” نحمدو ” .. فصة قصيرة يكتبها الإعلامي محمود عبد السلام 

تأخر الحلم طويلاً لكنه تحقق بعد معاناه مريرة ، وأصبح لنحمدو موضع قدم فى شارع الزعيم ،

كانت بنت لأبوين لم ينجبَا غيرها ،أحتملت معهما ضنك الحياة وقسوتها ، الفقر قاتل أعمى لا يتمكّن إلا من البسطاء ، يغرز أسنانه فى عروقهم ، ويمتص دمائهم ، ولا يتركهم إلا موتى أحياء ،

هكذا رحلا أبواها بعد أن عانا من شظف العيش ، غادروها ولم يتركَا شيئاً يذكر يعينها على مواجهة الحياة ، أدركت أن كسب العيش مر ، خاصة لفتاة فى ريعان شبابها ، إن نجت من الطامعين فيها لن تنجو من رزالة الآخرين ، مادامت الحياة مستمرة لابد من إيجاد مصدر للرزق ،

فى أحد الأيام كانت تمر ناحية شارع الزعيم ، لاحظت الفوضى التى تضرب الشارع ، السيارات فوق الأرصفة والمحلات أحتلت جزءاً من نهر الشارع والقهاوى تمتد حتى منتصف الطريق ،

قفز فى ذهنا أنها لو أستطاعت أن تضع أى نشاط يدر عليها دخلاً فى هذا الشارع ، قد حققت منتهي الأحلام ، مثل هؤلاء الذين يتقافزون كلاعبى السيرك يبيعون ويشترون ويخالفون القانون ،

سيارة من الخردة تكفى مع بعض التعديلات ثم تجهز شنطة السيارة بسخان غازى ، وقارورة مياه كبيرة وبعض أكياس الشاى والقهوة والسكر ،

تحايلت على أحدى الجارات حتى منحتها مبلغاً مالياً يكفى لأقامة مشروعها ، فهى لا تريد أكثر من الستر ! والستر

بالنسبة لها كثير ، قليل من الطعام لوجبة واحدة فى اليوم يكفى ، ومأوى فى أخر الليل يحميها من مضايقات

الطامعين ،

اول يوم عمل نظرت الى السماء ودعت ربنا بالرزق والستر وتوجهت نحو الشارع ، أختارت مكاناً ضيقاً بين عربيتين

يصنعان سندوتشات الكبده والسجق ، تعشمت أن من يتناول الطعام يحتاج إلى كوب من الشاى ليحبس ،

مرت ساعات الصباح لم يسألها أحد عن أى طلب ، أملت فى بعد الظهر حين يأتى الزبائن لتناول الغداء الرخيص ، أول

سيدة أتت طلبت من عربية الكبدة ساندوتش لله ، ثم مرت عليها فأعطتها كوب من الشاى بلا مقابل ،

مر اليوم الأول كله دون أن تحصل على أى نقود ، توالت الأيام وهى تقف فى مكانها الضيق تنتظر ، وشيئاً فشيأ ،

بدأت تُعْرف “نحمدو”  فى الشارع ، المال القليل الذى كانت تحصل عليه كان مصدراً لسعادتها خاصة اذا تعدت

مبيعاتها الخمسون جنيه ، تسدد جزء من الدين وتوفر بعض المال لشراء ما ينقص من الشاى والقهوة ، وتأكل

بالباقى

خمس سنوات مرت على “نحمدو” وهى لم تبارح مكانها فى شارع الزعيم ، حتى ذات يوم تناه إلى سمعها بوجود

انتخابات هامه بعد شهر ،

كانت ترى بعض رجال الشرطة فى الزى الملكى وهم يترددون على القهاوى والمحلات بالشارع ، ثم تشاهد فى

اليوم التالى اليافطات ترفع بعرض الشارع تؤيد ،

لم تكن تفهم مايدور بالتحديد ، لا يعنيها الأمر من قريب أو بعيد، رزقها أولىَ بالنسبة لها عن أى حدث أخر ، حتى جاء

الدور عليها، فى أحد المساءات بينما “نحمدو” منهمكة فى عمل الشاى للزبائن ، شعرت أن هناك ظلاً ثقيلاً يقف

خلفها يحيل بينها وبين الهواء ،

وقبل ان تتلفظ بأى لفظ أستدارت فوجدت وجهاً أعتادت أن تراه فى الشارع ولم تلق له بالاً قبل ذلك ، طلب منها

بصوت أجش يأتى من خلف جدار وأسلاك شائكة وأنفاس تحمل عفن جدران الزنازين الرطبة ، تنحى بها جانباً ، كانت

نظراته الحادة تتفحص جسدها بشهوة ،

فأخذت تلملم ملابسها حول جسدها كأنها تتقى نظراته وتبلغه بشكل غير مباشر بأنها تفهم جيداً مغزى نظراته

الوقحة ، أبتسم أبتسامة صفراء خبيثة فبانت أسنانه الصفراء المتهالكة بفعل الدخان الرخيص ،

أستبد بها الخوف ثم أستجمعت قوتها التى أستمدتها من حركة الشارع حولها ، وسألته خير ياسيادة الأمين ؟ أى

خدمة ؟

الخدمة ليست لى وأنما للحى .

– وأنا تحت أمرك وأمر الحى .

– ⁠نحتاج إلى يافطة للتأيد حتى يظهر حَيِنا بمظهر لائق كبقية الأحياء .

– ⁠لكنى لا أملك سوى ما يعيننى على الحياة ، ثم أننى من هنا لم يعد ضوء الشمس يصلني من كثافة اليفط أعلى

الشارع !

– ⁠كنت متوقع منك الرد ده .. المعلومات التى تصلنا عنك بتأكد أنك ضد التأييد .

– ⁠أبداً أنا لا أعرف شيئاً عما تقول ! ولا يهمنى سوى مصدر رزقى .

– ⁠ مصدر رزقك المخالف للقانون ؟

– ⁠أنا مثل بقية كل شارع الزعيم أحاول أن أجد رزقاً حلالاً فهل هذا يؤذيك ؟

– ⁠يؤذينى فى عملى لأنى لم أسجل لكى مخالفة لتدفعى الغرامة .

– ⁠فهمت أعطينى فرصة حتى صباح الغد إما أوفر لك نقوداً .. أو أغادر شارع الزعيم .

– ⁠أنشغل فكرهاو عقلها طوال الليل بأيجاد حل لهذا المأزق !

– ⁠فى الصباح الباكر تفتق ذهنا عن حل يضمن لها البقاء بشارع الزعيم ، ذهبت عند صلاة الظهر لشيخ المسجد

وطلبت منه كفن أبيض على أن تسدد ثمنه على أقساط ،

لكنه رفض ومنحه لها كصدقة دون مقابل ، ثم ذهبت الى محل البقالة واشترت مسحوق الزهرة وبعضاً من مسحوق

النيلة ، وأتت بجريدة من سعف النخيل وهيأتها على شكل مدبب ، ثم وضعتها فى محلول الزهرة المختلطة بالنيلة

وكتبت.. ( نحمدو بائعة الشاى تؤيد وتبارك شارع الزعيم وتقدم لكم بهذة المناسبة السعيدة الشاى والقهوة مجاناً )

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.