تسلل بصيص من ضوء الشمس خلف سحابة رمادية ، ستتحول إلى مطر غزير بعد قليل ، ضوء الشمس مسجون خلفها ، بعد محاولات نجح أن يخترقها من أطرافها ، داعب الشعاع الواهن وجهه ، حاول أن يهرب منه إلى متابعة النوم تحت الغطاء الثقيل ، أصر الشعاع على متابعة وجهه الناعس ، تثائب فى كسل كقط أليف يلعق يديه ثم يمسح بها وجهه ، بعد قليل من الهروب أستسلم ، أدرك أن صباح هذا اليوم قد بدأ ، يوماً جديداً آخر ، نفس البدايات ، لا جديد فى صباح هذا اليوم يُنتَظرّْ ، تردد رمشه المتوتر محاولاً فتح عينيه ، أول ما طالعه كان ضوء الشمس الواهن ، والدولاب القابع كتابوت فرعونى قديم أُخْرجَ توه من مقبرة العمال بجوار أهرامات الجيزة ، اللون الكالح يدعوه للسأم ، أدار وجهه وهو يفركه بكلتا يديه ، فأنعكس جسده المسجى على السرير فى المرآة القديمة ، تبدت ملامح وجهه شائهه غير منتظمة يظهر بعضها ويختفى البقية خلف البقع السوداء المنتشرة على صفحة المرآة المتأكلة، الباب المفضى إلى الصالة مغلق كما هو ، كما تركه ، ، فى كل يوم ينتظر من سيأتى للاطمئنان ولا أحد يحرك باب الحجرة سوى الهواء المندفع من النافذة المكسورة فى الصالة الخارجية ، ف يخلخل الهواء البارد الباب المتهالك ف يصدر صوتاً كصفير شبية بدوران الهواء فى بئر مهجورة ، الأنتظار لا يعنى الأمل ، الأنتظار أحتيال على الوقت حتى يمر ويتركه لشأنه ، الأنتظار لا يعنى أن أحداً من سمار الليل سوف يأتى فى الصباح ليلقى التحية ، هم يأتون فقط كأشباح عندما تغيب الشمس خلف سماء الليل المرصعة بنجومها الواهنة ، لم تعد النجوم تتلالئ كسابق عهدها فى ليالى الشتاء الرومانسية بعد أن تمطر السماء ، سمار الليل يأتون دائماً متأخرين كأفراح الحياة القليلة ، يحمل كل واحد منهم كأسه المترعة بأيام البهجة و حقيبة الذكريات ، تنفتح الحقائب ويعرضوا عجائب سحرهم فى أستدعاء المواقف والضحكات ، ينتشى الجميع بالذة الهروب من الحاضر ، لماذا يمثل الماضى الأحساس الدائم بالجمال رغم أنه منذ لحظة كان حاضر ، ننعى اللحظات الفائته لأنها كمثل أحبائنا الذين رحلوا نعلم انها لن تعود كما لم يعودوا ، نختصر الماضى فى أحلى أوقاته كأننا نذكر محاسن موتانا أو كبرقية عزاء تختصر فيها كلمات الوفاء ، عجيب تيار الزمن الهادر يأخذ فى طريقه من يحاول أن يقاومه كسيل عرم ، يلقى به على قارعة الطريق كمهرج عجوز فقد القدرة على الأضحاك ، الزمن ، الوقت ، الذكريات ، سمار الليل ، تساؤلات تتكرر كل صباح ولا أجابة ، نهض متكاسلاً من السرير القديم ، فصدر عن السرير طقطقة كأنه يلقى تحية الصباح ، ويذكره بأنه منذ سنين فقد أحدى قدميه الأربع ، لم تنجح الجراحة بأستبدلها بدعم من مسامير وخشب ، طقطق السرير مستنجداً لاصلاحه ليعاود الثبات ، أبتسم وأدار له ظهره ، وقف فى منتصف الحجرة لا يعلم كيف سيبدأ يوماً اخر جديداً ، يوماً آخر مكرراً مثل – عنواين الصحف -تصريحات المسئولين – مباريات الكرة – الأغانى العاطفية – دفئ البدايات وبرودة النهايات – ، تناول هاتفه المحمول نظر فى الرسائل لم يجد الا تحيات الصباح المتشابهة كواجب مدرسى ، كفقرة فى كتاب المطالعة