” المدَدْ ” .. قصة قصيرة للإعلامي الكاتب محمود عبد السلام

الإعلامي محمود عبد السلام

تجلس أمى على مقعدها الأثير ، تنير مصباحاً صغيراً ، المصباح محض ظل لشبح من نور ، مابين العتمة والظل ، تضئ حبات المسبحة فى يدها العجوز ،

رسمت السنين على الكف شيئاً من خريف وبعضاً من زهور الربيع ، لكن اليد المتغضن يحمل هم السنين ، تُكَبرّْ أمى وتَحْمدًّ وتصلى على الرسول وتدعوا لنا بالبقاء طويلاً وعمراً مديداً ، ثم تقرأ الفاتحة وتتثائب وتقول انتم محسودون ، وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ،

تصنع عروساً من ورق كراستى المدرسية ، تقصها على هيئة عروس المولد النبوى ، ماهرة أمى ، تسحب إبرة الخياطة من بكرة الخيط الأبيض ، ثم تصنع ثقوباً كثيرة فى جسد العروسة الورقية ، ومع كل ثقب تدعوا الله بأن تذهب العين الحاسدة بعيداً عن أولادها ، ثم تختم طقسها الخائف ، فتقرب العروس الورقية من نار الثقاب ، تشتعل النار وتنفقع عين الحاسد وترتاح أمى وهى تنظر ألينا وتمتم بالمعوزتين ،

الصينية الفضية ذات النقوش اليدوية أشترتها من عند سيدنا الحسين ، تحب أمى حفيد النبى ، كل شهر تصنع حلة

من الأرز باللبن وتأخذها وتذهب إلى المقام ، توزع على المحبين لآل البيت أطباقها مضافاً أليها رائحة ماء الزهر ،

تجلس أمى بجوار المجذوبين ، تأمرنا ونحن نجلس حولها أن نلتزم الصمت ، لا شئ يخيف أمى مثل خوفها من غضب

أولياء الله الصالحين والمجذوبين ، الرجل ذى العبائة الخضراء والعمة الخضراء والسبحة الطويلة صاحب الذقن المهوشة

، والعين حادة النظرات يتناول من يد أمى طبق الارز باللبن بنكهة ماء الزهر ، ويرفع بصرة الى السماء ويلوح بعصاه

الغليظة ويردد مدد يا أهل المدد … كريم يحب كل كريم ، تبتسم أمى وترفع يدها الى السماء مرددة ( شيللاه يا

حسين )

نعود فى المساء نحمل ألوية النصر على الأعداء المتربصين والحاسدين ، لقد تركت أمى مخاوفها عند سيدنا الحسين

وهو سيتصرف ،

يلوح فى الأفق بوادر المطر ، شتاء هذا العام قارس ولا يدفئ أجسادنا الصغيرة سوى ساندوتشات “المفتقة ” ومربة

الجزر وأرغفة السمن البلدى بالسكر ، وأحياناً يشتد برد طوبة فتيضيف الى الوصفة السخينة المصنوعة من الحلبة

الحصى والعسل الاسود وقطع الخبز المحمرة فى السمن البلدى ،

نأكل مثل كتاكيت يلتقطون الحب حول أمهم ، تَسْخَن أجسادنا وتحمر خدودنا ، ف تضحك أمى من قلبها ، قلب أمى

يزغرد كلما أستطال أى منا سنتيمتر واحد ، تعرف ذلك من ملابسنا اذا صغرت علينا وتتمتم ما شاء الله ،

أم حامد بائعة البيض البلدى والسمن البلدى تمر علينا كل صباح ، تجلس أم حامد فى الصالة محتلة هى وطشتها

وسط الصالة ، ترفع القماش الأبيض الناصع من فوق الطشت ، يظهر من البيض والجبن القريش والزبدة والقشطة مالذ

وطاب ،

تصنع أمى كوباً من الشاى الغامق لأم حامد ، ترتشف أم حامد الشاى مصدرة صوتاً عالياً مع كل شفطة من الكوب ،

نضحك .. تنظر لنا أمى نظرة وعيد فنلتزم فى لحظة الصمت ، تجمعنا أمى بعد أن ترحل أم حامد وتؤنبنا على ضحكاتنا

، وتنهى درسها لنا بالوعيد بالضرب اذا ما عدنا نضحك على طريقة شرب أم حامد للشاى ،

فى المساء تخرج أمى من صندوقها الخشبى أبرة التريكو ، أَمُدّْ يدى إلى الأمام فتلف الخيط الصوفى على ساعديا ،

ثم تسحب طرف الخيط وتبدأ فى نسج ( بلوفر ) لأخى ، أتململ من الخيوط الملتفة حول ساعديا ، تعدنى بحكاية

عن أمنا الغولة والبنت الذكية فرط الرومان ، يأتى بقية أخوتى على صوت أمى وهى تقلد أمنا الغولة وتردد ( فرط

الرومان فى صحن دهب ايشى رأيتى على فقيك من عجب)

وتعود ترد على لسان فرط الرومان ..  ( رأيتك يافقى تقرأ وتعلم ولادك الأدب ) وتختم أمى حكاية فرط الرومان بالحكمة

من الحكاية ( اللى يشوف حاجة ميقلش )

أمى أحبت من الدنيا سيدنا الحسين وأولادها وسمن أم حامد ، ذهبت يوماً تصلى ركعتان فى المقام وبعد أن ختمت

الصلاة وأكملت لنا الدعاء ، شخصت ببصرها الى السماء وتجمعت دمعة فى طرف عيناها اليمين ثم فارقت الحياة فى

سكينة وهدوء،

يأتى شتاء كل عام بدون أمى ولم تعد أم حامد لزيارتنا ثم أختفت بفعل الزمن ، يتردد صوت أمى الى الآن فى الأنحاء

كل مساء ، حين أأوب إلى فراشى مستوحداً ومستوحشاً من الأيام ، تردد ( شيللاه ياحسين ) وأردد خلفها كطفل

لم تنضجه السنين ، أردد خلفها حباً وأشتياقاً لوجهها الطيب التى باعدت بينى وبينه الأيام

مدد يا أهل المدد وأقرأ المعوذتين ، فى بهيم الليل أستشعر أنفاس أمى على وجهى العجوز وأناملها تشد علىّ

الغطاء وتحكم أطرافه ، حتى لا يخترق جسدى برد طوبة ، تعلو وجهى أبتسامة وأدعوا لها أن تشرب من يد جد

الحسين شربة ماء تروى عطش الأيام وتجعلها فى أعلى الجنان ، أعتدت لقاءها كل مساء ، لم تغادر أمى حياتى منذ

أن رحلت ، لكن هذا الشتاء ينبؤنى بقرب اللقاء .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.