا المضمون ، ولست مبالغا إن قلت إن هذا الكتاب لا غنى عنه لكل شاعر ولكل أديب وباحث في فن الشعر عامة والأنشودة خاصة ، ونستحضر هنا قول الأديب والمفكر الكبير عباس العقاد حين قال : إن قراءة كتاب واحد مفيد ثلاث مرات أفضل من قراءة ثلاثة كتب عديمة الفائدة .

وعن مضمون الكتاب نوضح بداية أن طبعته الأولى صدرت عام ٢٠٠٥ إلا أنه سيظل مرجعا مهما لسنوات طويلة كما سنوضح لاحقا ، وقد احتوى بين دفتيه مائتين وست وخمسين صفحة تتوزع كالآتي : إهداء ، مقدمة ، باب أول بعنوان : فكرة الأنشودة ومراحل تطورها ، ويضم فصلين أولهما عن فكرة الأنشودة في الأدب العربي الحديث في مصر ، والآخر عن جذور الأنشودة ومراحل تطورها ، ثم يأتي الباب الثاني بعنوان : الأنشودة ، دراسة تحليلية ، ويضم فصلين أولهما عن أشهر شعراء الأنشودة في الأدب العربي الحديث في مصر من خلال دراسة وافية لسبعة شعراء من رموز الشعر العربي ، والفصل الآخر عن الأنشودة وسائر فنون الشعر الأخرى ( روية نقدية ) ثم تأتي الخاتمة والنتائج والمراجع والفهرس .

أولا : الإهداء

تفصح سطور الإهداء عن عمق الوفاء والإخلاص اللذين يسكنان عقل وقلب المؤلفة وتوضح كذلك براعتها في الانتقال من العام إلى الخاص ، حيث استهلت إهدائها بعلماء الأزهر بصفة عامة شاهدة على دورهم العظيم في الحفاظ على الدين والتراث الضخم النافع للأمة وللإنسانية كلها ، ثم تنتقل إلى أساتذتها وهم صفوة من كبار العلماء الذين مهدوا لها دروب العلم والبحث والاكتشاف فكانوا نعم المعين لمسيرتها العلمية والأكاديمية ، ثم تخص زوجها الفاضل الأستاذ علي سعد حسين بجانب مهم من الإهداء في إشارة لدوره الغعال وتقديمه كل الدعم لاتمام هذا الكتاب والانطلاق إلى آفاق العلم ، وقد ختمت الإهداء بالدعاء الطيب لهم جميعا .

ثانيا : المقدمة

تبدأ الناقدة في إظهار إعجابها الشديد وانحيازها الواضح لفن الشعر بصفة عامة موضحة الدور الذي قام به في تعبئة المشاعر العامة لدى المصريين من أجل استعادة حقوقهم من أعدائهم وذلك بداية من الثورة العرابية  مرورا بما تلاها من مناهضة الاحتلال والدور الوطني لبعض الزعماء بداية من مصطفى كامل حيث كانت الأنشودة هي السلاح والفاعل الأساسي في تشكيل الوجدان الشعبي وبلورة التوعية لدى الجماهير ، ثم توجه عتابا للدارسين وأهل التخصص من خلال إشارتها إلى عدم العناية الكافية بفن الأنشودة رغم  جدارتها بالبحث والكتابة ونقرأ ما يؤكد ذلك من صفحة ٨ ما يلي : ( ومع ذلك كله لم يلق فن الأنشودة في الأدب العربي الحديث في مصر من عناية الدارسين ما هي جديرة به ، وحتى ليخيل للبعض أنهم لا يكادون يعتبرون النشيد الوطني والقومي والديني والاجتماعي والتربوي في هذه المرحلة أدبا ولا فنا من فنون الشعر )

ثم توضح مدى الفائدة التي ستعم لو تم دراسة فن الأنشودة بصورة أكبر حيث ستمثل ركيزة فكرية وجدانية عظيمة تستطيع الوقوف في وجه الأفكار الغريبة وتلزم الأدباء باحترام الكلمة والتعامل معها كأمانة يجب الحفاظ عليها وخاصة حين تصاغ شعرا .

بداية الإبحار

وبعد أن وقفنا على الشاطئ لاستكشاف الأجواء العامة ، نستعد لبدء رحلة الإبحار في هذا الكتاب الذي يأخذ من النهر عذوبته ومن المحيط عمقه واتساعه ومن الجبل شموخه لنشاهد ونلتقط الجواهر الثمينة التي يزخر بها هذا المحتوى والتي تزداد قيمتها بمرور الأيام والسنوات .

ففي الفصل الأول من الباب الأول تحدثنا الناقدة د مفيدة عن الأنشودة كفكرة في الأدب العربي الحديث في مصر ، أكدت خلالها أسبقية الشعر لكافة الفنون اللغوية الأخرى رغم استخدام النثر السابق له ولكن حاجة الإنسان لكلام منظوم يسهل ترديده كان هو الدافع لنظم الشعر بالإضافة لدوافع أخرى يسوقها البعض مثل تأكيد القدرة على المنطق والكلام وتأكيد الوجود في العالم واتخاذ وسيلة للتواصل مع عناصر الطبيعة ، ولقد أدت الأنشودة دورها من خلال تلبية حاجات الإنسان وإرضاء حاسته الجمالية ومن خلالها تعددت الأناشيد ومنها الحماسية والتي عرفت بالأنشودة الوطنية ، ومع تقدم الزمن وانتشار الناس يرتقي فن الشعر ويروي الشاعر بطولات الحروب فيعيش بوجدانه مع المشاعر العامة ليحافظ على جذوتها في النفوس حتى تظل تنشد الرقي والسمو وحماية الأهداف والأحلام .

ثم نقرأ ما تحدثنا به الكاتبة عن أهمية الشعر قائلة في صفحة ١٧ :

( فالشعر يتابع خطى الحياة ويسير معها في مساراتها المختلفة ويصور الملامح الحقيقية لها في كل عصر وفي كل بيئة لأنه ظاهرة من الظواهر العامة في الحياة الاجتماعية يؤثر فيها ويتأثر بها وبمثل طابعها قوة وضعفا وارتفاعا وانخفاضا )

وعند تعريف فن الأنشودة توضح رؤيتها في صفحة ١٨ أن الأنشودة من الفعل الرباعي أنشد على وزن أفعل ويقال أنشد الشعر أي قرأه رافعا به صوته ، أما خلاصة التعريف كما وردت بذات الصفحة : ( هي قطعة شعرية ينشدها الجميع ملحنة على إيقاع واحد جمعها أناشيد ، فالأنشودة قصيدة غنائية حماسية لعثور الرؤية الصادقة لحب الدين وحب الوطن وحب الأمة كلها وحب كل ذي قيمة ومثل يحتذى به ) ونرى أن هذا التعريف قد أحاط بفن الأنشودة بطريقة بارعة شاملة للشكل والمضمون .

وقد أخبرتنا بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين نصب منبرا لحسان بن ثابت وقال له : أجب عني ، ثم دعا له قائلا : اللهم أيده بروح القدس ، كذلك إعجابه صلى الله عليه وسلم بشعر الخنساء ، كذلك تؤكد لنا أهمية الشعر من خلال استعراض دوره عبر العصور حيث كان مرأة الحياة عند العرب في الأدب الجاهلي ثم دوره في حقبة صدر الإسلام من خلال أشعار جرير والفرزدق وغيرهم وما تلى ذلك من العصور وحتى في عصر التدهور أثناء الحكم العثماني حين صور الحياة بمتاعبها ومعاناة الناس من الفقر وخلافه ، ثم توضح لنا مدى الرابط القوي بين الأدب والأحداث الكبرى في الحياة ، ففي صفحة ٢٠ نقرأ هذه الفقرة : ( وإننا نحتاج في دراستنا لأدب أي أمة من الأمم إلى معرفة الأحداث الكبرى التي أثرت في حياة منشئيه ، لأن الأدب في حقيقته مرآة ناصعة صافية تنعكس عليها حياة أهله وما تأثروا به من أحداث عامة وظروف خاصة )

ومما سبق يتضح لنا كيف يتشكل الأدب وكيف ينتقي محتواه وما هي المصادر والمنابع الأساسية التي تفجر الطاقات الشعورية الكامنة لتصبح واقعا ملموسا مسموعا ومرئيا يوحد الهدف ويجمع الساعين إليه ، ومن أهم الأحداث الكبرى التي ورد ذكرها الحملة الفرنسية وتولية محمد علي ثم إصرار فرنسا وانجلترا على استمرار غزوهما الثقافي بعد فشل الغزو الحربي وكيف أدى ذلك إلى تأجيج الروح الوطنية وظهور العقول الواعية أمثال جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ودورهما في مناهضة الاستبداد من خلال نشر الفكر والوعي وأيضا الصحوة التي أدت لثورة عرابي وتولي البارودي مقاليد الوزارة وهو شاعر لديه مخزون وفير من الأفكار والمشاعر المتعلقة بمجريات الأحداث إلى أن قامت ثورة ١٩١٩ بقيادة سعد زغلول وكان للأزهر دور عظيم في هذه الصحوة وقد أكد ذلك اللورد كرومر في كتابه ( مصر الحديثة )

وفي صفحة ٢٣ تؤكد المؤلفة أن الكبت والتضييق على الحريات كانا عاملين أساسيين من عوامل تكاتف الشعور الوطني وإبداع المقالات والقصائد التي اتخذت الحرية شعارا تسعى لتحقيقه وكانت مصر آنذاك قبلة للأدباء والمفكرين الذين عانوا في بلادهم من مصادرة الكلمة وحجب الأصوات الفكرية التي تنشد الرخاء والتقدم ، وتسرد د مفيدة دليلا على ذلك من الحكم التركي حين صارت اللغة التركية هي لغة المعاملات الرسمية بالدواوين حتى ترجمها عبدالله فكري إلى العربية ثم صار المتعلمون عمادا للحركة الوطنية لاحقا ، ثم قيام ثورة ١٩٥٢ لترفع شعار الخير والرخاء والعدالة بين جموع الشعب ورغم بعض السلبيات إلا أن السعي للعلاج ماض في طريقه ، ومن الأمثلة المذكورة لكبار المفكرين والأدباء الذين عانقت أعمالهم وأفكارهم حياة الناس ومعتقداتهم كان البارودي وشوقي وحافظ وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ .

– ركائز عصر النهضة

بعد السرد الممتع لأهم مقومات التكاتف الشعبي واتحاد المشاعر ودور الأنشودة في غرس الروح الوجدانية المشتركة التي تبلورت في مواقف وأحداث كبرى عايشها الشعب المصري والعربي لحظة  بلحظة ثم انتبه إلى تحقيق ركائز النهضة الحديثة والتي أكدتها الناقدة من خلال الوعي الذي انتشر بين الشعب وخاصة أهل العلم والفكر والأدب حيث بدأت مصر تهتم بالتعليم من خلال إرسال البعثات وظهور الطباعة وإقامة المدارس والاستفادة من علوم وآداب الغرب وميلاد الصحافة لنشر الفكر والوعي وفي طليعة تلك الشخصيات كان رفاعة الطهطاوي الذي قاد اول بعثة إلى فرنسا وعاد ليكتب في مختلف فروع العلم والفكر من تاريخ وجغرافيا وآداب ثم كان له السبق في إنشاء مدرسة الألسن التي أفاضت على الوطن أجيالا عديدة من المفكرين والمترجمين وأدى ذلك إلى إنشاء المطابع الأهلية .

ثم تنشأ الصحافة بأول الصحف ( الوقائع المصرية ) والتي تقدمت بمساندة المفكرين السوريين الذي وفدوا إلى مصر طلبا للحرية ومنهم مؤسسا الأهرام ( سليم وبشارة تقلا ) ثم ظهر المفكر والفيلسوف جمال الدين الافغاني الذي طاف ببلاد المسلمين مناديا بحرية الفكر فوجد دعما من جموع المثقفين وارتفعت الروح الوطنية وسرت بين طوائف الشعب صحوة هائلة لدفع التدخلات الأجنبية في شئون البلاد ، وظهرت بعد ذلك صحيفة ( المؤيد ) على يد الشيخ علي يوسف وهو أحد كبار رواد الفكر والأدب السياسي وقد نادى بالاستقلال والحرية وحماية خيرات البلاد واستعادة الأمجاد العظيمة الماضية .

