” أيام أبى ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام
المسافرون يحملون حقائب بها الأيام ، يذهبون ليتخلصون من ذكرياتهم على أرصفة القطارات ، بعض الذكريات تشبه أطفال لقطاء يتركوا خلسة بجوار سلال المهملات على الارصفة ، وبعض المسافرين يحملون فى رحلاتهم أحلامهم السعيدة بعالم جديد ،
أضع يدى فى يد أبى فأغوص فى كفه الكبير ، أتعجب من صغر كفى ، أشعر بالراحة والأمان ، أبى لا يهاب شئ مما أخاف ، لا الظلام ولا كلاب شارعنا النابحة دوماً ، ولا اللصوص ، ولا الافلام المرعبة ،
أنظر إلى خطواته الواسعة ، أهرول بجانبه أحاول أن أوازى خطوته ، ينظر إلى ويقول : عليك أن تسرع فالقطارات لا تنتظر المسافرين ، أمى وأخوتى يحملون الحقائب خلفنا ، يجاهدون وهم يلاحقون خطواتنا المتسعة ، أعفانى أبى أنا وأخى الصغير من حمل الحقائب ، ألتفت خلفى وأنظر أليهم وأبتسم أبتسامة ماكرة ، تتوعدنى أختى الكبرى ،
أنظر إلى أمى معاتباً ، فتنظر لى بأن أكف عن أستفزازهم ، يتحدث أحد العاملين فى مكبر الصوت ، يعلن عن موعد قيام القطار المتجه إلى الأسكندرية على رصيف أربعة ، الصوت خشن مخنوق بالتبغ والسعال ، يتحدث بسرعة وبكلمات غير واضحة ومتداخلة ، يكرر النداء ثلاث مرات ،
يلتقط أبى بصعوبة المعنى ، نتقاطر مسرعين فى طابور ، نصطف لدخول عربة القطار ، يتقدمنا أبى بطوله الفارع ويشير إلينا أن نتبعه ، بحرص شديد يأخذ جانباً على مدخل الباب ، ويدعونا إلى الدخول ، كلما مر عليه أحداً منا يبلغه برقم المقعد ، لا أحد يستطيع أن يغير مكانه إلى بعد وساطه من أمى ،
أنفلت من كف أبى وأتقافز أنا وأخى الأصغر بين المقاعد ، نختلف على الجلوس بجوار الشباك ، نتشابك على أستحياء ونحن ننظر خلسة نحو أمى ، تأمرنا بألتزام الأدب وتجلس هى بجوار الشباك وتأخذنى أنا وأخى على ساقيها ، القطار تأخر عن موعد التحرك ..، وأنا أريد أن أشاهد الطريق و أعمدة الكهرباء وهى تلاحق سرعة القطار وأسلاكها تعلو وتهبط وتتقاطع ،
يجلس أبى بجوار أمى ، يخرج الصحيفة اليومية وينهمك فى القراءة ، أقرأ معه العنواين وأنا أتهجى الكلمات .
سيذهب الريس إلى تل أبيب يقول أبى ، ترد أمى : كفايانا حرب ، لم يعد احمد ابن خالتى مع الجنود العائدين من الحرب ، فُقْدّ ربما ، أستشهد أكيد
لكن خالتى منذ أربع سنوات تنتظر عودة أحمد ، تلقى زوج خالتى رسالة تطمئنه بأن أحمد كان أحد أبطال العبور ، وأستشهد وهو فى مهمة خلف خطوط العدو ، كتم زوج خالتى الخبر ولم يخبر خالتى ثم مات بعد عام محسوراً على أحمد ، يلتفت أبى ناحية أمى الصهاينة ليس لهم أمان ، تشيح أمى بوجهها وتنظر بعيداً، لا تحب الأمهات الحرب ،
توقف القطار فى محطة بنها ،
أسأل أبى لماذا يتوقف القطار هنا دائماً ، يرد وهو ينظر إلى من خلف الجريدة ، هكذا هى القطارات تتوقف دائماً لينزل ركاب ويصعد آخرين ، كل واحد يأتى دوره فى النزول من القطار ليصعد غيره ليجلس مكانه تماماً ، القطار ياولدى يتوقف لانه لا يسع لكل من يأتى دوره للصعود ، سيزدحم القطار ثم يتشاجر الناس على المقاعد ثم يتقاتلون ، نحن سننزل فى الأسكندرية وسيصعد ولد مثلك مع والده ليأخذ مكانك فى الرجوع ،
وعندما تنتهى من رحلتك وتعود الى القاهرة ستأخذ حتماً مكان أحدهم هكذا هى الدنيا ، ألتفت إلى أمى وأسألها – يعنى أيه هكذا – أسكت وبطل فرك ، الطريق أخضر على مرمى البصر اللون الأخضر جميل ، أشب أكثر أنا وأخى لرؤية الطيور التى تدور فى دوائر بين السماء والأرض ،
كل الكائنات التى تملك أجنحة تترك الأرض لتحلق فى السماء ، مساكين وأنا وأخوتى وأبى وأمى لا نستطيع الطيران أريد أن أشاهد بيتنا من السماء ، هشام زميلى فى الفصل حكى لى أنه ركب الطائرة إلى الجزائر مع والده المدرس ليعمل هناك ،
حكى لى عن أشياء أحبها ، وعن الشوارع الصاعدة والهابطة وعن اللعب فى الغابات وأصطياد الطيور وقتل الزواحف ، وعن البيوت التى رأها من شباك الطائرة صغيرة كَعُلبْ الكبريت ، أسرح بعيداً راكباً الطائرة فى خيالى ،
أبى أريد أن أذهب إلى الجزائر مثل هشام وأركب الطائرة واشاهد الأرض من السماء .
