اللواء دكتور سمير فرج يكتب : أكتوبر وأنا بعد خمسون عاماً
نصف قرن من الزمان، مرت على مصر، منذ تلك اللحظة العظيمة، الفارقة، التي عبرت فيها القوات المسلحة المصرية قناة السويس؛ ذلك العبور الذي كان إعلاناً عن نهاية الأسطورة الإسرائيلية، التي حاولت، على مدار سنوات ترسيخها في العقول، بأنها القوات التي لا تُقهر، ولا يمكن هزيمتها.
ورغم مرور كل تلك السنوات، لازالت ذكرى ذلك اليوم المجيد تُجيش في نفسي كل مشاعر السعادة والفخر؛ سعادة قلب ضابط، حديث السن والرتبة العسكرية، عايش مرارة الهزيمة يوم الخامس من يونيو من عام 67، وقضى سنواته يحلم بيوم النصر، وكاد قلبه أن يتوقف من الخفقان، فرحاً وفخراً، عندما عاصر لحظة النصر، وهو يرصد عبور قواتنا الباسلة لقناة السويس، وتدمير خط بارليف، وإنشاء رأس الكوبري على الضفة الشرقية للقناة.
ومن أجل تلك الذكري الغالية قررت أن أفتح خزينة الذكريات، وأن أعيد للحياة، عبر الكلمات، تفاصيل تلك الأيام، التي عايشتها منذ يوم الخامس من يونيو الأسود عام 1967، وحتى يوم العبور في السادس من أكتوبر من عام 1973، وما تلا ذلك من أحداث عظام، كان لها أكبر الأثر في حياتي كإنسان، وكضابط بالقوات المسلحة المصرية، ذلك الشرف الذي أدين له بالكثير في حياتي. لهذا، وبالتعاون مع الدار المفضلة إلى قلبي، “الهيئة العامة المصرية للكتاب”، تلك الهيئة العريقة، التي أحرص على صدور جميع كتبي من خلالها، إيماناً مني بدورها في نشر الثقافة والوعي لأبناء مصر، والدول العربية، بإتاحتها للكتب بأسعار تكاد تكون رمزية، ليتسنى للكافة، باختلاف قدراتهم المادية، الحصول عليها، فقد نشرت كتاباً جديداً.
أخترت لكتابي عنوان “شاهد على حرب أكتوبر 73″، وفيه أستعيد فيه مع القارئ، الكريم، ذكريات الحرب بكل تفاصيلها، منذ أن كنت ضابطاً صغيراً، برتبة ملازم أول، عائد لتوه من حرب اليمن، ليجد نفسه بين نيران حرب غاشمة وهزيمة نكراء في 67، ثم ذكريات العديد من معارك الكرامة المصرية، خلال ستة سنوات، هي عمر حرب الاستنزاف العظيمة، التي كانت خير تمهيد للنصر، والتي بذل فيه أبطال القوات المسلحة المصرية كل غالٍ ونفيس، وجادوا بأرواحهم، في سبيل استعادة أرض سيناء الحبيبة، ومنهم على سبيل المثال، لا الحصر، معركة رأس العش، وعملية إغراق المدمرة إيلات، التي غيرت من مفاهيم العلوم العسكرية البحرية في العالم.
وحكيت، في ذلك الكتاب، قصة النقيب سمير فرج، وهو على الخط الأول، طوال حرب الاستنزاف، على الضفة الغربية
لقناة السويس، بصفتي قائد سرية مشاة، وكيف كنت أشتبك مع العدو، خلال هذه الفترة، بصورة يومية، تقريباً،
مستعيد ذكريات تلك الأحداث، بكل ما حملته من عمليات قتالية ومشاعر إنسانية. واستعرضت مسار رحلتي
العسكرية من رتبة ملازم أول حتى رتبة نقيب، والتي مررت خلالها بمصادفات عديدة، قدرها لي الله، لأكون شاهداً
على إعداد خطة حرب 73، التي كان يتم مراجعتها معنا، نحن طلبة كلية القادة والأركان، بقيادة الفريق سعد الدين
الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة، وظنناها، حينئذ، مجرد توجيه من التوجيهات العديدة التي كنا نقوم
بدراستها، ولم نتخيل، أبداً، أن “التوجيه 41” ما هو إلا خطة الإعداد لحرب أكتوبر المجيدة، لعبور قناة السويس،
واقتحام خط بارليف، في 12 موجة من القوارب المطاطية، على طول خط القناة السويس، بكل تفاصيل العملية
الهجومية، خاصة مرحلة صد الهجمات المضادة في رأس الكوبري قبل وصول الدبابات.
وكما كانت كلية أركان الحرب طريقي للاطلاع على خطة إعداد الحرب والمشاركة في مراجعتها، فقد كانت، كذلك،
بوابتي وطريقي لأكون أصغر ضابط بغرفة عمليات حرب 73، بعدما تخرجت في المركز الأول، على دفعتي، في كلية
القادة والأركان، وتم اختياري في هيئة عمليات القوات المسلحة، لأتشرف بحضور تفاصيل هذه الحرب، لحظة بلحظة،
منذ وصول السيد الرئيس، محمد أنور السادات، ثم بدء الضربة الجوية، وتفاصيل ما دار في غرفة العمليات، ودور كل
القادة في هذه المرحلة. فسردت الكثير من المواقف التي مرت علينا خلال سير عمليات القتال، وخاصة النواحي
الإنسانية، والتي كان منها، إبلاغ المشير أحمد إسماعيل، الرئيس السادات، نبأ استشهاد أخيه عاطف السادات،
ضمن القوات الجوية.
واستكمالاً للمفاجآت القدرية التي مررت بها في حياتي، فقد تم اختياري للدراسة في كلية كمبرلي البريطانية، أحد
أعرق الكليات العسكرية على مستوى العالم، بعد 25 عاماً من توقف البعثات المصرية إلى بريطانيا، منذ العدوان
الثلاثي على مصر، وكأن الله قد اختارني لأخوض معركة جديدة، كان خصمي المباشر فيها الجنرال أرئيل شارون،
ولكن في تلك المرة لم تكن المعركة في ميادين القتال العسكرية المتعارف عليها، وإنما في مناظرة علمية عن حرب
أكتوبر 73، تم إذاعتها على الهواء، مباشرة، على شبكة بي بي سي البريطانية، والتي انتهت بفوز جديد لمصر.
ولقد حرصت، في كتابي هذا، أن أستعرض مع القارئ، ذكريات العديد من السنوات، التي تلت نصر حرب أكتوبر
المجيد، وكيف احتفلت مصر بتلك الذكرى الغالية، تلك الاحتفالات التي أشرفت على تنفيذها، عندما توليت منصب
مدير الشئون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية. واخترت أن أختتم الكتاب باستعراض التطورات التي تشهدها القوات
المسلحة المصرية، منذ عدة سنوات، وهو الفصل الذي وجدت فيه حق للقارئ، ليتأكد أن قواته المسلحة التي صنعت
معجزة 73، وأبهرت المؤسسات العسكرية والاستراتيجية في العالم، لازالت هي الذراع القومي الحامي لمصر.