ثم نقرأ في الصفحات سرد النتائج التي ترتبت على الصحوة الفكرية والشعورية ومنها النهضة في لغة الكتابة الوطنية وسمو الهدف الوطني من خلال أقلام أدبية شجاعة ظلت تواصل مسيرتها حتى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢، ومن النماذج التي ساقتها د مفيدة أبيات من قصيدة ( عشت يا مصر ) للشاعر أحمد هيكل وقد وردت في صفحة ٢٨ ومنها :

عشتِ يا مِصرُ رايةً شمَّاءْ           ومنارًا للشرقِ يُهدي الضياءْ

ورعاكِ الإلهُ نيلًا وشعبًا             وترابًا مقدسًا وسماءْ

ووقاكِ الأعداءَ حمرًا وزرقًا        وكفاكِ الضغائنَ السوداءْ

أنتِ ضحيتِ بالدماءِ وما زلتِ      تجودين بالنفوسِ وفاءْ

عشتِ يا مصرُ للفداءِ وللنيلِ        مثالًا وقدوةً ولواءْ

وهذا النموذج وخلافه يؤكد مدى تأجج المشاعر الوطنية ومدى عشق هذا البلد وترابه وخيراته والاستعداد لمواصلة التضحية التي لم تتوقف وقد أعقب ذلك محاولات لجر مصر لمواجهات أخرى من خلال هجوم إسرائيل على غزة عام ١٩٥٥ مما جعل عبدالناصر ينظر نظرته التأمينية من خلال ردع قوى الشر قبل اقترابها من حدود مصر ويتضح ذلك من قوله كما ورد في صفحة ٢٩ : ( لم يعد مفر أمام كل بلد أن يدير البصر حوله خارج حدود بلاده ليعلم من أين تجيئه التيارات التي تؤثر فيه وكيف يمكن أن يعيش مع غيره وعن وضعها وظروفها في المكان وترى ماذا تستطيع أن تفعل فيه وما هو مجالها الحيوي وميدان نشاطها ودورها الإيجابي في هذا العالم المضطرب )

وعن فشل العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦ تسجل لنا د مفيدة هذا النموذج من الأشعار الوطنية الصادقة التي تعبر عن فيضان المشاعر وقوة التحدي وعزيمة الفداء وهذا النموذج للشاعرة جميلة العلايلي كما ورد في صفحة ٢٩ :

مصرُ الحبيبةُ إنني أهواكِ          سبحانَ مَن جعلَ الهوى معناكِ

أهواكِ حتى أنَّني مِن فرطِ ما      أهواكِ صِرتُ من الهوى أخشاكِ

أستروِحُ الآمالَ من نصرٍ بدا       منذ اعتلى عرشَ الجهادِ فتَاكِ

كما تشيد الشاعرة جميلة العلايلي بالتكاتف الاجتماعي والوطني من كل فئات الشعب وقد ورد ذلك في قولها :

حمل الرجالُ مع النساءِ سلاحَهمْ    والطفلُ راح يزودُ عن مغناكِ

لم تمضِ أيامٌ على شهدائنا           حتى استردَّ النصرَ عزمُ فتاكِ

كُلٌّ ينادي ربَّهُ ويقينُهُ                 كالسهمِ يقطعُ شائكَ الأسلاكِ

والحقيقة أن المؤلفة أحسنت تماما باختيار تلك النماذج التي لا تعبر فقط عن مشاعر الشعب آنذاك لكنها أيضا تجعل القارئ متعايشا بوجدانه وفكره مع تلك الأحداث مما يدل على براعة التصوير وروعة وحماسة الكلمات .

ثم تمضي سطور الكتاب لكي تطالعنا بأحداث حرب اكتوبر ١٩٧٣ وما أحدثته من إعادة صياغة لمكانة الدول في المنطقة واستعادة مصر لدورها العربي والإقليمي والعالمي وما أوجدته من مشاعر استعادة الثقة وفرض احترام العالم وكذلك على المستوى الداخلي حيث تبارى الشعراء في تصوير ذلك والتغني به لتسجيل صفحة خالدة من صفحات التاريخ الحديث ، ويأتي بعد ذلك الحديث عن حدث آخر ألهب مشاعر الجماهير العربية وفي طليعتها الأدباء والشعراء والمفكرين ونعني بذلك حرب الخليج عام ١٩٩١ فنهض الشعراء لتصوير ذلك الظلم والعدوان واستنكارهما ورفضهما ومنها هذا النموذج للشاعر صالح مجدي والذي يقول عنه د محمد عبدالمنعم خفاجي أنه أسبق من فكر في الأناشيد الوطنية بين شعراء العربية ومن أبياته التي وردت في صفحة ٣٤ :

يا طالبَ النصحِ خذ مني محبَّرةً              تُلقَى إليها على الرغمِ المقاليدُ

طبائعُ الناسِ في ذا الدهرِ قد فسدتْ          فالشرُّ طبعٌ لهم والخيرُ تقليدُ

ومن أسباب تطور الشعر كما ترى الكاتبة الإطلاع على الثقافات الأخرى وحركة الترجمة والتجديد في أغراض الشعر والهجاء والعزوف عن بعض الأغراض منها المديح والفخر ، وفي إشارة لمعنى الوطن كما ورد في الكتاب صفحة ٣٥ أن رفاعة الطهطاوي كان يستخدم كلمة الوطن للدلالة على مصر والإخلاص لها ومن ذلك يقول الطهطاوي :

أبناءَ مِصرَ نحن موطنُنا أصيلْ            حسبٌ عريقٌ زانه مجدٌ أثيلْ

وفخرُنا في الكونِ جلَّ عن المثيلْ        لرحابِنا تُطوَى المهامِهُ بالطلاحْ

والمعنى كما جاء بهامش الصفحة أن رحابنا مقصودة من كل الجهات حيث يقدم إليها الإنسان فتصاب مطاياه بالإرهاق لطول السفر ، وكان لأفكار رفاعة الطهطاوي الوطنية ودعوته الفكرية تأثير قوي على المستوى الرسمي حيث قام الخديوي إسماعيل بفتح المدارس والمعاهد وإرسال البعثات وانشاء المكتبة الخديوية وغير ذلك من مظاهر المدنية والحضارة والتقدم والرقي وكان لذلك عظيم الأثر في ميلاد جيل من المبدعين والمصلحين .

ثم نطالع أحداث الثورة العرابية وما أحدثته من وعي سياسي ودفاع عن الحقوق العامة وقيام الصحافة بدورها في المعارضة الواضحة للحكومة مما جعل لدى الناس وعيا ناضجا وفكرا أكثر جرأة وقد تجسد ذلك من خلال القصائد والأناشيد الوطنية ومنها ما ورد في صفحة ٣٩ للشاعر صالح مجدي حيث يهاجم الخديوي إسماعيل :

رمى بلادَكمُ في قعرِ هاويةٍ            من الديونِ على مرغوبِ جوسيارِ

وأنفقَ بخلًا ولا كرمًا                 على بغيٍّ وقَوَّادٍ وأشرارِ

والمرءُ يقنعُ في الدنيا بواحدةٍ         من النساءِ ولمْ يقنعْ بمليارِ

ويكتفي ببناءٍ واحدٍ ولهُ                تسعونَ قصرًا بأخشابٍ وأحجارِ

فاستيقظوا لا أقال اللهُ عثرتَكم        من غفلةٍ ألبستكُم ملبسَ العارِ

ويأتي ختام هذا الفصل بالاستعانة برأي العقاد كما ورد في صفحة ٤١ : ( إن الخشاب والعطار ثم محمود سامي البارودي ثم إسماعيل صبري وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ثم مدرسة الأدب الحديث إلى العهد الحاضر هم معالم الأدب في القرن الأخير ) ولكنها تضيف أن هناك آخرين أيضا ممن أتقنوا فن الأنشودة وأضافوا إليها وليس فقط الأسماء السابق ذكرها .

– الفصل الثاني من الباب الأول

يبدأ هذا الفصل بعرض رؤية فكرية خاصة بالدكتورة مفيدة عن أهمية الأدب فتقول في صفحة ٤٥ : ( والأدب صورة الحياة في كل عصر وحتى في تلك العصور التي لم تخلق لنا إلا ركام المدائح في معان مبتذلة وأساليب ركيكة ، لأن الأديب فرد في المجتمع لا يملك إلا أن يعبر عن حياته وحياة بيئته التي يعيش فيها أو حياة جانبا منها على الأقل )

ونتفق تماما مع رأي الكاتبة إذ لا حياة للمجتمع بدون أدب ، فالأدب هو القلب النابض في جسد المجتمع وبه ومنه تولد الأحلام والطموحات وينطلق الوعي ليرسم حياة راقية يستمر السعي خلالها للوصول إلى المكانة اللائقة بين الأمم والشعوب التي لا تكف عن البحث والنهوض في مجالات الحياة العديدة وهنا نذكر قول ابن عباس رضي الله عنه حيث قال : ( اطلب الأدب فإنه زيادة في العقل ودليل على المروءة ومؤنس في الوحدة وصاحب في الغربة ومال عند القلة )

ثم يتوالى الحديث عن نهضة الأدب في العصر الحديث وكيف استعان بالبدايات القوية من العصور السابقة وكيف أن التاريخ لا يعد وسيلة كافية لتسجيل وجدان ومشاعر الشعوب حيث تكون اهتماماته بتسجيل الأحداث كمقدمات ونتائج أما الأدب فهو تصوير حي وصورة واضحة لمشاعر الناس وانفعالاتها وتقلباتها الفكرية والروحية .ثم تشير الكاتبة لطبيعة الشعب المصري وعراقته وتاريخه وما له من أسباب الحضارة التي تأبى عليه أن يظل بلا معالم أدبية واضحة تحدد شخصيته الفكرية والثقافية ونقرأ ذلك بصفحة ٤٦ : ( وليس من المعقول أن الشعب المصري الذي اتسم بعراقة الأصل وطول التاريخ والاستمرار المتجدد على مدى الأجيال المتتابعة لا يحقق شخصيته الأدبية وهي التي تبرز – أكثر من أي شخص آخر – وجدان هذا الوطن بجميع خصائصه ومقوماته )

ونقرأ كذلك ما قالته عن اهم السمات في الأدب العربي الحديث والتي توفرت للشاعر المصري وهي : إيقاظ الوجدان الوطني ، التفكير في المثل العليا ، التمسك بالعروبة ، استحضار تاريخ الفرسان وإنجازاتهم ، وقد ظهر النشيد الشعري وظل الشاعر يجوب المدن والقرى لإيقاظ الروح الوطنية وكان وجدان المواطن متعلقا بالنماذج الديمقراطية في الحكم ولم يكن منحازا لطائفة الملوك والأمراء فقد اختار المواطن المصري من بين الآداب المنتشرة مما يناسب رؤيته للحياة فكان بتميز بالعقل والرشد في السلوك وفي العمل وفي التخلي عن الأهواء والتهور وغير ذلك من السلوكيات المشينة ومما يبرهن على ذلك ما أوردته د مفيدة في السطور الأخيرة من صفحة ٤٨ حيث تقول : ( وبعد فما خلا أدب أمة من حب ، وما خلا هذا الحب – فيما نعلم – من شيئ يخص الوطن ، وكان هذا الحب الذي يخص الوطن لونا بذاته له صفاته وله مميزاته متمثلا في فن الأنشودة في الأدب العربي الحديث في مصر )

ومن الأدب بصفة عامة إلى الشعر بصفة خاصة حيث تفيض المعلومات المهمة من بين سطور الكتاب لتخبرنا عن تطور الشعر من العصر الجاهلي وما تميز به ومضامينه وأغراضه ومعايشته للواقع آنذاك ثم عن الشعر في صدر الإسلام وما تلاه من عصور وكيف كان الشعر لصيقا بحياة الناس وأحلامهم متجاوبا مع تطورات الحياة عبر تلك العصور وفاعلا أساسيا في حركة الوجدان التي لا تهدأ حيث يأتي دور الشعر في توجيهها لصالح الفرد والمجتمع ومن المشاهد والأدلة الواضحة على ما تقدم هذا النشيد الخالد الذي شدا به سكان المدينة المنورة عند استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

طلع البدرُ علينا                   مِن ثنياتِ الوداعْ

وجبَ الشكرُ علينا                ما دعا للهِ داعْ

أيها المبعوثُ فينا                جئتَ بالأمرِ المطاعْ

جئتَ شرَّفتَ المدينةْ             مرحبًا يا خيرَ داعْ

وقد كان هذا مثالا رائعا للمشاعر الفياضة والمشاركة الوجدانية التي جمعت كل سكان المدينة فكان لابد للأنشودة أن تظهر وتعبر عن مكنون الصدور المتلهفة للنور ، فالأنشودة دائما هي التعبير الجمعي عن المشاعر وإن كانت الألفاظ تخرج من لسان واحد ثم يلتف حولها الجميع .

وتوالت بعد ذلك الأشعار على أيدي شعراء صدر الإسلام فصوروا انتقال الحياة من طبيعة فكرية عقائدية إلى طبيعة مختلفة تماما وقد كانت الأناشيد أوضح الأمثلة على ذلك وكثر منها النظم على بحر الرجز ، ثم كان للأدب والشعر دوره في وصف الفترة الأموية وما تضمنت من تغييرات في الحياة وأساليب الحكم وكيف عبر الشعر عن انتماءات الناس وقناعاتهم وكيف تطورت أساليبه وأغراضه ثم ازداد هذا التطور وتنوعت الأغراض خلال الفترة العباسية فقام الشعر بوصف ألوان الترف وصور الحضارة والنزعات الأخلاقية والدينية فكان نتاج ذلك ثروة أدبية وتراث ضخم من الشعر .

وفي صفحة ٥٣ تبدي د مفيدة معارضتها الشديدة للقائلين بأن الأدب العربي الحديث أدب متخلف لم ينجح في مسايرة مطالب المجتمع وأحلامه ولم يقم بدوره في رسم الأهداف العليا والسعي نحو الإصلاح ، ومن جانبنا نؤيد رأي د مفيدة لأن الأدب العربي الحديث كان مواكبا للأحداث ومعبرا عنها ومنحازا للمواطنين وأحلامهم ، يتطلع إلى صحوة فكرية علمية وحياة يعمها الرخاء وقد وردت أمثلة كثيرة على ذلك لشعراء خاضوا معارك ضخمة من أجل إرساء دعائم الحرية والعدالة والاستقلال وتعرض بعضهم لعقوبات متنوعة كما سيتضح لاحقا عند دراسة نماذج لأهم شعراء الأنشودة في الأدب العربي الحديث في مصر .