وَجَبْ كتابتها وأعادتها عشرات المرات ، لا أحد يريد أن يقول شيئاً جديداً غير معتاد كلهم من المكررين، نفس الزهور الباهته الميته بلا حياة الشبيهة بالزهور البلاستيكية فى بيوت الفقراء ، الزهور تَرّسَلْ يومياً من الأصدقاء ، أو من كانوا أصدقاء ، وتحت الصورة بعض كلمات مكررة – صباحك جميل – صباح السعادة – أو نصيحة لمواجهة الحياة الصعبة – أبتسم بمرارة ومر سريعاً نحو تطبيق الأغانى ، وقرر أن يستعين على هذا الصباح البارد بأغنية لفيروز ، (يستدعى الشتاء والصباح دائماً أغانى فيروز )، كتميمة مكتملة ومجربة وناجحة فى مواجهة تلك الصباحات المكررة ،لا يعرف لماذا أرتبط صوت فيروز الممتلئ حياة بالمطر والشتاء وشرب القهوة ؟ ، أنساب صوت فيروز – أنا لحبيبى وحبيبى إلىِ – ما أجمل لهجة فيروز اللبنانية ، تذكر آخر زيارة له لبيروت المدينة التى كانت ينعم فيها بأجمل الأوقات لم تعد بيروت كذلك تاهت فى زحام الصراع كعواصم عربية أخرى ، تحول إلى أغنية فرنسية كانت تشدو بها مغنية فرنسية رقيقة – مارى ماتيه – أغنية لم يكن يفهم معناها الدقيق حتى شرحته له زميلته بالقسم الفرنسى ، الأغنية ، وجه زميلته ، المدرج ، شكل الحياة وقتها ، حين كان يصبو إلى كل ماهو بعيد ليحصل عليه فى تحدى ، كان الوقت أطول مما يحتاج والأمال كثيرة يختار لتحقيقها ما يشاء ، أبتسم ثم غادر المكان نحو المطبخ ، مثل ما غادرت تلك اللحظات حياته ،وها هو يطاردها صباح مساء وهى تتأبى عليه ، الأغنية الفيروزية تصدح ، يستنشق من خلالها هواء الجبل النقى الرطب المفعم برائحة الأقحوان ، ويتابع الطيور الملونة فى سماء ضيعة (كحلون) ، ها هى البهجة تتسلل اليه بفعل الأغنية ، سيصنع كوباً من الشاى الثقيل باللبن وسيضع القليل من السكر حتى يستشعر مرارة هذا الخليط فى حلقة ، سيجلس الى
الشرفة وستمطر السماء وسيضع كوب الشاى باللبن على السور ويتابع صعود البخار ولحظة ألتقائه بالهواء البارد
فيصنع ضباباً كثيفاً حول الكوب المعلق فى الفضاء ، وستبتل أوراق شجرة التمرحنا بعد المطر ، التى زرعها عم سيد
حارس العقار منذ خمسين عاماً ثم رحل وظلت الشجرة ، شاهدة أن عم سيد مازال هنا ، وستطل الجارة من نافذتها
المقابلة متوردة الوجه ومنسدلة الشعر تلقى عليه ِ تحية الصباح وسيقرأ عليها أخر قصيدة كتبها عن فارس عجوز كان
يعشق الغناء ، أفاق على صوت قرعقة الماء فى البراد وفوران اللبن ، أخذ كوب الشاى بالحليب وجلس إلى مقعد
مهمل بين النافذة المكسورة وحجرة النوم ، ظهره المكشوف ناحية النافذة و تيار الهواء البارد ، أحس بقشعريرة البرد
تسرى فى جسده ، حاول أن يتحامل ويتداخل فى نفسه محاولاً أستدعاء الدفئ لكن البرد أحكم حصاره ، عاد إلى
السرير وجذب الأغطية الثقيلة وأحكمها حوله ، ووضع الكوب بين راحتيه وأخذ يرتشف على عجل مشروبه الساخن ،
كان الشاى الساخن واللبن يمر عبر فمه مخترقاً صدره صانعاً راحة دافئة تسرى فى جسده ، ثم تناه إلى سمعه
صوت طرقات خفيفة على باب الشقة ، فكر أن ينهض من السرير ليفتح الباب لكنه فكر قليلاً ثم، أكمل شرب الشاى
بالحليب المر ثم جذب الغطاء واغمض عينه وراح فى نومٍ ….عميق