عبد الناصر البنا يكتب : الحنين للماضى !!
هو ليس حنينا بقدر ماهو حسرة على التراث الذى فرطنا فيه ، بالقدر الذى بدى أنه يتسرب من بين أيدينا ، بل ويتلاشى ونحن لانبالى بذلك ،
ولاندرى أن كان ذلك تفريطا فى ماضينا أو هو الـ “حداثه ” بهذا المفهوم المتغول ، وفى كل الأحوال نبقى ” كمن رقصت على السلالم” كما يقول المثل لا إستطعنا أن نحافظ على تراثنا ولا “إتشعبطنا ” فى سبنسة الحداثة !!
من خلال متابعتى لبعض القنوات والفضائيات الأجنبية ، لفت نظرى أن دولا مثل ” إنجلترا ـ فرنسا ـ إيطاليا ” على سبيل المثال شديدة الحرص على تراثها ،
سواء كان مبان أثرية أو أحياءا سكنية بعينها أو شوارع أو حتى أعمدة إنارة وأرصفة شوارع ومحطات للسكك الحديدية ، ويظهر ذلك جليا فى الأعمال الدرامية التى نشاهدها على شاشاتهم ، والتى عمد القائمون عليها على تصويرها فى أماكنها الطبيعية
تماما كما كانت تفعل الدراما السورية والتركية التى صُدرت إلينا بعد أن وأدنا قطاع الإنتاج فى التليفزيون المصرى الذى صدر قوتنا الناعمة للعالم أجمع من شرقه إلى غربه ، وللدول العربية من محيطها إلى خليجها .
قصدت أن أقول أن الحفاظ على التراث هو حفاظ على الهوية ، ومن ليس لديه ماضى لا حاضر له ولا مستقبل ، أقلب فى الذاكرة على القصور التى حوتها مصر من شمالها إلى جنوبها ، والتى ترجع إلى حقبة زمنية كانت فيها حديث العالم لأسأل نفسى : ماذا تبقى منها اليوم ؟ .
ولكن قبل الإجابة على هذا السؤال ، أود أن أشير إلى أن مصر وفقا للإحصائيات الرسمية ، فيها من المبانى الأثرية والتراثية وفقا للإحصائيات الرسمية الصادرة عن “جهاز التنسيق الحضاري”، نحو 6500 مبنى في العديد من محافظات مصر مثل القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية، وبورسعيد ، والمنيا وأسيوط وغيرها .
والمؤسف أن 75% من هذه المباني التراثية فقدتها مصر خلال 3 سنوات من 2011 إلى 2014 على الرغم من أن مصر بها قوانين لحماية المباني التاريخية والتراثية ذات الطراز المعماري الفريد ، ومنها القانون رقم 117 لسنة 1983 ” قانون حماية الآثار “، الذى تم تحديثه في عام 2010 وهو الذى يحمى ويعطى تعريفا لمفهوم المباني الأثرية أو التراثية .
ولعلنا نتذكر عندما تم تعطيل هذا القانون عندما كان الدكتور عاطف عبيد رئيسا للوزراء ، وتم هدم أكثر من 83 عقارا ذات طابع معمارى فريد تصنف كونها أثرا خلال 24 ساعة !! .
ولو رجعنا إلى الوراء قليلا إبان فترة ثورة يوليو 1952 كانت مصر تحتوى على قصورا تاريخية بني معظمها خلال القرن الـ 19 وأوائل القرن الـ 20 ، ما بين عامي 1860 و 1940 ،
وكانت أيقونة العصر الذهبى لفنون العمارة ، وكانت هذه القصور هى الشاهد على العصر ، وعلى التحولات التى حدثت فى المجتمع المصرى سواء كانت ” سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية ” وللأسف طمس الكثير من معالم هذه القصور وتحولت إلى مدارس أو مقارا لهيئات أو وزارت أو حتى أقسام للشرطة ، وإصطبل للخيول
كما قرأنا منذ فترة عن أحد القصور التاريخية فى مدينة بورسعيد ، إلا ما شاءت لها الأقدار أن تتحول إلى متاحف . وهذا واقع عشناه .. ولايمكن لأحد أن ينكره .
أما اغلب محتويات تلك القصور للأسف نهب مانهب منها ، وأهدى ما أهدى ، ولكن الحمد لله على القليل المتبقى من قصور أسرة محمد على لـظل شاهدا على العصر !!