ثم نطالع أيضا ما حدث من تدهور حضاري للعرب على يد الاستعمار المغولي الذي أتلف كل التراث الأدبي والمادي للعرب ولوحظ هذا التدهور في الأدب من خلال موالاة الحكام والبعد عن مطالب ومشاعر الجماهير حتى جاء العصر الحديث فبدأ الناس يشعرون ويشتاقون لحياة أكثر ازدهارا ورخاء فتجاوب الحس الأدبي والشعر مع تلك الروح وصار نصيرا لها معبرا عنها ومن أهم طليعة هذا العصر الشاعران إسماعيل الخشاب والشيخ حسن العطار حيث شمل ديوان الخشاب أشعارا ساخطة على الفرنسيين واطماعهم وتلك كانت بداية الطفرة الشعورية التي يتلاحم فيها الوجدان الشعبي مع الأنشودة وإن بقيت محتفظة بأسلوبها المعتاد إلا أنها أحدثت طفرة ملحوظة تنامت مع تنامي المشاعر والأحداث القومية .

ثم يعود الحديث مرة أخرى عن دور الرواد الأوائل للبعثات التعليمية والذين حملوا شعلة الأدب الحديث وأشعلوا روح الوطنية فسارت خلفهم جموع الشعب تنشد بناء الوطن ونهضته وقد ذكرت د مفيدة رأي الأديب الرافعي في صفحة ٥٧ والذي ينسب الفضل في إحداث النهضة لرفاعة الطهطاوي كما ينسب له الفضل في ظهور الأنشودة في العصر الحديث والتي قامت على أسس من الحماسة الدينية التي خلقت في عقول الكتاب نوعا من الغيرة الوطنية والانتماء العظيم لهذا الوطن ، وقد توافق رأي الكاتبة مع رأي الرافعي في أن الأبيات التالية الواردة في صفحة ٥٧ تعتبر أول نشيد عرفته مصر :

فهيا يا بني الأوطانِ هيَّا                     فوقتُ فخارِكُم لكمُ تهيَّا

أقيموا الرايةَ العظمى سويَا                 وشنوا غارةَ الهيجا مليا

عليكم بالسلامِ أيا أهاليْ                     ونظمِ صفوفِكم مثلَ اللأليْ

وخوضوا في دماءِ أولي الوبالِ            فهم أعداؤكم في كلِّ حالِ

وتستمر مسيرة الأنشودة في تزكية الشعور الوطني وتنمية الحماس الجماهيري حتى تعتلي قمة الازدهار على يد شعراء مدرسة البعث والإحياء وأبرزهم البارودي وشوقي وحافظ وأحمد محرم فأخذ صوت الشعر الوطني يعلو بعد فترة ابتعاد عن ساحة الأحداث القومية المهمة حينما انشغل كل من الشعراء السابق ذكرهم بنوع من الهموم والمعاناة الشخصية ، ثم ينتقل السرد في الكتاب من العام إلى الخاص بالحديث عن أحمد محرم ومنابع موهبته وجذور العاطفة عنده وأهمها عشقه لمصر واستعداده للتضحية من أجلها ومن ذلك أبياته في صفحة ٦٢ :

فإنْ يسألوا : ما حبُّ مصرَ ؟ فإنَّهُ               دمي وفؤادي والجوانحُ والصدرُ

لنفْسِ وفائي ، إنْ وفيتُ بعهدِها                 وبي لا بها ، إنْ خُنتُ حرمتَها الغدرُ

أخافُ وأرجو وهي جهدُ مخافتي               ومرمى رجائي لا خفاءٌ ولا نُكرُ

هي العيشُ والموتُ المُبغَّضُ والغِنَى           لأبنائها والفقرُ والأمنُ والذعرُ

هي القَدرُ الجاري هي السخطُ والرضَى       هي الدينُ والدنيا ، هي الناسُ والدهرُ

ثم توضح لنا أن توجيه الشعب وتعريفه بحقوقه والمطالبة بها والدفاع عنها لكل ما يملك الإنسان فهذا يعد أبرز مظاهر التجديد في الأدب العربي الحديث وعلامة واضحة على زمان ومكان نشأة فن الأنشودة في الأدب العربي الحديث في مصر .

والحقيقة أن الإبحار في هذا الكتاب يمنح القارئ مزيدا من الشوق والاندماج كلما انتقل من صفحة لأخرى حتى يجد لسانه مرددا عبارات الاعجاب والثناء بينما تمضي عيناه بين السطور لتجد كنوزا عديدة ، ولقد حاز الأدباء وخاصة الشعراء مكانة عالية تعد من أسمى وأرقى مراتب الإنسانية بعد الأنبياء والمرسلين وهذا ما أكدته د مفيدة في صفحة ٦٣ حيث تقول : ( وتاريخ جميع الثورات التي حدثت في العالم يشهد بأنها لم تكن إلا من وحي الشعراء والأدباء وإعدادهم الرأي العام وكل بذور الإصلاح والتسامح لم تأت بالقوة والعنف ، إنما جاءت من قلم الشاعر وأناشيده والأديب وكتاباته التي دخلت القلوب والأفكار فغيرت المعالم وأوحت بالمؤثرات )

ومما سبق يتضح – كما أسلفنا في أكثر من موضع – مدى إيمان الأديبة والناقدة المبدعة د مفيدة بأهمية الأدب عامة والشعر خاصة ودورهما في إحداث التغير للأفضل والسعي لتحقيق أحلام الشعوب وطموحاتها .

ثم تتجه السطور إلى الحديث عن رائد مدرسة البعث والإحياء ( محمود سامي البارودي ) ودوره كشاعر في توهج الثورة العرابية ومعاناته في المنفى وحنينه إلى وطنه وما أحدثه من طفرة في الشعر العربي أعادت إليه مكانته التي تبوأها في عصور المجد وارتقى بالأنشودة كفن من فنون الشعر الوطني التي بدأها رفاعة الطهطاوي ، ومن النماذج الرائعة والدالة على موهبة البارودي وعشقه لوطنه تلك الأبيات الواردة في صفحة ٦٦ والتي توضح مدى سخطه على الوضع السياسي والاقتصادي أيام الخديوي إسماعيل وكذلك توفيق وهنا يحرض الشعب على المطالبة بالعدل والمساواة والتمسك بحقوقه وهذه الابيات هي :

قامت بهِ من رجالِ السوءِ طائفةٌ               أدهى على النفسِ من بؤسٍ على ثَكِلِ

مِن كلِّ وغدٍ يكادُ الدستُ يدفعهُ                 بُغضًا ويلفِظُهُ الديوانُ مِن مَلَلِ

ذلت بهم مِصرُ بعد الغزو واضطربتْ         قواعدُ المُلكِ حتى ظلَّ في خللِ

فما لكم لا تعافُ الضيمَ أنفسُكم                 ولا تزولُ غواشيكم عن الكسلِ ؟

فبادروا الأمرَ قبل الفوتِ وانتزعوا            شكالَةَ الريثِ فالدنيا مع العجلِ

وطالبوا بحقوقٍ أصبحت غَرضًا               لكلِّ منتزِعٍ سهمًا ومختتلِ

حتى تعودَ سماءُ الأمنِ ضاحيةً                ويرفلَ العدلُ في ضافٍ من الحُللِ

ومما سبق يتضح لنا مدى تلاحم البارودي مع وجدان الشعب وقضاياه التحررية والانحياز لحقوقه في الحياة الكريمة ورفضه القاطع أن تظل حالة الجمود والبؤس والهوان التي آلت إليها أمور الفرد والمجتمع ، لذلك أطلق عليه ( رب السيف والقلم ) لأنه كان يدافع عن مبادئه من خلال منصبه وكذلك في قصائده وأشعاره .

ثم نقرأ عن أبرز من ساروا على نهجه وهما الشاعران أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وما توفر لحافظ من أسباب الحياة القاسية التي زرعت في نفسه بذور الدفاع والانتماء لشعبه وأرضه ، ثم ظهور المصلحين أمثال مصطفى كامل ومحمد عبده ودورهما في الحياة الوطنية ، ومن النماذج الواردة للشاعر حافظ ابراهيم من صفحة ٦٨ :

فديناكَ يا شرقُ لا تجزعنَّ              إذا اليومُ ولَّى فراقبْ غدا

فكمْ محنةٍ أعقبتَ محنةً                  وولَّتْ سِراعًا كرجعِ الصدى

فلا يُيئسنَّكَ قِيلَ العُداةِ                   وإن كان قيلًا كحزِّ المُدى

أما شوقي فقد أثرت فيه نشأته في أسرة أرستقراطية وأيضا دراسته للحقوق وسفره في إحدى البعثات إلى فرنسا وعودته للعمل داخل القصر الملكي ثم نفيه عند قيام الحرب العالمية الأولى وبعد عودته يتلاحم مع الشعب وتبرز أشعاره بالتوازي مع أشعار حافظ ابراهيم وبذلك أصبح شوقي مؤثرا في الساحة الثقافية والفكرية يتلقف الشعب قصائده ليجد بها مبتغاه من السعي نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والتخلص من براثن الاحتلال وقد وردت تلك الأبيات لشوقي في صفحة ٧٠ :

بني مِصرَ مكانُكمُ تهيَّا                    فهيا مَهدوا للملكِ هيَّا

خُذوا شمسَ النهارِ لهُ حليَّا               ألمْ تكُ تاجُ اولِكُم مليَّا

على الأخلاقِ خُطوا الملكَ وابنوا        فليس وراءَها للعزِّ ركنُ

أليسَ لكُم بوادي النيلِ عَدْنُ               وكوثرُها الذي يجري شهيَّا

لنا وطنٌ بأنفسِنا نقيهِ                      وبالدنيا العريضةِ نفتديهِ

إذا ما سِيلت الأرواح فيهِ                 بذلناها كأنْ لمْ نعطِ شيئا

وتؤكد د مفيدة أن مدرسة البعث والإحياء لعبت دورا مهما وحيويا في الحياة السياسية والاجتماعية داخل مصر وكذلك في الوطن العربي كما أرست دعائم الأنشودة في العصر الحديث ولا يزال تأثيرها حاضر بقوة ولا يزال جمع كبير من الأدباء والشعراء يسلك طريقهم ، ونحن نتفق تماما مع رأي الكاتبة حيث نرى ذلك في المنتديات والمؤلفات والحوارات الثقافية والنقدية وكذلك نرى مدى تمسك الكثير من الأدباء الحاليين بنهج مدرسة البعث والإحياء في الكتابة ومدى الدفاع عنها ضد منتقديها .

وننتقل بعد ذلك للحديث عن مدرسة الديوان والتي أسسها ثلاثة من كبار الأدباء والمفكرين وهم : ( عباس العقاد ، إبراهيم عبدالقادر المازني ، عبدالرحمن شكري ) وقد قامت دعوتهم على أساس وحدة الموضوع والنمو الداخلي للفكرة داخل القصيدة ، ثم حدث الانقسام بين شكري والمازني فانصرف كلاهما عن صياغة الشعر ولكن ظل العقاد صامدا يتغنى بالمشاعر القومية والسياسية وينشد الحرية والرخاء والعدالة وهذا نموذج من أشعاره من صفحة ٧٢ :

قد رفعنا العَلمْ               للعلا والفِدى

           في ضمانِ السماءْ         

حيِّ أرضَ الهرمْ           حيِّ مهدَ الهُدى

              حيِّ أمَّ البقاءْ

كمْ بَنَت للبنين              مِصرُ أمُّ البناةِ

           من عريقِ الجدودْ

أمَّةُ الخالدينْ               من يهبْها الحياة

             وهبته الخلود

وتستمر حركة الأدب والشعر والتأثير القوي لهما ومن ذلك ظهور جماعة ( أبوللو ) على يد احمد زكي أبو شادي في اوائل الأربعينيات من القرن الماضي وكان لها مجلة تحمل اسمها وقد قامت بدورها وتعددت مذاهبها وأهدافها وضمت العديد من أنصار التراث وأيضا الداعين إلى التجديد في إطار المحافظة على الذوق العام وقد تميزت بالاتجاه الرومانسي الذي غلب على فن الأنشودة لديها ومن أبرز شعرائها إبراهيم ناجي وعلي محمود طه وتوضح د مفيدة أن سبب الاتجاه الرومانسي هو قيام الاستعمار بالضغط على الحريات وتقييدها ومحاربة الأدباء الأحرار

ونقرأ من صفحة ٧٤ بعض الأبيات للشاعر ابراهيم ناجي من قصيدته ( عاصفة الروح ) :

أين شطُّ الرجاءْ               يا عبابَ الهمومْ

ليلتي أنواءْ                  ونهاري غيومْ

أعولي يا جِراحْ            اسمعي الديانْ

لا يهمُّ الرياحْ               زورقٌ غضبانْ

البِلَى والثقوبْ              في صميمِ الشراعْ

والضنىْ والشحوبْ        وخيالُ الوداعْ

وتلك الأبيات دالة ومؤكدة على مدى النزعة الرومانسية والنفسية التي تبث همومها واحزانها باحثة عن ملاذ يحميها مما تعاني ، كما تؤكد مدى الكبت الذي يعانيه الشاعر ومدى تطلعه لحرية التعبير والبوح بما في نفسه .