تقرأ أمى الفاتحة وتلتفت نحو أبى تطلب منه قراءة الفاتحة لاحمد البدوى ، يتمتم أبى بأيات القرأن ثم يستدرك قائلاً ( شئ لله ياسيد )
ثم يعد أمى بزيارة لمسجده قريباً ، يتهلل وجه أمى وتلهج بالدعاء ،
لماذا يحب أبى وأمى سيدى احمد البدوى ولا يحبون لاعب الكره الذى احبه ، اتسائل ولا تأتى أجابة واضحة ، أنتبه إلى وجود أخى بجانبى ، أجذبه من شعره يبكى ، أتداخل فى نفسى خوفاً من ردة فعل أبى أنزلق بهدوء من على ساق أمى وأذهب للجلوس بين أخوتى ، لا يعيرونى أهتماماً ،
فقط يفسحون لى مجالاً ضيقاً بينهم ، لا اريد أن ألفت نظر أبى لعملية الهروب التى قمت بها ، فأرضى بالمساحة الضيقة التى منحونى أياها ، سرعة القطار تتناقص مندفعاً نحو الشباك أستطلع الأمر ،
يدفعنى أخى الأكبر إلى الخلف وهو يقول أذهب إلى أمك ، الكبار لا يحبون الصغار أدرك المعنى لكن لا أعلم لماذا ؟ ، هل لانى كشفت لأمى سر علاقة أخى بنجوى جارتنا عندما ضبطه على السلم وهو
يعاتبها أنها لم تأتى فى الموعد ، ربما هو ذلك ، ليس ذنبى أننى رغم صغر سنى أعرف أشياء لا يعرفها غيرى ، الكل
يتعامل معى على أنى صغير ، لكنى أعرفهم جميعاً وأعرف أسرارهم ،
يقف أبى مشيراً لنا بالأستعداد للنزول فى سيدى جابر ، ماما هو سيدى جابر أخو سيدى أحمد البدوى ، أسكت لربنا
يسخطك قرد ، طيب هو فى حد أسمه سيدى ، مش قلتلك أخرس ، أتقدم فى الأمام أنا وأبى ، لوحة كبيرة مكتوب
عليها بخط باهت ، حى سيدى جابر يرحب بكم وبجانب اللوحة صورة كبيرة للسيد الرئيس وفى الخلف أعلان على
لوحة ضخمة لفيلم المذنبون يشاهد أبى صورة الممثلة الشهيرة وهى نصف عارية ف يستعيذ بالله من الشيطان
الرجيم .
أنتبه على صوت مفتش القطار يعلن عن وصول القطار إلى الأسكندرية ، اربعون عاماً مرت فى دقائق أمام عينى ، وها
أنا على مقعدى وحيداً دون أبى ، ودون أحساسى بالامان الذى كان ينشره وجوده .
ها هى الأمواج تزحف متمهلة نحو الشاطئ ، تغمر الرمل برائحة اليود وطعم الملح ، يقع الرمل فى حيلة الموج
والأغواء فيترك الشاطئ ويعود مع الموج الى قلب البحر ويغرق ، منذ ملايين السنين يفعل ذلك الموج والرمل لا يقاوم
، ماذا اذا قاوم الرمل يوماً أغواء الموج وأستقر عند حافة الشاطئ ، على حافة الشاطئ أقف ليأتى الموج يسحب
أيامى ويعود للقاع ، وأنا مستسلم تماماً مثل يوماً سحب الموج فيه كل أيام أبى.