… خلال اثنين وعشرين عاما قضاها فى اشكلون لم يري إبنته الا مرتين الاولي وعمرها تسعة أشهر وكان ذلك لمساومته من جانب الصهاينة حتي يعترف، لكنه رفض الخضوع لابتزاز الصهاينة، وعندما فشلوا فى التأثير عليه من خلال طفلته، حرموه من زيارات الأهل.
وكانت المرة الثانية التي رأي فيها إبنته عندما اتمت العشرين وزادت عاما جديدا …
وما بين الزيارتين كان يتحدث معها كثيرا وعلى مدار اليوم ، نهارا وليلا، بل وكانت تشد من عزيمته عندما يشتد عليه العذاب من جانب الصهاينه، فكانت تأتيه طفلته رغم المسافات ورغم علو اسوار المعتقل وبالطبع الاسلاك الشائكة
وحواجز التفتيش وغيرهما من موانع اصطنعها الصهاينه لتحول بين المعتقلين واهليهم، الا ان طفلة السواركة بطلة
تشبه اباها، فكانت تتخطى كل تلك الموانع وهذه الحواجز وتصل الى قلب ابيها ، بل وتكحل عينيه بطلتها الوحيدة
التى رأها عليها مبتسمة عندما جاءته مع والدتها وحاول ان يقبلها فمد اصبعيه من بين فتحات السلك الحاجز وعندما
ترك قبلة كانت طويلة وندية من دمعاته التى خانت صلابته وتسللت عبر مجرى ظل محفورا لعقود طويلة بعد هذا
اللقاء ، ولم ينتبه وهى ايضا – الرضيعة- لم تتألم من جرح السلك الشائك لكلثومها، وراحت كلاهما الى رحلة دامت
عشرين عاما من الوصل بينهما وحدهما وفى حيالهما هما فقط ، الاب البطل والابنة البطلة، ومن خلال واقع آخر
عاشت الابنة طفلة وفتاة وشابة مع والدتها البطلة حياة مليئة بالاحداث والانفعالات والصراع مع المجتمع بمفرداته
المركبة، والمتنافرة، فضلا عن صراعات مهمة ايضا عاشتها الام والابنة علي حدا بتفاصيلها المختلفة من معاناة
متساوية ومتوازية مع معاناة الاب والزوج داخل المعتقلات الاسرائيلية .. معاناة دامت اثنان وعشرون عاما تحملت فيها
الفتاة الابنة علي دبلوم التجارة وهذه الشهادة ليست ببسيطة في عالم البدو وفي ظل ظروف الاسرة شديدة
الصعوبة ماديا ومعنويا.
جلست متوترا أنتظر لقاءها وأتخيل شكلها ، كيف تبدو تلك المرأة الاسطورية التي تحاكي عنها القاصي قبل الداني
… انها زوجة البطل السواركة وأري ايضا انها بطلة اسطورية بما قامت به من تحدي لكل الظروف التي احاطت بها منذ
اعتقال زوجها في العام ١٩٧٧علي يد الاسرائيليين والزج به الي معتقل ( اشكلون ) الاسرائيلي .. لم يطل انتظاري
طويلا حتي علمت بقدومها هيأت نفسي لاستقبالها وكنت فرحا بلقاءها كما فرحتي بلقاء زوجها البطل …. بدأ ظلالها
في الظهور من خلف الباب المؤدي الي جلسة تجمع العديد من مشايخ قبائل سيناء وافرادها الذين استقبلوا لتوهم
بطلهم العائد من معتقلات اسرائيل ، تأهبت روحي قبل ان يتأهب جسدي لاستقبالها ، ظهرت اخيرا بجسدها
المقاوم لضربات القدر الموجعة الذي حاول عبر اثنين وعشرين عاما ان ينال من هامته وعزته وكرامته لكنه فشل بكل
المقاييس ، حاولت ان اتدارك شكلها الخارجي بثوبها البدوي التقليدي وتطريزه المزركش المتنوع الالوان والذي بهت
بريقه من تهالكه ، وقدم كما بدا عليه الشق يليه آخر كام طبقات الارض الدالة على تاريخ عتيق نتيجة عوامل الطبيعة
وصعوبة الاعمال التي تقوم بها لتحصل علي قوتها و ابنتها ، فعملت كراعية للاغنام شأن افراد قبيلتها وايضا كعاملة….