 

أما علي محمود طه فنقرأ أنه تميز بموهبة موسيقية نادرة نجح في توظيفها في أناشيده وخاصة عن امجاد العرب ونضالهم عبر العصور ومنها أبياته عن فلسطين في صفحة ٧٥ :

أخي جاوز الظالمون المدى               فحقَّ الجهادُ وحقَّ الفِدا

أنتركهم يغصبون العروبةَ                 مجدَ الأبوةِ والسؤددا

وليسوا بغيرِ صليلِ السيوفِ               يجيبون صوتًا لنا أو صدَى

فجرِّد حسامَك من غمدِهِ                   فليس له بعدُ أنْ يُغمدا

إلى أخر تلك القصيدة الملهمة الخالدة التي لا تخفى على شاعر ولا أديب ولا ناقد وخاصة فئة المناضلين والأحرار .وإلى هنا ينتهي الباب الأول بفصليه الأول والثاني وقد أعطانا كمية ضخمة من المعلومات عن الأنشودة في الأدب العربي الحديث في مصر كما ألهب حماسنا وزاد من إيماننا بأهمية الكلمة وخاصة الشعر عندما يصبح أنشودة تتغنى بها الجماهير في سعيها لتحقيق أحلامها وطموحاتها والمحافظة على استقلال ورفعة أوطانها وقد نجحت د مفيدة بامتياز في تغطية المحتوى والاستشهاد بأقوى النماذج وأشدها تأثيرا على النفس مما يؤكد حبها الشديد للأدب وإيمانها العميق الراسخ بأهمية دور الشاعر في تشكيل الوعي وإحداث نقلة ثقافية شاملة وقد انتقلت من فكرة لفكرة أخرى بكل سلاسة وتشويق لتضع القارئ داخل بستان حافل بكل ثمار الشعر الراقي وفي المقدمة منه الأنشودة عبر نشأتها ومراحل تطورها .

الباب الثاني : الأنشودة دراسة تحليلية

ويستمر الإبحار في هذا الكتاب الرائع لننتقل إلى الباب الثاني والذي يتضمن فصلين أولهما بعنوان ( أشهر شعراء الأنشودة في الأدب العربي الحديث في مصر ، دراسة وتحليل ) أما الآخر فجاء تحت عنوان ( الأنشودة وسائر فنون الشعر الأخرى ، رؤية نقدية ) وفي مقدمة الفصل الأول توضح المؤلفة عظمة الدور الذي قام به البارودي ورفاقه من مدرسة البعث والإحياء حيث أعادوا فن الشعر ومنه الأنشودة إلى عصور الازدهار والقوة فأنقذوه من التردي والضعف الذي حل به منذ أواخر عصر العباسيين وحتى العصر الحديث ، فقد استعانت تلك المدرسة بالقالب التقليدي للشعر العربي إبان عصور ازدهاره ولكنهم جددوا في روحه وألفاظه وصوره ، ثم كانت حركة التجديد التي نادى بها العقاد ورواد مدرسة الديوان وتبلورت الفكرة واتسعت على يد جماعة أبوللو بقيادة أحمد زكي أبو شادي ولكنها لم تفرز نظرية شعرية واضحة بذاتها نظرا لظروف تقييد الحريات آنذاك ومن ثم تنوعت القصائد بتنوع ثقافات مبدعيها واختلاف بيئاتهم ، ثم تؤكد د مفيدة أن الحكم على نتاج شاعر ما بالجودة أو عدمها لا يتوقف على نماذج قليلة من شعره وإنما الحكم الموضوعي يكون على النتاج الإجمالي للشاعر حتى تتضح المعالم والقدرات الخاصة به .

– رموز فن الأنشودة كما وردت بالكتاب

– النموذج الأول ( الشاعر رفاعة الطهطاوي )

يبدأ الحديث بالتنويه عن بذور التطلعات إلى الحرية عند المصريين حيث كانت بدايات جديرة بالاهتمام والدراسة ثم تأتي نتائج البعثات المصرية لأوربا وما أسفرت عنه من مقارنات بين الأوضاع هنا وهناك في مختلف نواحي الحياة مما رسخ بأذهان المبعوثين أفكارا وتطلعات نحو المستقبل وإحداث النقلة العلمية والفكرية التي تصنع لمصر مكانتها اللائقة ، وقبل الدخول إلى عالم الأنشودة عند رفاعة الطهطاوي تسرد لنا د مفيدة أهم النقاط في حياته حيث ولد في طهطا بصعيد مصر عام ١٨٠١ وتلقى تعليمه الأول هناك ثم رحل إلى القاهرة عام ١٨١٧ والتحق بالأزهر ثم قام بالتدريس فيه وكما وصفه تلميذه صالح مجدي قائلا ما ورد في صفحة ٨٥ : ( كان رحمه الله حسن الإلقاء بحيث ينتفع بتدريسه كل من أخذ عنه وقد اشتغل في الجامع الأزهر بتدريس كتب شتى في الحديث والمنطق والبيان والبديع وغير ذلك وكان درسه غاصا بالجمع الغفير من الطلبة )

وتؤكد الناقدة أن من الظروف التي ساندت رفاعة الطهطاوي أنه تتلمذ على يد الشيخ حسن العطار الذي تمتع بشخصية علمية واسعة الأفق متطلعة لإحداث نهضة علمية قوية فكان يولي رفاعة اهتماما خاصا وكان نعم الداعم له في عمله بالتدريس وتشجيعه على الاطلاع على ثقافات ومؤلفات الغرب ، وفي عام ١٨٢٦ سافر رفاعة على رأس البعثة الأولى لفرنسا فكان إماما وقائدا وعكف على تحصيل العلم والفكر ثم عاد لينادي بالعدالة والحرية والنهضة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد الشعب وتزكية المشاعر القومية .

ويحسب للطهطاوي نزعته المصرية الخالصة التي يرى من خلالها أن الوفاء لمصر والتضحية من أجلها واجب على كل مخلص وغيور ، وقد ساهم في هذه النزعة أمران هما : إعجابه الشديد بحضارة الفراعنة ، وكذلك حياته في فرنسا والسودان مدة عشر سنوات على فترات ، ويتميز الإنشاء عند رفاعة بأنه نشيد حماسي يلهب المشاعر ويربي النشء حيث التغني بحضارة مصر وطبيعتها والدعوة للنهوض بها ، وقد أوردت لنا د مفيدة نماذج من فن الأنشودة عند رفاعة الطهطاوي ومنها قصيدته ( مصر نور الكون ) من صفحة ٩٠ وهذه بعض أبياتها :

يا صاحِ حبُّ الوطنْ               حليَةُ كلِّ فَطِنْ

ومصرُ أبهَى مولدٍ                 لنا وأزهى محتدِ

ومَربَعٍ ومعهدِ                     للروحِ أو للبدنْ

يا صاحِ حبُّ الوطنْ              حِليَةُ كلِّ فطنْ

وهذا نموذج واضح على عشق رفاعة الطهطاوي لمصر واستعداده لبذل كل غال ونفيس من أجلها وقد أجادت د مفيدة في اختيار هذا النموذج الرائع والشاهد بقوة على رجاحة العقل وصدق المشاعر لدى الطهطاوي .

ومن النماذج المعبرة أيضا عن فكرة الانتماء والتضحية والتمسك بوحدة وقوة الوطن تلك الأبيات من صفحة ٩٢ حيث يخاطب الجنود قائلا :

يا أيها الجنودْ              والقادةُ الأسودْ

إن أمَّكُم حسودْ             يعود هامي المدمعِ

فكم لكمْ حروبْ            بنصرِكم تؤوبْ

لم تُشنِكم خطوبْ          ولا اقتحامُ معمعِ

وكم شهدتُم مِن وغَى     وكم هزمتُم مَن بغَى

فمن تعدَّى وطغَى        على حماكم يُصرَعِ

ثم تتوالى النماذج التي تدعم فكر ومنهج رفاعة الطهطاوي ومنها هذه الكلمات التي شدا بها داعيا إلى بر الوالدين والتزام الأخلاق الحسنة معهما وقد وردت في صفحة ٩٥ :

في برِّ والديك بالغْ تغنمِ                 لا سيما في العيدِ أو في الموسمِ

وإن تَرُمْ سرورَ أمٍّ او أبِّ              يومًا فكسبُ العلمِ خيرُ مكسبِ

مَن رامَ عند الناسِ طر أن يُحَبّْ       فليلتزمْ حسنْ السلوكِ والأدبْ

وأنْ يكونَ طيبَ السريرةْ              مهذبَ الأخلاقِ ذاكي السيرةْ

ومما تقدم نخلص إلى أهم سمات فن الأنشودة عند رفاعة الطهطاوي والتي تتلخص في استدعاء نسق القصيدة الأصلية وكذلك الصور المتعارف عليها والتخيلات المتوارثة مع الاستعانة بصور من الواقع وتجسيد أحداث العصر فهي صور – كما توضح المؤلفة – تمتاز بالبساطة والعفوية وتلك سمة ظلت سائدة منذ العصور الوسطى حتى عصر الطهطاوي ، أما ألفاظه فكانت مباشرة واضحة سواء كانت من اللغة المتوارثة أو من لغة عصره ، فقد كانت واضحة الدلالة مفهومة القصد .

وقد أكثر رفاعة من استخدام شكل الرباعية والخماسية حيث يكون البيتان من أربعة أشطر تتحد القافية في أول ثلاثة ثم تختلف في الأخيرة لتعود لنفس القافية المشتركة عبر الأنشودة مثل :

وطنُنا تعززا            وبالهنا تحيزا

هل غيرُه تميزا        بسهلِهِ الممتنع

ويعود تأكيد الكاتبة بأن رفاعة هو رائد فن الأنشودة في الأدب العربي الحديث واول من قام بها ونهض بها لتمضي في طريق التطور لاحقا كما يحسب له أنه أول من كتب في الأشعار الوطنية ودوافع وركائز النهضة الحديثة كما تغنى بالجيش المصري وإنجازاته ،

ومن جانبنا نشير إلى الموضوعية في هذا الرأي والتلخيص وهذه الإشادة بدور الطهطاوي وريادته لفن الأنشودة وما ورد من نماذج هو أصدق وأقوى دليل على ذلك حيث كانت بداية النهضة العلمية والثقافية على يديه ثم فتح الباب لمن جاء بعده من المفكرين والأدباء والمصلحين .

–  النموذج الثاني ( الشاعر محمود محمد صادق )

ومن أهم شعراء الأنشودة كما ورد بالكتاب وهو الشاعر محمود محمد صادق ، من مواليد مايو ١٩٠١ تخرج في كلية الحقوق وانتسب إلى الآداب ولم يكمل الدراسة بها ، وقد نسج الشعر بالسليقة دون تعلم فن العروض ومن أبرز أعماله النشيد القومي ومنه هذه الأبيات من صفحة ١٠٠ :

بلادي بلادي فِداكِ دمي              وهبتُ حياتي فِدًى فاسلمي

غرامُك اولُ ما في الفؤادِ            ونجواك أخرُ ما في فمي

سأهتِفُ باسمِكِ ما إنْ حييت         تعيشُ بلادي ويحيا الملكْ

حياتُك يا مِصرُ فوقَ الحياةْ          وصوتُك يا مصرُ وحي الإلهْ

تعاليتِ يا مصرُ مِن موطنٍ          على الدهرِ يبقى وتفنَى عِداهْ

سأهتفُ باسمِكِ ما إنْ حييت         تعيشُ بلادي ويحيا الملكْ

وقد كان لهذا النشيد صداه في الداخل والخارج وتحدث عنه وتلقفه كبار المثقفين ورجال الأدب والاحتفالات العسكرية وقوات الجيش وبعد عرضها لأجزاء من القصيدة التي تعد بحق نموذجا وطنيا قويا ناجحا للأنشودة

وتقول الكاتبة  في صفحة ١٠٢ : ( إن هذا النشيد جاء محققا لكل غرض وطني لسلاسة لفظه ولحنه مما يناسب حاجة الشعب المصري والعربي سواء منه المثقف وغير المثقف .

ومما ساعد الشاعر على القيام بتلك المهمة والنجاح فيها هو رؤيته لحال البلاد إبان الاستعمار وكيف سادت روح الفداء وعلا صوت الحماس لدى الشعب وليس أدل على ذلك من هذا النموذج من أنشودة له بعنوان ( نشيد الحرية ) والتي صاغها منددا بنفي سعد زغلول ومطالبا الشعب أن يهب لنيل الحرية وألا يتنازل عنها مهما كانت التضحيات ونقرأ من صفحة ١٠٣ :

يا بني الأوطانِ هذا يومُكمْ              مَنْ لِمِصرَ يفتديها غيرُكمْ

صرخةُ الأوطانِ تدوي فوقَكم          تُوقِد النيرانَ في هذا الفضاءْ

فاتبعوها يا بنيها الأوفياءْ               وأروها كيف بالروحِ نجودْ

وتشير د مفيدة إلى دليل واضح على نجاح وانتشار هذه الأنشودة حيث جاء في هامش الصفحة أن هذا النشيد حاز تأييد الوفد المصري وتم طباعة ما يقارب مائة ألف نسخة منه يوم عودة سعد زغلول من المنفى وكيف استقبله الشعب استقبالا تاريخيا وكان سعد محبا للشعر متذوقا له وقد اولى اهتماما بالشاعر محمود محمد صادق وأبدى إعجابه بشعره وحسه الوطني الصادق الواضح وقد برز النبوغ الشعري للشاعر من خلال هذه المشاركات الوطنية ولم يكن قد أنهى دراسته بالحقوق مما يدل على موهبة وعبقرية فذة جذبت إليه الأنظار من الداخل والخارج .