عندما يعاودنى الحنين إلى الماضى وأعود إلى الجنوب أفضل أن تكون رحلتى بالقطار نهارا ، وكنت دائما وأبدا أطل على نافذة القطار أتامل جمال محطات القطار التى بنيت على الطراز الإنجليزى ،
والمعلوم أن مصر هى ثانى دولة فى العالم فى خطوط السكك الحديدية ، بعد إنجلترا ، ففى عام 1851 م بدأ إنشاء أول خط سكك حديدية فى مصر ، بعد أن انتهى الإنجليز من مد الخط بين ” ليفربول ــ ومانشستر ” أى منذ قرابة الـ 173 عاما ، وشيدت على طول الخطوط المحطات والبرجولات بطريقة هى غاية فى الروعة والجمال .
كنت أذهب إلى محطة القطارات فى مدينة ” نجع حمادى ” مسقط رأسى قبل موعد القطار بساعة لـ أتأمل فى جمال المحطة والبرجولات المشيدة على الطراز الإنجليزى ، لأفاجأ فى إحدى زياراتى القريبة بأن المحطة تم تكسيرها بالكامل وإعادة تجديدها ، ولكن بدون ” البرجولة ” الجميلة التى كنت أجلس تحتها وأتامل فى جمالها ، وللأسف لم تعد لمكانها مرة ثانية بعد التجديد ،
وقد بيعت لتجار ” الخردة ” وياللقبح وضعت بدلا منها برجولة من الصاج المتعرج ، لاذوق ولاجمال ولالون ولاطعم ولاحتى رائحة من الماضى وعبقه فيها ، إنها ” الحداثة ” فى ثوبها العفن ، أو قلة الذوق إن شئت قل !!
الإنجليز لم يكتفوا ببناء محطات السكك الحديدية فى شمال البلاد وجنوبها بطرزها المعمارية المتميزة ، وإنما أقاموا المبانى الإدارية ، والسكن للعمال ، أيضا بمعايير ومواصفات لاتخلو من الذوق والجمال ،
وكم كنت أتمنى لو أتيحت لى الظروف لتوثيق تلك المبانى قبل أن تمتد إليها أيادى مقاولى الهدم ، ولكن للأسف قطار العمر يجرى والـ إلتزامات تزداد ، والحياة تتسارع ، ويعوض علينا ربنا فى ماتم هدمه من تلك التحف ، ويبارك فى ما تبقى .
والشىء بالشىء يذكر ، ولعلنا نتذكر ” كوبرى أبو العلا ” الذى كان يقطع نهر النيل ليربط بين حي الزمالك الراقي وحي بولاق أبو العلا الشعبي ، هذا الكوبرى كان تحفة هندسية بكل ماتحمله الكلمة ، بناها المهندس الفرنسي ” ايفل ” اللي قام ببناء برج ايفيل الفرنسي الشهير ، بواسطة شركة إنشاءات فرنسية اسمها ( فيف ليل ) fives lille وتم إفتتاحه فى عام 1912 ، في عهد الخديوي عباس حلمي ، بوصفه واحدا من أشهر المنشآت في القاهرة الخديوية ،
وفى غفلة من الزمن قامت شركة المقاولون العرب بتفكيكه سنة 1998 من أجل بناء كوبرى الزمالك الجديد ، وأين هو اليوم ؟
إن ماتبقى من حطام هذا الكوبرى النادر بعد أن سرقه لصوص الخردة ، هى جاثمة اليوم جثة هامدة تحت كوبرى الساحل بروض الفرج تبكى زمانا هان فيه كل شىء ، والسؤال الذى أسأل نفسى عنه دوما أين جهاز التنسيق الحضارى ؟
وأرجع لـ أطيب خاطرى وأقول تاااه فى الزخام ، وهو كان فين جهاز التنسيق الحضارى عندما تفتق ذهن المسئولين عن إقامة جراج للسيارات فى حرم محطة السكة الحديد فى رمسيس المسجلة ضمن قائمة أفضل المبانى الأثرية فى مصر التى صممها المعماري البريطاني ” أدون باتر ” على الطراز العربي الإسلامي في عام 1856 ، وعندما إرتفع بنيان الجراج وظهر الحمل السفاح قامت الدنيا ولم تقعد إلى أن تم تسويته بالأرض !!
والله .. إن دولا بعينها تجاورنا ، تحاول أن تصنع لها تاريخا من لاشىء ، ونحن للأسف لاقيمة للتاريخ عندنا ، نحن نفضل إعلانات طارق نور ” إنسف .. حمامك القديم ” ولكن ستبقى مصر إن شاء الله قبلة كل حاجه حلوه فى العالم .. فقط ندعو الله أن ينير بصيرتنا .. دمتم سالمين !!