ناضلت كثيرا من اجل قوت يومها فبدا الشقوق واضحة علي الايدي والوجه الملتف بعصبة سوداء لا تقل قدما وتهالكا
عن الثوب بينما شعرها الاصفر المقاوم للشيب خرج رغما عنها علي جانبي وجهها يعلن عن جمالها الذي قاوم الزمن
…نظرت سريعا ودون ان أدري علي قدميها اللتين تشبهان جبال سيناء الراسخات وهما قد قاومتا صهد الصيف وصقيع
الشتاء بصحراء سيناء القاسية ، الحانية -فقط- لمن يصادقها (!) لتنكمش تلك القدمين بين صندل بلاستيكي متهالك
غير قادر علي اخفاء جروح الزمن المتقيحة التي اصابت القدمين والتي تقاوم الانسحاق لتقف صلبة قوية حاملة
صاحبتها بهامة مرتفعة أبية ….. تخطيت سريعا ما رأيت وان كان قد صدمني للوهلة الاولي لكني استطعت ان أخترق
هذا الجسد وأعبر الآمه لأصل الي عمق البطلة التي رسمها خيالي منذ ان كلفت باستقبال زوجها المناضل رمز
الوطنية الصادقة كما عرفتها منذ ان ادركت الحياة … تغيرت ملامحها امامي بعد ان عبرت لجوهرها الذي يختلف كليا
عن ظاهرها …
تلك المرأة فائقة الجمال ذات العيون الخضراء والوجه النضر رغم تقدم عمرها لكنها كالزهرة التي تحتفظ برحيقها رغم
الجفاف الذي يبدو علي بعض اوراقها .. كيف لتلك المرأة الوفاء لزوج قيل انه في عداد الاموات ولمدة اثنين وعشرون
عاما ، تسألت بداخلي لماذا لم تتزوج ؟ ولها من المبررات العديد ، الي جانب انها جميلة ومن المؤكد انها كانت حلما
لكثيرين من بعده …
لكنها اسرعت بالاجابه علي ما يدور بداخلي وانا لا اعي ان كنت قد سألتها بالفعل ام لا … فقطعت اجابتها علي
الطريق : وكيف لي ان اجد مثله ؟؟!! قالتها ببساطة لا تتسق وفجاعة ما حدث لها فأبهرتني اجابتها… وأفقت لأدرك
عظمة تلك المرأة ، لقد لخصت تاريخ هذا البطل ، زوجها ، في جملة مختزلة وعميقة ، عمق وطنيته الخالصة …
تنهدت وشردت قليلا وتمنيت ان يهبني القدر زوجه مثلها -واستجاب- وبالطبع – ايضا – ان يهبنى القدر فرصة الدفاع
عن وطنى، واصبر كما صبر اولى العزم من اهل سيناء(!) …. وتذكرت سريعا ان للرجل البطل ابنة تخطت العشرين من
عمرها بعام واحد ، انجبتها الام وهو يعاني الآم معتقل اشكلون الاسرائيلي….
نعم أردت ان أصبح جزءا من هذا الكيان الوطني الخالص الذي ضحي افراده بحياتهم وفاءا لهذا الوطن والذي تم
تلخيصه لديهم في الدفاع عن سيناء الحبيبة…. دقائق ونلتقي بأبنة البطل والبطلة … كنت متأكد انها لا تقل جمالا
فى بطولتها شكلا ومضمونا عن الام ولا تقل وطنية عن الاب …. لكنها تأخرت في الحضور فقرر البطل
السواركة ( الأب ) الا ينتظر كثيرا ويذهب بنفسه ليري ابنته … فقررت ان اذهب معه وبالفعل ذهبنا الي مبني
محافظة شمال سيناء وتوقفت الام والاب ينظرون في اتجاه فتاه لا تقل جمالا عن سيناء الام الكبرى وعن والدتها الام
الصغرى ،
وايضا لا تقل تواضعا في ملابسها الفقيرة ، رأيتها مرفوعة الهامة، عزيزة النفس، همست لى والدتها تلك التى ظننت
انها فى احشائي ليلة ان قبض الصهاينة على زوجى البطل وعندما اخذوا يضربوننى بقسوة تكورت على
نفسى وضممت تلك النطفة الامل الى صدرى وحصنتها بركبتى واحتضنتها بذراعى ، احتملت كل الضرب والالم
واحتبست انفاسى لاوفرها لهذه التى انا متاكدة انها جزء من السواركة فى داخلى رغبة منى للاحتفاظ به او بجزء
منه لاننى علمت وتأكدت من قسوة ضربهم لى ان بطلى قد اوجعهم اكثر واكثر ، وعلمت ايضا وانا متكورة على الارض
اتلقى الضربات ان هذا وعد زوجى لى بتقديم مهر لن يستطيع غيره ان يقدمه لحبيبته ، ولذا كنت اضحك بصوت اعلى
من سبابهم وهم يتوهمون اننى فى حالة هيستيرية لكننى والحق كدت اطير فرحا من عظم المهر الذى قدمه لى
البطل ولهذا حافظت على جزء منه كنت قد دعوت الله حينها وانا على الارض اتلقى ضربات الصهاينة وبحثت عن اتجاه
القبلة لانظر الى ربى راجية ان يخلق فى جوفي سوراكة جديد لانه من الواضح والجلى ان مافعله فيهم بطلى لن
يجعلهم يتركوه لى ابدا او على الاقل ليس قريبا، فكان عزائى فى فرقة توقعتها وغربة تخيلتها لذا استجاب رب سيناء
والسواركة لرجاء سيدة كانت عروس لايام معدودة وستغدوا -قريبا- ابا واما لهذا القادم من عند الله ، فكانت ابنتى هذه …
ونستكمل فى القادم ان شاء الله حكايات من سيناء لاشكلون وحوارات لم يسمعها سوى البطل وزوجته(!).