ومن صفحة ١٠٥ نطالع رأيا خالصا بالمؤلفة  تقول فيه : ( إن رسالة الشاعر لا تقل وطنية عن أصحاب الشهادة من أجل الحرية ، فالشاعر جذوة لا تخمد ، وقبس لا ينطفئ ، ودعوة في سلسبيل عربي وترتيل شجي تسبيحا بقوة الله وتمجيدا لحق الوطن )

والحق أن الرأي السابق قد منح الشعراء مكانتهم اللائقة بهم وأوضحت دورهم العظيم في بناء الأوطان وترسيخ القيم الجمالية وهذه شهادة يفخر بها الشعراء على مر العصور .

ويعود الحديث عن  الشاعر محمود محمد صادق ونموذج آخر من فن الأنشودة لديه تلك القصيدة التي صاغها عند عودة سعد زغلول والتي أشاد بها العقاد خلال رسالته للشاعر راجيا أن يستمر دعمه للأدب المصري ، ومن صفحة ١١٠ نقرأ هذه الأبيات من قصيدة بعنوان ( صلاة في محراب الوطن )

سجد القلبُ بمحرابِ الوطنْ                 سجدةَ العابدِ موصولِ الشجنْ

وإذا الشاعرُ لم يَفدِ الحمَى                   فديةَ الزاهدِ في الدنيا ، فمَنْ

كاذبٌ في حبِّه مهما ادَّعى                  مَن تقاضى في الهوى أيَّ ثمنْ

هكذا العهدُ غرامًا وتُقى                     بين نعمَى وشقاءٍ وحزَنْ

ومن الجدير بالذكر أن المؤلفة لم تكتف بسرد النماذج وتوضيحها ورأيها كأديبة وناقدة وإنما استعانت بأراء المعاصرين للشاعر وذكرنا منهم العقاد وسعد زغلول وكذلك علي فهمي كامل الذي رأى بعينه أثرا قويا لنتاج الشاعر واصفا إياه بالملهب الموهوب ، كما أشادت به الصحف الأجنبية في مقارنة بينه وبين الشاعر الفرنسي روجيه دي ليل من حيث النشأة والموهبة والتأثير في عصره ويكفي الشاعر هذا اللقب الذي شهد به سعد زغلول وأحمد شوقي وهو لقب ( شاعر الثورة ) وقد فاز بجوائز كبرى في وضع نشيد مصر القومي عام ١٩٣٦ ودخل هذا النشيد إلى مناهج التعليم وترجم إلى عدة لغات .

–  النموذج الثالث ( أمير الشعراء أحمد شوقي )

ومن الشعراء الرموز لفن الأنشودة أمير الشعراء أحمد شوقي وكما نطالع من سطور الكتاب أن شوقي رفع راية الشعر الوطني بعد البارودي وأضاف إلى فن الأنشودة من موهبته الفذة وكذلك الشاعر محمود غنيم ، فعند ظهور شوقي كانت مشاعر الناس تحتاج لمن يعيد لها العزم والحماس ويدفعها نحو السعي للحصول على حقوقها في الحياة الكريمة ، ورغم ميلاد شوقي وتأثره بحياة القصور ورفاهيتها إلا أنه عايش مشاعر الشعب وأحلامه وآلامه مما أوقد داخله جذوة الوطنية فانطلق شعره يجوب القطر والأقطار العربية ، وقد حافظ شوقي على أنساق الشعر الموروثة لكنه أضاف إليها من موهبته وحماسته وفصاحته ثم كان لدراسته في فرنسا أبرز العوامل التي زودته بمختلف الثقافات .

ظل شوقي ينادي في أشعاره بالحرية والعدالة واستقلال الوطن حتى تم نفيه إلى إسبانيا عام ١٩١٥ بعد سقوط الخديوي عباس حلمي الثاني ، وخلال فترة نفيه كانت مشاعر الحنين إلى وطنه في أوج قمتها ثم عاد عام ١٩٢٠ وظل حتى نهاية حياته ينشد الحرية ويتغنى بالوطنية وأحقية مصر في مكانة عظيمة بين الدول وقد تم منحه إمارة الشعر عام ١٩٢٧ ثم كانت وفاته عام ١٩٣٢ ، ومن الفقرات الرائعة في نطالعها تلك التي وردت في صفحة ١٢٤ والتي تضيف للكتاب صفتي الموضوعية والواقعية ، حيث تعرض د مفيدة رأي الأديب عباس العقاد عن الشعر الوطني عند شوقي ثم تضيف رأيها مستعينة برأي د شوقي ضيف ، أما عن رأي العقاد فكما ورد بالكتاب : ( كان شوقي يحس الوطنية المصرية كما يحسها التركي المتمصر من طبقة الحاكمين أو المقربين إلى الحكومة وكان بمعزل عن الأمة في شعوره ولا يخامرها بعطفه ولا تخامره بعطفها ولا يناضل في ميدانها نضال من يهمه النصر والهزيمة ، فما نصر مذهبا قط من مذاهب السياسة الوطنية إلا في إبان دولته القائمة أو في الوقت الذي يأمن فيه سوء العاقبة ، وقد كان هذا مفهوما منه وهو في وظيفة مقيد بمراسم الديوان وأحكامه وليس هذا بمفهوم منه بعد خروجه من الوظيفة إلا على الوجه الذي قدمناه عن شعوره بالوطنية )

كان ما سبق هو رأي العقاد نصا ، وقد أشارت د مفيدة إلى مبالغته في ذلك الحكم وأكدت رأيها بالاستعانة برأي د شوقي ضيف والذي ورد في صفحة ١٢٤ : ( إن مشاعره في الوطنية مستخلصة من بلده وأبناء بلده كما يستخلص العطر من الزهر وهذا لا يغض من شوقي فسيان في وطنياته صدوره عن ذاته أو غيره أو عنهما جميعا فهو يغني شعبه ويغني نفسه ويعكس في مرأة شعره عواطف المصريين لسبب بسيط أو بعبارة أدق لتحول مهم طرأ في حياة الشعراء المعاصرين وهو أنهم نظموا الشعر لا لينشدوا الخلفاء والأمراء وبطاناتهم وإنما لينشدوا الجماهير وليتلوه الناس في الصحف )

ونستطيع الآن أن نعرض بعض النماذج التي وردت من أشعار أحمد شوقي ، ففي صفحة ١٢٥ تلك الأبيات التي ينشد فيها العزة والسيادة واستعادة أمجاد الماضي :

اليوم نسودُ بوادينا              ونعيدُ محاسنَ ماضينا

ويشيدُ العزَّ بأيدينا              وطنٌ نفديه ويفدينا

وطنٌ بالحقِّ نؤيدُهُ              وبعينِ الله نُشَيِّدهُ

ونحسِّنهُ ونزينهُ                بمآثرِنا ومساعينا

والأبيات واضحة في مضمونها وهدفها الساعي نحو العز والسيادة ، وعن تغنيه بجمال الوطن وما وهبه الله من محاسن ونعم تجعل منه جنة خضراء باقية ، تلك الأبيات التي وردت في صفحة ١٢٨ :

النيلُ العذبُ هو الكوثرْ             والجنةُ شاطئهُ الأخضرْ

ريانُ الصفحةِ والمنظرْ            ما أبهى الخلدَ وما أنضرْ

البحرُ الفياضُ القدسُ              الساقي الناسَ وما غرسوا

وهو المنوالُ لما لبسوا            والمنعمُ بالقطنِ الأنورْ

جعلَ الإحسانَ له شرعا            لم يخلُ الوادي من مرعَى

فترى زرعا يتلو زرعا            وهنا يجني وهنا يبذرْ

وقد تعددت النماذج التي ساقتها الكاتبة لتبرهن على دور شوقي وإضافته لفن الأنشودة فمن التغني بالوطن وجماله إلى مناشدة الرخاء وطلب العلم والرحمة بالحيوان وغير ذلك من الأهداف النبيلة ومن أمثلة ذلك ما أنشده مخاطبا العمال ما ورد في صفحة ١٢٩ :

أيها العمالُ أفنوا ال             عمرَ كدًّا واكتسابا

أينَ أنتمْ من جدودٍ               خلَّدوا هذا الترابا

قلَّدوه الأثرَ المع                 جزَ والفنَّ العُجابا

وفي نهاية عرضنا للحديث عن شوقي نود إضافة رأي لنا من خلال مطالعات العديد من قصائد شوقي وما كتب عنه : إن موهبة شوقي لا ينكرها أي عاقل وكذلك دوره العظيم في استعادة أمجاد الشعر وقوته ومن ثم دوره العظيم في فن الأنشودة وعشقه الفياض لمصر وشعبها وتألمه الدائم من عدم شغلها مكانتها اللائقة بين بلاد العالم وتلك قضايا عامة أي أنها تخص عموم الشعب بكل طبقاته ولكنه قلما خاض في الحديث عن الظلم الاجتماعي الداخلي والفروق الطبقية بين جموع الشعب وما تعاني منه الطبقات الدنيا من حرمان على يد الأعيان والإقطاع ، وربما كان ذلك هو الدافع وراء رأي العقاد عنه وهذا لا يقلل من رأي د مفيدة بل ربما يؤدي إلى تكامل في توضيح شخصية شوقي ومدى تأثيره الأدبي .

–  النموذج الرابع ( الشاعر محمود غنيم )

ومن رموز فن الأنشودة في الشعر العربي الحديث في مصر الشاعر محمود غنيم ، وقد ولد في إحدى قرى المنوفية أواخر عام ١٩٠٢ وتوفي عام ١٩٧٢ ، ونشأ على حب الشعر وقراءته بتشجيع من والده وخلال رحلته الإبداعية استمد روافد إبداعه من مدرسة البعث والإحياء وتأثر برائدها البارودي كما كانت وطنيته الشديدة وانتمائه الصادق لبلاده دافعا قويا لتكوين شخصيته الأدبية وتفرده بأسلوب في كتابة الأنشودة وقد كان يؤمن بأن الشاعر جزء من بيئته يتأثر بها ويؤثر فيها ويتضح ذلك من خلال ما ورد  بالكتاب في صفحة ١٣٥ حيث يقول الشاعر محمود غنيم : ( إن الشاعر جزء لا يتجزأ من زمنه وبيئته وما يحيط به من المؤثرات وبأن إنتاجه وليد هذه العوامل مجتمعة وبأن دراسة شاعر ما بعيدا عن إدخال هذه العوامل في الحسبان لغو لا غناء فيه )

وقد درس محمود غنيم في الأزهر وأصدر اول دواوينه حين كان عمره خمسة عشر عاما وترقى في المناصب العليا بوزارة التعليم ، أما خصائص شعره وفن الأنشودة لديه فقد كان صاحب معاني رقيقة وعبارات قوية وبلاغة متمكنة وصور جميلة وقد أبدع في أغراض عديدة منها الوطني والقومي والاجتماعي والتربوي ومن دواوينه : صرخة في واد ، في ظلال الثورة ، الشعراء والمعركة ، وقد تأثر بالبحتري في شعره الذي تميز بحلاوة الأداء وجمال التعبير وصدق الشعور .

وكما عهدنا في نماذج الشعراء السابقين ، تستعين الناقدة بأراء كبار المفكرين والمؤرخين عن الشاعر محمود غنيم ومدى إضافته لفن الأنشودة ، ففي صفحة ١٤٢ نقرأ من أقوال د محمد عبدالمنعم خفاجي هذا النص : ( محمود غنيم شاعر مصر الكبير ، شاعر عربي موهوب وعرف بالطلاقة الفنية والصدق في التصوير والتعبير والجمال البياني الآخاذ المشرق بالوضوح والإبداع والإلهام ، تناول شعره الوطني الكثير من شئون السياسة والحياة بكل جوانبها الاجتماعية والدينية في خيال خصب وموهبة عميقة الإدراك وأداء جميل ممتع وتوفيق بارع في رسم الصور والمشاعر ) وممن أشادوا بالشاعر محمود غنيم كل من يوسف السباعي والعقاد وعبدالعزيز الدسوقي وغيرهم ، ونقرأ في صفحة ١٤٣ رأي عبدالعزيز الدسوقي حيث يقول مخاطبا غنيم : ( عندما أردت أن أضعك في مدرسة البعث عصيت عليها وحينما أردت أن أضعك بين أبناء مدرسة الديوان وجدتك لا تستقر فيها وعلى رغم نبض العقل في شعرك لا أستطيع أن أضعك في مدرسة أبوللو ) وعند ذلك قال غنيم : يكفيني هذا .

ومن النماذج الشعرية التي وردت من شعر محمود غنيم نقرأ من صفحة ١٣٧ :

أنا العربيُّ الأبيّْ                    بربي وشعبي أُدينْ

شعاري سلامٌ يرفُّ                 ظلالًا على العالمين

وجوي حِمًا لا يباحُ                 وأرضيَ حصنٌ حصينْ

بلادي إذا ما انتسبتُ               إليها رفعتُ الجبينْ

وتوضح الأبيات مدى اعتزازه بعروبته ودينه وحماسته الزائدة في الذود عن وطنه ومدى عشقه لشعبه وفضل بلاده في نشر المحبة والسلام بين ربوع الكون ، كما توضح الأبيات مدى الدفقة الشعورية والموسيقية التي تتضح من خلال نغمات هذا البحر المتميز في فن الأنشودة وهو بحر المتقارب .

