” طرقات خفيفة ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام 

الإعلامي محمود عبد السلام
تسلل بصيص من ضوء الشمس خلف سحابة رمادية ، ستتحول إلى مطر غزير بعد قليل ، ضوء الشمس مسجون خلفها ، بعد محاولات نجح أن يخترقها من أطرافها ، داعب الشعاع الواهن وجهه ، حاول أن يهرب منه إلى متابعة النوم تحت الغطاء الثقيل ، أصر الشعاع على متابعة وجهه الناعس ، تثائب فى كسل كقط أليف يلعق يديه ثم يمسح بها وجهه ، بعد قليل من الهروب أستسلم ، أدرك أن صباح هذا اليوم قد بدأ ، يوماً جديداً آخر ، نفس البدايات ، لا جديد فى صباح هذا اليوم يُنتَظرّْ ، تردد رمشه المتوتر محاولاً فتح عينيه ، أول ما طالعه كان ضوء الشمس الواهن ، والدولاب القابع كتابوت فرعونى قديم أُخْرجَ توه من مقبرة العمال بجوار أهرامات الجيزة ، اللون الكالح يدعوه للسأم ، أدار وجهه وهو يفركه بكلتا يديه ، فأنعكس جسده المسجى على السرير فى المرآة القديمة ، تبدت ملامح وجهه شائهه غير منتظمة يظهر بعضها ويختفى البقية خلف البقع السوداء المنتشرة على صفحة المرآة المتأكلة، الباب المفضى إلى الصالة مغلق كما هو ، كما تركه ، ، فى كل يوم ينتظر من سيأتى للاطمئنان ولا أحد يحرك باب الحجرة سوى الهواء المندفع من النافذة المكسورة فى الصالة الخارجية ، ف يخلخل الهواء البارد الباب المتهالك ف يصدر صوتاً كصفير شبية بدوران الهواء فى بئر مهجورة ، الأنتظار لا يعنى الأمل ، الأنتظار أحتيال على الوقت حتى يمر ويتركه لشأنه ، الأنتظار لا يعنى أن أحداً من سمار الليل سوف يأتى فى الصباح ليلقى التحية ، هم يأتون فقط كأشباح عندما تغيب الشمس خلف سماء الليل المرصعة بنجومها الواهنة ، لم تعد النجوم تتلالئ كسابق عهدها فى ليالى الشتاء الرومانسية بعد أن تمطر السماء ، سمار الليل يأتون دائماً متأخرين كأفراح الحياة القليلة ، يحمل كل واحد منهم كأسه المترعة بأيام البهجة و حقيبة الذكريات ، تنفتح الحقائب ويعرضوا عجائب سحرهم فى أستدعاء المواقف والضحكات ، ينتشى الجميع بالذة الهروب من الحاضر ، لماذا يمثل الماضى الأحساس الدائم بالجمال رغم أنه منذ لحظة كان حاضر ، ننعى اللحظات الفائته لأنها كمثل أحبائنا الذين رحلوا نعلم انها لن تعود كما لم يعودوا ، نختصر الماضى فى أحلى أوقاته كأننا نذكر محاسن موتانا أو كبرقية عزاء تختصر فيها كلمات الوفاء ، عجيب تيار الزمن الهادر يأخذ فى طريقه من يحاول أن يقاومه كسيل عرم ، يلقى به على قارعة الطريق كمهرج عجوز فقد القدرة على الأضحاك ، الزمن ، الوقت ، الذكريات ، سمار الليل ، تساؤلات تتكرر كل صباح ولا أجابة ، نهض متكاسلاً من السرير القديم ، فصدر عن السرير طقطقة كأنه يلقى تحية الصباح ، ويذكره بأنه منذ سنين فقد أحدى قدميه الأربع ، لم تنجح الجراحة بأستبدلها بدعم من مسامير وخشب ، طقطق السرير مستنجداً لاصلاحه ليعاود الثبات ، أبتسم وأدار له ظهره ، وقف فى منتصف الحجرة لا يعلم كيف سيبدأ يوماً اخر جديداً ، يوماً آخر مكرراً مثل – عنواين الصحف -تصريحات المسئولين – مباريات الكرة – الأغانى العاطفية – دفئ البدايات وبرودة النهايات – ، تناول هاتفه المحمول نظر فى الرسائل لم يجد الا تحيات الصباح المتشابهة كواجب مدرسى ، كفقرة فى كتاب المطالعة وَجَبْ كتابتها وأعادتها عشرات المرات ، لا أحد يريد أن يقول شيئاً جديداً غير معتاد كلهم من المكررين، نفس الزهور الباهته الميته بلا حياة الشبيهة بالزهور البلاستيكية فى بيوت الفقراء ، الزهور تَرّسَلْ يومياً من الأصدقاء ، أو من كانوا أصدقاء ، وتحت الصورة بعض كلمات مكررة – صباحك جميل – صباح السعادة – أو نصيحة لمواجهة الحياة الصعبة – أبتسم بمرارة ومر سريعاً نحو تطبيق الأغانى ، وقرر أن يستعين على هذا الصباح البارد بأغنية لفيروز ، (يستدعى الشتاء والصباح دائماً أغانى فيروز )، كتميمة مكتملة ومجربة وناجحة فى مواجهة تلك الصباحات المكررة ،لا يعرف لماذا أرتبط صوت فيروز الممتلئ حياة بالمطر والشتاء وشرب القهوة ؟ ، أنساب صوت فيروز – أنا لحبيبى وحبيبى إلىِ – ما أجمل لهجة فيروز اللبنانية ، تذكر آخر زيارة له لبيروت المدينة التى كانت ينعم فيها بأجمل الأوقات لم تعد بيروت كذلك تاهت فى زحام الصراع كعواصم عربية أخرى ، تحول إلى أغنية فرنسية كانت تشدو بها مغنية فرنسية رقيقة – مارى ماتيه – أغنية لم يكن يفهم معناها الدقيق حتى شرحته له زميلته بالقسم الفرنسى ، الأغنية ، وجه زميلته ، المدرج ، شكل الحياة وقتها ، حين كان يصبو إلى كل ماهو بعيد ليحصل عليه فى تحدى ، كان الوقت أطول مما يحتاج والأمال كثيرة يختار لتحقيقها ما يشاء ، أبتسم ثم غادر المكان نحو المطبخ ، مثل ما غادرت تلك اللحظات حياته ،وها هو يطاردها صباح مساء وهى تتأبى عليه ، الأغنية الفيروزية تصدح ، يستنشق من خلالها هواء الجبل النقى الرطب المفعم برائحة الأقحوان ، ويتابع الطيور الملونة فى سماء ضيعة (كحلون) ، ها هى البهجة تتسلل اليه بفعل الأغنية ، سيصنع كوباً من الشاى الثقيل باللبن وسيضع القليل من السكر حتى يستشعر مرارة هذا الخليط فى حلقة ، سيجلس الى
الشرفة وستمطر السماء وسيضع كوب الشاى باللبن على السور ويتابع صعود البخار ولحظة ألتقائه بالهواء البارد
فيصنع ضباباً كثيفاً حول الكوب المعلق فى الفضاء ، وستبتل أوراق شجرة التمرحنا بعد المطر ، التى زرعها عم سيد
حارس العقار منذ خمسين عاماً ثم رحل وظلت الشجرة ، شاهدة أن عم سيد مازال هنا ، وستطل الجارة من نافذتها
المقابلة متوردة الوجه ومنسدلة الشعر تلقى عليه ِ تحية الصباح وسيقرأ عليها أخر قصيدة كتبها عن فارس عجوز كان
يعشق الغناء ، أفاق على صوت قرعقة الماء فى البراد وفوران اللبن ، أخذ كوب الشاى بالحليب وجلس إلى مقعد
مهمل بين النافذة المكسورة وحجرة النوم ، ظهره المكشوف ناحية النافذة و تيار الهواء البارد ، أحس بقشعريرة البرد
تسرى فى جسده ، حاول أن يتحامل ويتداخل فى نفسه محاولاً أستدعاء الدفئ لكن البرد أحكم حصاره ، عاد إلى
السرير وجذب الأغطية الثقيلة وأحكمها حوله ، ووضع الكوب بين راحتيه وأخذ يرتشف على عجل مشروبه الساخن ،
كان الشاى الساخن واللبن يمر عبر فمه مخترقاً صدره صانعاً راحة دافئة تسرى فى جسده ، ثم تناه إلى سمعه
صوت طرقات خفيفة على باب الشقة ، فكر أن ينهض من السرير ليفتح الباب لكنه فكر قليلاً ثم، أكمل شرب الشاى
بالحليب المر ثم جذب الغطاء واغمض عينه وراح فى نومٍ ….عميق
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.