ونستدل أيضا بنموذج آخر من أشعار محمود غنيم والتي تعبر عن حسه القومي وتفاعله مع حق فلسطين في التحرر من الاحتلال الصهيوني حيث يقول في صفحة ١٤٠ :

إذا ما الحقُّ أنكرهُ الطغاةُ           ولم تظهرْه آيٌّ بيِّناتُ

فأفواهُ المدافعِ ناطقاتُ              وألسنةُ اللهيبِ لها لغاتُ

أثيروها فنحن لها جنودُ            وهم لجحيمها الحامي وقودُ

               إلى الوطنِ السليبِ غدا نعودُ

ومما تقدم نخلص إلى نجاح د مفيدة في عرضها لهذا الرمز الأدبي الشامخ المتمثل في شخصية وموهبة الشاعر محمود غنيم وكيف لعب دورا مهما وفاعلا في إرساء دعائم فن الأنشودة وقد برهنت على ذلك من خلال نماذج رائعة قوية خالدة من أشعاره التي أثبتت للجميع قوة الموهبة لديه وصدق الحس الوطني والانتماء المصري والعربي والإسلامي مما جعله رمزا ساطعا من رموز فن الأنشودة في الأدب العربي الحديث في مصر .

– النموذج الخامس ( الشاعر والأديب عباس العقاد )

ونصل إلى النموذج الخامس من أبرز شعراء الأنشودة وهو الشاعر والأديب والمفكر عباس العقاد ومن أهم نقاط حياته وهي أنه من مواليد أسوان عام ١٨٨٩ وتوفي بالقاهرة عام ١٩٦٤ ولم يحصل على قدر كبير من التعليم النظامي إذ اكتفى بالمرحلة الابتدائية ولكنه شق طريق العلم والفكر والثقافة بجهوده الشخصية وقراءته وتبحره في الثقافات الغربية وخاصة الإنجليزية فتأثر بها واستعان بمضامينها الشعرية والأدبية في التجديد حتى صار الشعر معبرا عن العواطف الإنسانية المتعددة ومدى علاقة الشعر بالأحداث الراهنة وحياة الناس وقضاياهم في مختلف المجالات الوطنية والقومية والدينية والتربوية ، كون العقاد مع صديقيه عبدالرحمن شكري والمازني مدرسة أدبية تحقق خلالها تصورهم لدور الشعر والأنشودة والتجديد في مضمونها ورؤاها وموسيقاها ، تلك المدرسة هي مدرسة الديوان وبالرغم من نزعتها الواقعية إلا أنها كانت تتسم بطابع الألم والحزن في أشعارها ويتضح ذلك من خلال ما سطرته د مفيدة في صفحة ١٤٧ حيث تقول :

( ومن الغريب أنهم حين اتجهوا هذه الوجهة سيطر الألم على نفوسهم فغدا شعرهم حزينا قاتما ، وكان هنا طبقة محدودة من المصريين تحاول النهوض بمصر في الدين والسياسة والاجتماع وظلت طبقتا الشعب الوسطى والدنيا لا تستطيع أن تحقق آمالهم ولا أن تنهض من كبوتها )

ثم يستمر الحديث لنعلم أن نتيجة لما سبق فقد تم التوجه إلى منزع الرومانسية وكان للعقاد دوره في هذا التوجه  وقام مع صديقيه شكري والمازني بمهاجمة المذاهب التي تسلك إطار الشعر العربي القديم رغم تمسكهم ببعض الأفكار والايحاءات من الشعر القديم ، كما كان للعقاد دوره الرائد في الفكر السياسي مستمدا بعض أرائه من كتاب وفلاسفة الغرب وكان بكتب في جريدة البلاغ الوفدية وقد تميز بوطنيته وعروبته يتلاحم معهما معبرا عما يدور من أحداث شاهرا قلمه من أجل قضايا الإصلاح وهموم المواطن ومن كلمات العقاد عن الشعر كما

ورد في صفحة ١٤٩ : ( إن من أراد أن بحصر الشعر في تعريف محدد كمن يريد أن يحصر الحياة نفسها في تعريف محدد )

ومن نماذج العقاد في فن الأنشودة تلك الأبيات من قصيدة ( التقديس ) وقد وردت بالكتاب صفحة ١٥٠ :

عارفُ التقديسِ روحيٌّ           وإن قدس جسما

ومهين الجسم جسميٌّ             وإن كان برهما

أنت بالتقديسِ تسمو              لا بما قدستَ تُسمى

وهي الأعينُ لا النورُ            التي تجلو وتعمَى

وهنا تتضح نظرة العقاد للعبادة في أنها معاناة روحية وانشغال فكري وقلبي وليس مظهرا خارجيا يوحي بالرياء وفراغ المضمون ، ومن نماذجه أيضا ذلك النشيد القومي والذي ورد في صفحة ١٥٢ :

قد رفعنا العلمْ               للعلا والفدى

            في ضمانِ السماء        

حي أرض الهرمْ          حي مهد الهوى          

               حي أمَّ البقاءْ

كم بنت للبنين              مِصرُ أمُّ البناة

            من عريقِ الجدودْ

أمة الخالدين               من يهبها الحياة

              وهبته الخلودْ

وقد لاحظنا في تلك الأبيات الواضحة مدى صدقه وفخره بأمته وبلاده ورغبته فَالْحقيقية في رفعتها ونهضتها ، كما نجد أيضا هذا التقسيم في عدد أشطر البيت والتقاء القوافي وتنوعها مما يوضح مدى تأثره بالأدب الإنجليزي وما أضافه من تجديد في بنية الشعر العربي القديم .

– النموذج السادس ( الشاعر عبداللطيف النشار )

ونقرأ في صفحات الكتاب من ١٥٦ إلى ١٦٩ إسهامات الشاعر عبداللطيف النشار في ترسيخ فن الأنشودة ، حيث هو أولا دمياطي المولد سكندري النشأة والإقامة وقد تأثر بالثقافات المتنوعة التي انتشرت في الإسكندرية نظرا لتعدد أطياف سكانها من العرب والأجانب ، كون النشار جماعة الشلالات وهي جماعة التقت حول الشعر وأخذت اسمها من حدائق الشلالات في منطقة باب شرق وكان لها دور ملحوظ في إثراء فن الأنشودة بعد التخلص من القيود الفكرية واستعانوا بالثقافات الأخرى في مضامين أشعارهم وكان النشار أحد أبرز أعضائها مع عثمان حلمي وزكريا جزارين ومحمد فريد الشوباشي وغيرهم وقد قام برعاية تلك المجموعة الشاعر عبدالرحمن شكري حيث كان معلما لبعضهم في مدرسة رأس التين الثانوية وقد ساعدهم شكري في انتقاء النماذج الجيدة من الشعر العربي والإنجليزي .

ومما أصقل موهبة النشار تأثره بأشعار أبيه وجده وحفظه للقرآن الكريم ودراسته للعلوم باللغة الانجليزية مما منحه مجموعة عوامل أتاحت له سعة الإدراك والمعرفة ثم عمل بالصحافة لمدة طويلة وقد تميز بأسلوبه الثائر على الأفكار والأشعار القديمة دون إضافة الجديد من سمات الأدب والشعر من الثقافات المعاصرة ، وتعرض لنا د مفيدة جانبا من رسالة طه حسين والتي يبدي خلالها تأثره برحيل النشار حيث يقول ما ورد في صفحة ١٦١ : ( كان شعوري العميق بالأسف والحسرة على ما لقي الشاعر الراحل في حياته من غبن وحرمان ، فإنه بموهبته الأدبية وكفايته الشعرية كان خليقا أن تتاح له عيشة راضية ، بل إنه بمشاعره القوية واستجاباته الوطنية كان جديرا أن يتوافر له كفاؤها من التقدير والتكريم ولئن مضى الشاعر عن دنياه وفي نفسه ما فيها )

ومن نماذج إبداعات النشار نقرأ في صفحة ١٦٣ بعض أبيات من نشيد له بعنوان ( نيل مصر ) وقد أذيع بعد معركة العبور عام ١٩٧٣ وكان الشاعر حينها قد غادر الحياة :

نيلُ مِصرَ مَن يصدُّك           مَن يردُّك مَن يحدُّكْ

نحنُ كالإعصارِ حولكْ         بأسُنا في الهولِ بأسُكْ

هبةٌ فيكَ سخيةْ                  مصرُ أم المدنيةْ

مصرُ مصرُ الأبديةْ            هي رفدُك وهي مجدُك

إلى آخر هذا النشيد الحماسي الذي يشعل العزيمة والإرادة ويحفز الهمم نحو التطلع للعزة والنصر ، وكان النشار إسهاماته في الأنشودة في مختلف الميادين التربوية والاجتماعية والسياسية كما ساق الأشعار على ألسنة الصغار والكبار ومنها ما قاله على لسان طفلة صغيرة في نشيد الغارات الجوية في صفحة ١٦٤ :

أنا ما زلتُ صغيرةْ           وأخي أصغرُ مني

غير أني مستنيرةْ             وهو لا ينقصُ عني

نعرفُ الغاراتِ طرًّأ          وأساليبَ الوقايةْ

إن أراد اللهُ أمرًا               مدَّ أسبابَ الرعايةْ

وهكذا تبرهن الأبيات على مدى الحس المرهف للشاعر عبداللطيف النشار ومدى إحساسه بالصغير والكبير ومدى الوعي والحكمة والثقة بقدرة الله من خلال فكر وعقل تلك الطفلة الصغيرة .

ومن صفحة ١٦٦ تلك الأبيات من نشيد له بعنوان ( صياح الديك ) :

غرَّدَ الديكُ صباحا            قبل أنْ أفتحَ جَفني

ملأ الدنيا صياحا             فلماذا لا أغني

مثله للصبحِ لحني            نغمةُ الديكِ تحيةْ

لسنا اليومِ الجديدِ             حلوة الوقع شجيةْ

أيقظتني من هجودي         كحلتْ بالنورِ عيني

ونلاحظ مدى خياله وعاطفته وتطلعه للنور والصفاء وكل قيم الخير والجمال ، إنه يغرد نحو أحلامه الجميلة كما وصفته د مفيدة بأنه غريد صادح يسيطر عليه الوحي الملهم والخيال والعاطفة وتوهج الوجدان الصادق وتلك كانت أهم الأسباب الداعمة لموهبته وبصمته القوية في فن الأنشودة .

– النموذج الأخير ( الشاعر محمود أبو الوفا )

ونصل إلى النموذج السابع والأخير من نماذج شعراء الأنشودة البارزين وهو الشاعر محمود أبو الوفا لنعرف أنه من قرية بتريس مركز أجا وقد سافر إلى دمياط بعد بتر ساقه وموت والده ، درس في المعهد الديني بدمياط ثم أكمل دراسته بالقاهرة وعمل بالتجارة نظرا لظروف معيشته القاسية التي تغلب عليها ودخل عالم الشعر وأنتج فيه إنتاجا غزيرا صافيا يعد من علامات فن الأنشودة في العصر الحديث ، تلك كانت أهم المحطات في حياة محمود أبو الوفا كما وردت في صفحة ١٧٣ بعد أن عرضت لنا د مفيدة جانبا من الهجوم الذي قاده العقاد وشكري والمازني علي الشعر التقليدي ولكنهم لم يعترفوا بدور خليل مطران في التجديد الذي أدى إلى ميلاد جماعة أبوللو على يد أحمد ذكي أبو شادي الذي أنشأ مجلة خاصة بهذه الجماعة وبين رسالتها وأهدافها ويتضح ذلك من صفحة ١٧١ حيث يوضح أبو شادي تأثير مدرسة أبوللو قائلا : ( الشعر العربي الآن يجول جولات موفقة في الوجدانيات والانسانيات بما لا عهد له به من قبل بهذه الدرجة أو الكيفية وقد أخذ يتأثر تأثيرا بالغا بالثقافة العلمية .

وقد ترك محمود أبو الوفا إبداعا راقيا من خلال عدة دواوين منها : أناشيد دينية ، أناشيد عسكرية ، عنوان النشيد ، وكانت مضامين الشعر عنده متنوعة ما بين النفسي والاجتماعي والوطني والإنساني والديني والقومي مما يدل على سعة أفقه ورحابة فكره ومدى نظرته للدور المهم للشاعر كمنتج للفكر الذي يوجه الجماهير إلى مصالحها وأهدافها .

وقد استعانت المؤلفة بعدد كبير من النماذج الشعرية عند محمود أبو الوفا وهذه النماذج منتقاة بعناية شديدة لدعم وإظهار موهبة الشاعر ودوره البارز في ترسيخ فن الأنشودة وذيوع نهجه ومدى تلفي الجماهير لتلك النماذج وأراء كبار المفكرين والكتاب عنها ونستعرض هنا بعض هذه النماذج ، ففي صفحة ١٧٤ نقرأ هذه الأبيات عن الواجب نحو الله والوطن والمجتمع :

للوطنِ وهبنا أنفسَنا             حبا في واجبنا الوطني

ونذرنا أنَّا ما عِشنا             نحيا ونموتُ فِدى الوطنِ

وجعلنا للهِ علينا                 يوميا عملًا لله

واللهِ مهما وفَّينا                هيهات نفي حقَّ الله

أما الواجبُ للمجتمعِ           فالعملُ له ثم العملُ

نأمل في أرقى مجتمعِ         ولنا البشرى ولنا الأملُ

والأبيات لا تحتاج لشرح فهي واضحة في مغزاها ومعانيها تمضي إلى المتلقي بسهولة ليتغنى بها كل من يسمعها فتنشأ في قلبه الحماسة وتتضح في عقله فكرة الواجب المقدس نحو ربه ووطنه ومجتمعه .

ومن النماذج التي تدل على فكرة الانتماء للعروبة وجمع الشمل العربي تحت راية واحدة تحفظ مبادئ الإخاء وتمنح الأمل نحو غد أفضل تحت الراية القومية الموحدة ، تلك الأبيات التي وردت في صفحة ١٧٥ :

لواءُ العروبةِ نعم اللواءْ              إذا قيلَ أين اللواءُ العلمْ

لواءُ الحفاظِ لحقِّ الوفاءْ             لحقِّ الجوارِ لحقِّ الذِّممْ

على صفحتيه تجلى الإخاءُ          لكل الشعوبِ لكل الأممْ

ومن طرفيه يشعُّ الرجاءُ            ويدعو لتمجيدِ كلِّ القيمْ

                 سلاما سلاما  لواء العربْ

وقد أكدت الناقدة أن الشاعر محمود أبو الوفا أجاد في تحديد خطواته الأدبية ونهجه وموضوعاته مما ساعده في تحقيق النجاح وترك الأثر العظيم في فن الأنشودة ومما أكدت به رأيها ما ورد في صفحة ١٨٢ حيث نقرأ رأي الرافعي عن نبوغ الأديب ونجاحه بصفة عامة : ( إن الشاعر لا يتم بأدبه ومواهبه حتى يكون تمامه بموضع نفسه الشعري الذي تضعه الحياة فيه )

وللشاعر محمود أبو الوفا اسلوب فريد وقاموس واضح يدل على إدراكه الشديد لما يريد وما يقول وقد أكد ذلك العقاد كما ورد بصفحة ١٨٤ إذ يقول : ( تخصيص اللغة بالتعبير عن صاحبها أهم من الجودة في العبارة والسمو في المعنى ، فإن المعنى الخاص أحوج إلى القدرة اللغوية من المعنى الرفيع والتعبير الجيد ) كذلك أشاد بشعر محمود أبو الوفا كل من محمد حسين هيكل وأحمد ذكي أبو شادي وميخائيل نعيمة وفؤاد صروف وغيرهم .

تلك كانت إسهامات رموز فن الأنشودة في ترسيخها ورفع لوائها وقد نهجت د مفيدة نهجا موضوعيا في الكتابة عن رموز هذا الفن فقدمت النماذج القوية والمشهورة واستعانت بأراء كبار الأدباء والنقاد والمفكرين ولم تكتف بذلك بل سجلت أيضا نظرتها الفاحصة كأديبة وناقدة لها بصمتها القوية في الساحة الأدبية والنقدية المعاصرة وبذلك قدمت للجمهور عدة وجبات فكرية متنوعة تستطيع أن تشبع نهم كل من يمضي بدرب الأدب والفكر والشعر الراقي المؤثر في وجدان الناس وذلك لروعتها وعظيم فائدتها .

– الفصل الثاني من الباب الثاني

يتناول هذا الفصل دراسة أكاديمية مفصلة عن الأنشودة وسائر فنون الشعر الأخرى ، تستهل د مفيدة الحديث بأراء علماء العربية والروحانيين والنقاد المعاصرين عن دور الشعر وأهميته وقيمة الشاعر في مجتمعه حيث يستطيع الشاعر أن يخدم وطنه خدمات جليلة ويساهم أيضا في إرساء رسالات السماء نحو الرقي ورفعة الإنسانية كما تصف الشاعر بأنه رائد اجتماعي وقائد وزعيم فكري كما ورد في صفحة ١٩١ .

ثم تنتقل إلى طبيعة الإنشاد في جذب آذان المستمعين وأهمية الموسيقى اللفظية التي تمثل العامل الأساسي في السيطرة على أسماع الناس ومن ثم مشاعرهم ، وقد أوضحت د مفيدة أن الوحدة البنائية في النشيد هي الشطرة فهي كفرد في الأسرة له خصوصيته لكنه يندمج تماما في الإطار العام للأسرة ، فكذلك الشطرة تمثل فكرة تبدو مستقلة ولكنها تتصل معنويا بالمغزى الكلي للأنشودة وهناك عاملان أساسيان لنجاح الأنشودة نطالعهما في صفحة ١٩٣ حيث تقول د مفيدة : ( على أن ملاك الأمر في هذا كله شيئان : أولا ، الكلمة الواضحة المحددة للمعنى الواضح المحدد ، والثاني هو معرفة كيف تستخدم هذه الكلمة المختارة إلى جوار أختها فإذا الذي بينهما من النسب أو من التناسب هو عين ما بين الإنسان وأخيه لأمه وأبيه وإذا بكل منهما في موقعها الصحيح كأنها العنوان الكامل على نسبها الصريح )

وقد استطردت الكاتبة في توضيح الفروق بين القصيدة والأنشودة نلخصها فيما يلي : تتميز القصيدة بالوصف والتصوير وألوان البلاغة الواسعة ويكتمل المعنى أحيانا من خلال عدة أبيات متتالية وينتقل موضوعها من فكرة لأخرى ويتنوع التعبير بأكثر من طريقة ، أما الأنشودة فلها هدف واضح صريح بكلمات معبرة صريحة مختصرة يقل فيها استخدام ألوان البلاغة وهي مثل القذيفة ( كما تسميها د مفيدة في صفحة ١٩٤ ) تغزو الآذان من خلال كلمة أو جملة واحدة توضح مدى براعة الشاعر .

وننتقل إلى المجال الأهم لمضمون الشعر عامة والأنشودة بصفة خاصة ، فكما توضح لنا د مفيدة أنه المجال الوطني وتوجيه الشعوب نحو حريتها ورخائها والتصدي للقوى العالمية الغاشمة وخاصة الاحتلال الصهيوني لأرضنا العربية في فلسطين وأجزاء من دول عربية أخرى وتبرهن لنا ذلك من خلال بعض الأدلة في صفحة ١٩٥ وما تلاها ومنها ما يلي : ( فإذا قلنا إن وظيفة الأدب والشعر بصفة خاصة التعبير عن مشاعر الإنسان إزاء الحياة فنحن نجد أن مشاعر الإنسان على الصعيد العربي مثقلة دائما بهذا التهديد الذي يواجهها في ضراوة من قبل الصهيونية ) ثم توضح لنا الأسس السليمة التي يخطط عليها الشاعر نهجه ودوره في هذه المرحلة ، وقد أفاضت في شرح ذلك على أسس علمية وأدبية تمتزج بالحس الوطني والحماسة الفياضة التي تنم عن عشق عظيم وغيرة أعظم على هذا الوطن ومن تلك الأسس المعرفة الصحيحة بالعدو والقدرة الفنية الأدبية في الإبداع والتأثير على الجماهير وكذلك روح الاصرار وملاحظة أثر الإبداع لدى المتلقي وأيضا الاعتماد على المنطق الإنساني دون مبالغات وأخيرا التفاؤل وغرس الأمل وتجنب اليأس والسلبية .

ومما تؤكده سطور الكتاب أهمية تنوع المضامين وعدم اقتصارها على مجالات التصدي للأعداء بطريق مباشرة ولكن رفض الظلم بصفة عامة وترسيخ قيم الجمال والحرية في شتى مجالات الحياة وإظهار الألم في المواقف الحياتية البسيطة والمعتادة ، كل ذلك يؤدي إلى مقاومة الشر والفساد وتقويض أركانهما .

وفي صفحة ٢٠٢ كتبت د مفيدة هذه الفقرة : ( إن القومية الصحيحة لا تبنى دون محبة لهذا الوطن الذي ضم أبناءه فمن يحب وطنه يحب الإنسانية جميعا لأن حب الوطن مؤلف من التعاطف والاحترام والتسامح والتضحية بعيدا عن الأنانية والتعصب والعدوان ) وبذلك فهي قدمت وصفا رائعا للقومية وتنويه لدور الشاعر في ذلك بما ألهمه الله من قدرة الإبداع والتعبير وإيقاظ المشاعر الغافلة نحو ما يدبره لها أعداء الحرية والسلام ومن خلال هذا الحس النبيل تلتقي قلوب وعقول الأسوياء في شتى بقاع الأرض لتنشد السلام والرخاء وتنبذ الشرور وسلب خيرات الآخرين .

ومن أهم دعائم الأنشودة وأقوى أركانها هي الموسيقى وكما سبق أن أوضحنا أن الموسيقى تمثل للأنشودة سر النجاح حيث تمضي إلى الأذن فتأسر المشاعر ومن أكثر الشعراء الذين اهتموا بالموسيقى – كما أوضحت المؤلفة – هو الشاعر حافظ ابراهيم حيث كان يجيد اختيار الموسيقى المعبرة والنغم الجميل المؤثر وربما كان على حساب الخيال وعمق الفكرة كما أجمع على ذلك بعض الأدباء والنقاد مثل أحمد أمين وخليل مطران ومحمد عبدالمطلب ومثال لذلك ما ورد في صفحة ٢٠٦ من أشعار حافظ ابراهيم في رثاء سعد زغلول :

يا ليلُ هل شهدتَ المصابا                   كيف ينصبُّ في النفوسِ انصبابا

بلغ المشرقين منذ انبلاج الصباحِ          أنَّ الرئيسَ ولَّى وغابا

وبرؤيتها النقدية – ونحن معها في هذا الرأي – تخبرنا أن هذه الأبيات تحوي ضوضاء وطنطنة دون ثروة عقلية أو عبرة أو عظة عن الموت ، وقد اهتم العقاد أيضا بانتقاء اللفظ ولكن لم يقع في فساد المعنى كما ورد عند حافظ ابراهيم

ننتقل بعد ذلك إلى نموذج من الأشعار الوطنية عند رفاعة الطهطاوي لنقرأ من صفحة ٢١٠ ما يدل على أركان الأنشودة كما قسمتها د مفيدة إلى مذاهب وأدوار : أولا المذهب وهو :

من أصلِ الفطرةِ للفْطِنْ           بعد المولى حبُّ الوطنْ

هبةٌ مَنَّ الوهابُ بها               فالحمدُ لوهابِ المنَنِ

ثانيا : الدور وهو :

للوطنِ كلٌّ ينتسبُ                 ومعاهدُهُ أمٌّ وأبُ

فصحيحُ العز له سببُ            يسمتلك صبا ذا شجنْ

وقد قدمت الكاتبة شرحا للأبيات وأوضحت أن العبارة الشعرية عند رفاعة الطهطاوي تقليدية وهي أقرب إلى الإرشاد والتقرير ، وكذلك ساقت لنا رأي طه حسين ومحمد حسين هيكل عن شعر مدرسة البعث والإحياء حيث يقولان إنه شعر مناسبات تتزين به حفلات التكريم والتأبين وخلافه ولكنها تعقب برأيها فتقول في صفحة ٢١٣ :

( وهذا تعميم قد لا يكون مقبولا إلى مثل هذه الحدة من الاندفاع والقارئ هو الفيصل في تذوق العملية الفنية ) ودليلها في دفاعها ذلك أن الناس مختلفون في المشاعر والأذواق والتجارب والرفض وأن من الممكن أن يتعايش الشاعر مع مناسبة ما فيتأثر بها فيأتي شعره معبرا صادقا ، ونحن نؤيد رأي د مفيدة ونضيف أن المناسبة جزء مهم من حياة الناس وتستطيع إحداث التغير في حياتهم سواء بالسلب أو بالإيجاب وكذلك فإن الحس الشعري والنظرة البعيدة للشاعر ترى ما لا يراه الآخرون في هذه المناسبة ، كما يعتبر هذا الشعر توثيقا وتوضيحا لمسيرة المجتمع ككل ومنها الأدب والشعر فلابد إذن من التجاوب مع الأحداث ولكن دون إغفال التعبير عن الحياة الواقعية ومشاعر الإنسان العادي وأماله وآلامه .

وتمضي السطور لتوضح وتؤكد ما للأدب والشعر من أهمية تفوق أحيانا أهمية وقوة السلاح بل هو السلاح الذي كان وسيظل متاحا للشعوب في ميادين الجهاد ، ثم نصل إلى أنشودة الشاعر محمود محمد صادق وهو شاعر الثورة المصرية وواضع نشيد مصر القومي الذي قضى حياته مدافعا عن الشعب داعيا إلى الصمود في وجه الأخطار ومقاومة الانهيار الأخلاقي والانحلال الاجتماعي ، ومن صفحة ٢١٥ نقرأ له هذه الأبيات من فن الموشح وعلى بحر الرمل :

انهضي يا روحُ من هذا الجمودْ            وذري الجسمَ إلى الأرضِ يعودْ

لن يماشيك إلى دارِ الخلودْ                 هيكلٌ ناء بأثقالِ القيودْ

هيكلٌ للموتِ فيه ما يريدْ                   حطمي الأصفادَ ما أفدحها

لم تدعْ للنفسِ ما يفرحها                    كلما تدعو المنى نطرحها

كلما ثارت بها نكبحها                       قبضة الأرضِ عليها من جديدْ

وبعد الأبيات السابقة نقرا عن  نشأة فن الموشحات وخروجه على نظام القصيدة المتوارثة في الأوزان والقوافي وكيفية تقسيم الأشطر ، كذلك تشرح ماهية المطلع والغصن والقفل وقد استعانت بكتاب النقد الأدبي للدكتور محمد غنيمي هلال كما يتضح من الهامش في صفحة ٢١٨ ، ثم تعرض لنا أحد النماذج التي جددت في فن الأنشودة من حيث الشكل والمضمون والموسيقى والايحاءات الشعرية وهذا النموذج للشاعر عبداللطيف النشار بعنوان ( ذئب وثعبان ) من صفحة ٢١٩ :

ذئبٌ وثعبانٌ بمصرَ تصاولا              سبعينَ عامًا والحياةُ هي الحكَمْ

يتغلغلُ الثعبانُ في جوفِ الثرى          ويظلُّ في الأعشابِ ما بين الإحَمْ

ويرى على الأغصانِ بعد هنيهةٍ         ويغوصُ في ماءٍ ويكمنُ في علمْ

وهذه الأبيات وبقيتها هي صدى للدعوة إلى الرمزية في الأدب كما يوضح محتوى الكتاب ،  إذ أراد أنصار هذا الاتجاه التجديد في أوزانهم والتخلص من سلطان القافية وقد نشأ هذا الاتجاه في اللغات الأوربية .

ننتقل بعد ذلك إلى نشأة فن مصري خالص هو فن الزجل وقد نشأ عن طريق صياغة محددة في اللحن والنغم لتعبر عن شعور صادق بموضوع ما وقد نظم فيه الشاعر أحمد شوقي وسار لعده كثيرون على نهجه ومما قاله شوقي ما ورد في صفحة ٢٢٣ :

النيل نجاشي         حليوه أسمر

عجب للونه          دهب ومرمر

وبعد ذلك نطالع إحدى قصائد شوقي ونعلم أسباب عدم إلقاء أشعاره بنفسه وشهادة معاصريه أمثال حافظ ابراهيم .

ومن صفحة ٢٢٥ نقرأ هذه الفقرة التي توضح أهمية الدين في النهضة الصحيحة الشاملة ، تقول د مفيدة :

( ولا يعتبر نهوض الأمة صحيحا إلا إذا كان شاملا لجميع اتجاهاتها الاجتماعية قائمة على عمد ثابتة من القومية الصحيحة ، ولما كان الدين بعناصره الأولى وبساطته الطبيعية أصل سعادة البشر ومنبع التشريع ومبعث الاجتماع وسر نجاح المجموع الإنساني وتهذيبه ) ونؤكد من جانبنا أن هذه الكلمات تدل على عقل واع وفكر عميق ونظرة صائبة ومرجعية سليمة ناصعة مشرقة منحها الله تعالى للمؤلفة لتعين من خلالها السعي الوطني والإنساني عامة نحو إرساء قواعد الحب والأمن والرخاء والتعاون لأن الدين هو السلام النفسي للإنسان وبدونه لن يتحقق السلام في المجتمع ولا في الكون وكأنها تقول للأجيال القادمة عليكم بالتمسك بكل ما يدعو إلى الأخلاق القويمة فهي الطريق الوحيد لاستعادة أمجادكم وإثبات هويتكم ، وقد ساقت لنا عدة نماذج منها تلك الأبيات للشاعر عبده بدوي :

ليلةَ الإسراءِ طوفي بأباريقِ الضياءْ         ثم صبِّي في نفوسِ الناسِ أفراحَ السماءْ

لم يزلْ فينا حنينٌ للأناشيدِ الوضاءْ          للوصايا من رسولِ اللهِ ربانِ الصفاءْ

ثم ننتقل إلى صفحة ٢٣٠ لنقرأ ما أوردته لنا عن الشاعر صالح الشرنوبي منذ ميلاده عام ١٩٢٤ ودراسته بالأزهر وثورته على مناهجه وحياته ثم انتقاله في عدة وظائف حتى استقراره بجريدة الأهرام في قسم التصحيح وظل بها حتى وافته المنية تحت عجلات القطار في بلدة بلطيم بمحافظة كفر الشيخ ، وقد رأى أن الأنشودة اقرب لأهدافه وبحثه عن الحرية فسلك فيها مسلكا حميدا وترك أثرا قويا ما زال معروفا لنا ومنه هذه الأبيات :

هاهنا يا شمسُ مجدٌ لم يزلْ             صوتُه يملأ ُأسماعَ الليالي

أيقظ الدنيا صداهُ في الأزلْ             وله عاش الفراعين الأوالي

نيلُنا بارك اللهُ علاهُ ورعاه             مجدُنا سار في أنوارِه ركبُ الحياةْ

ساحرُ الاضواءِ زاهي الأفقِ           يتغنى باسمهِ كلُّ لسانْ

ويتضح من خلال الأبيات مدى إيمان الشاعر الراسخ بأهمية الحرية والاعتزاز بالأمجاد الضاربة في عمق التاريخ وكيف أن الله تعالى أيد هذه الأرض وباركها فصارت أغنية تشدو بها كل الأمم ، وقد نجحت الأنشودة في التعبير عن هذا الغرض وتلك المشاعر الجياشة التي لا تتنازل عن عقيدتها وهذا الاختيار يشير إلى مدى توفيق الله تعالى للدكتورة مفيدة حيث خدم الأنشودة بقوة وأكد قيمتها العظيمة في نفوس مبدعيها ومتلقيها .

ومن الأمثلة البارزة أيضا في فن الأنشودة الشاعر حسن كامل الصيرفي وقد أخبرتنا د مفيدة أنه كان منطويا ومتأثرا بعدم تقدير شعره بالصورة اللائقة به فراح يشدو بالألم والمشاعر القاسية التي يحياها فأفادته تلك الظروف في التعبير عن أحداث الأمة بصفة عامة ، ونقرأ من نشيد له بعنوان الثورة تلك الأبيات من صفحة ٢٣٣ :

تحركْ من سُباتِك يا فتاها                وأرجِعْ عزمَها وأعِد قواها

فقد طغت الخطوبُ على حِماها         فواها للأبِيِّ إذا تلاها

تحركْ يا أبيَّ الضيمِ وانهضْ          فحقُّكَ في بلادِك بات يُرفَضْ

وأيُّ جفونِ مسلوبين تُغمَضْ          إذا ما الأُسْدُ دِيسَ على حِماها

بلادُك لقمةٌ في عينِ جائعْ              وحقُّكَ نهبُه في كفِّ طامعْ

وأنتَ مع المذلةِ حدُّ قابعْ               فقمْ وأزِح عن النيلِ السفاها

وبعدما تقدم ،  نقول بكل موضوعية : ما أجملها وأروعها وأصدقها من أبيات تحتوي على جمال اللفظ وعذوبة الموسيقى وخفة الإيقاع وتنوع القافية ، إن مثل هذه الأبيات تعد شاهدا قويا على نجاح فن الأنشودة وتضامنها مع مصالح الوطن والشعب ومدى حماسة وصدق قائلها مما جعلها تستقر في العقول والقلوب وترددها الألسنة لتمنحها الصمود في سبيل تحقيق الغايات النبيلة .

ومن صفحة ٢٣٥ إلى ٢٤٨ تأتي خاتمة الكتاب وتتناول أربعة مضامين أساسية نوضحها فيما يلي :

المضمون الأول كما ورد في صفحة ٢٣٥ بأن الأنشودة أغزر فنون الشعر وهي الأم الأصيلة له حيث تتميز بصدق الأحاسيس ونبل الأهداف وتمتلك القدرة على تحريك مشاعر الجماهير كما تؤكد أهمية دور الشاعر وامتلاكه لأدوات لا يمتلكها أرباب السياسة وقيادات الجنود ، ثم يأتي المضمون الثاني لاستعراض محتوى الكتاب وتقسيمه لأبواب وفصول والعناوين الأساسية والفرعية ، ويذكرنا المضمون الثالث بالقصائد التي تم الاستعانة بها ولكنها هنا تأتي كاملة مرتبة من الاقدم إلى الأحدث وهذه القصائد تعد زادا أدبيا عقليا لكل من اراد البحث والاطلاع على رواد فن الأنشودة ، أما المضمون الرابع فيحدثنا عن خلاصة النتائج التي تتضح من محتوى الكتاب ومن قراءته التفصيلية وقد لخصتها د مفيدة في عشر نقاط  نعيد صياغتها كالتالي :

١ – تميز وطرافة الأنشودة وقوتها في التصوير والأداء

٢ – مكانة الأنشودة بين فنون الشعر وصلتها بالأهداف المتنوعة

٣ – مثالية الأنشودة الدينية والوطنية ونبل أهدافها

٤ – التأكيد على وجود أسس راسخة وقوية لفن الأنشودة مما حفظ لها مكانتها بين فنون الشعر

٥ – مدى تأثر الجماهير وتفاعلها مع فن الأنشودة

٦ – ازدهار اللحن والغناء بازدهار وقوة الشعر في فن الأنشودة

٧ – مدى سعة فن الأنشودة واستيعابها لكل الأحداث الوطنية والقومية

٨ – أثر الدين الواضح في فن الأنشودة حيث تستعين بالقران والسنة النبوية

٩ – الجملة القصيرة والوزن القصير أو المجزوء من أهم أدوات نجاح الأنشودة وتغني الجماهير بها

١٠ – ثراء الأنشودة وتنوعها في القافية والوزن وتكرار بعض الفقرات أو الاشطر مما جعلها مختلفة ومتميزة عن القصيدة التقليدية .

ومن صفحة ٢٤٩ إلى صفحة ٢٥٦ نجد سردا واضحا لكل أسماء المراجع والدواوين والمجلات والدوريات والمقالات التي استعانت بها د مفيدة خلال رحلتها مع فن الأنشودة ، ثم تأتي الفقرة المكتوبة على الغلاف الخلفي للكتاب والتي يحق لكل شاعر أن يتغنى بها بل وينقشها فوق تاج يعد أغلى وأخلد من تيجان الأمراء والملوك ، تلك الكلمات التي تكفي الشاعر عن كل الجوائز والأوسمة ، فهي تضع الشاعر في مقدمة صانعي النهضة ومحركي الجماهير لأنه – كما تصفه د مفيدة – يملك من أدوات الإثارة والتحريك ما لا يملكه الساسة وقواد الجيش .

وفي ختام هذه القراءة  لهذا الكتاب القيم والمهم جدا نستطيع أن نلخص شهادتنا عنه في النقاط التالية :

١ – هذا الكتاب جدير بأن تقام حوله الكثير من الندوات والمناقشات الأدبية واللقاءات الإعلامية

٢ – يستحق أن يكون في طليعة الكتب بجميع المكتبات المدرسية والجامعية والعامة

٣ – يستحق أن يتم تدريسه ضمن معينا لمناهج التعليم وخاصة المرحلة الثانوية ودليلا للمتخصصين في دراسة الآداب من طلبة الجامعات

٤ – يعد مرجعا مهما لكل الباحثين في فن الأنشودة وذلك لقلة عدد الكاتبين فيه بالقياس إلى فنون الشعر الأخرى

٥ – يتميز الكتاب بحسن التقسيم وتنوع الأسلوب وجماله وإثبات كل فكرة بتاريخها وظروفها

٦ – يبرهن الكتاب على مدى إيمان د مفيدة واعتزازها بقيمة الشعر ونبل غايته وأهمية دوره ومنه بالتأكيد فن الأنشودة

٧ – ملاحظة مدى الجهد الشاق المبذول في جمع محتوى الكتاب والمراجع ودواوين الشعراء  – حيث صدرت طبعته الأولى عام ٢٠٠٥ قبل التوسع في استخدام شبكة الإنترنت – وكذلك مدى معايشة د مفيدة لكل ما قرأت وما كتبت حتى تقدم لنا هذا العمل الرائع

٨ – مدى حب المؤلفة لوطنها وغيرتها الشديدة عليه وعلى كل بلادنا العربية والإسلامية وكذلك وعيها الشديد بأهمية قوة بلادنا

٩ – يتميز الكتاب بالموضوعية الشديدة في طرح الأفكار وأراء كبار النقاد والمفكرين والتنوع الواضح بين الأراء وخاصة في تناول رموز فن الأنشودة

١٠ – مشاركة الناقدة برأيها  الخاص في كل فكرة  بعد سرد ما استعانت به من شهادات النقاد والمفكرين

١١ – يحتوي الكتاب على نداءات مفهومة وإن كانت غير صريحة بأهمية رعاية المواهب من الشعراء وفتح منصات الإعلام امامهم ومنحهم الجوائز التي تناسب ما يبذلونه لخدمة الوطن

١٢ – سيظل هذا الكتاب واحدا من أهم الكتب الملهمة للحماسة واليقظة في الدفاع عن أوطاننا ضد ما يحاك لها من الفكر الاستعماري الغربي بكل صوره وفي كافة المجالات وأهمها الثقافية والاقتصادية لأن هذا الفكر الشرير لم ولن يتوقف أبدا وستظل بلادنا – بما منحها الله من مواقع استراتيجية هامة وكنوز لا تعد ولا تحصى – محط أنظار القوى العالمية ومطمعا لكل قراصنة العالم

١٣ – تعتبر الناقدة نموذجا ومثالا مشرفا لكل النقاد الذين يبحثون في جواهر الأعمال الأدبية الخالدة التي تضيف للعقل العربي الكثير والكثير

وأخيرا أقدم اعتزازي الشديد بهذا الكتاب وبصفتي شاعرا وأديبا فقد أفادني كثيرا من الناحية الفنية والإبداعية وهو بلا شك مفيد لكل الأدباء والشعراء ومحبي الأدب والمخلصين من أبناء الوطن ونقدم كل التهنئة للأديبة والناقدة د مفيدة إبراهيم علي عبدالخالق بهذا الإنجاز الأدبي التاريخي وهو واحد من مؤلفاتها القيمة والمتعددة التي تضيف الكثير للمكتبة العربية والعالمية وإلى مزيد من الإنجازات

           الشاعر والأديب محمد الشرقاوي

 مقرر اللجنة الفكرية بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.