” الهروب الكبير ” .. قصة قصيرة للأديب محمد الشرقاوي

الأديب محمد الشرقاوي

اكتظت المطارات عن آخرها وما زالت صافرات الإنذار تواصل دويها دون توقف في كل الأحياء المجاورة ، قذيفة واحدة محلية الصنع من أصحاب الأرض فعلت ما لم يكن في الحسبان ، لم يخطر ببال أحد قاطني هذه الأحياء – والتي تعتبرها قيادات الاحتلال من أكثر المناطق أمنا على تلك الأراضي المغتصبة – أن يسودها رعب من أقصى الدرجات حسب تصنيفهم ، الجميع يهرولون بلا توقف ، النساء عاريات تماما يلقين بكل شيئ – حتى أطفالهن – من أجل الهرب ، الكبار يتساقطون تحت أقدام المارة دون أدنى مساعدة ، الشباب في سباق محموم دون وعي ، الوجوه تفيض بكل ملامح الرعب ، حتى سيارات الإسعاف عجزت عن أداء دورها وهرب سائقوها ، ما هذا الجحيم ! دقات القلوب تشير إلى أقصى سرعة لها ، ولا تزال الصافرات تواصل رنينها وكأنها سياط تلهب ظهورهم جميعا .

حوارات غاضبة متواصلة تدور بين المتزاحمين انتظارا لقدوم طائرة بعد إقلاع سابقتها ، تتطاير العبارات بين الأسماع : لا أمان لنا في تلك الأرض ، فهذه ليست بلادنا وكلنا نعلم ذلك ، إنها لا تتوقف عن إنجاب الأبطال ، إنهم يقهروننا دون سلاح ، فكيف لو حازوا بعض ما لدينا من أسلحة متطورة ، يؤكد الهاربون على التوجه لأي مكان بعيد عن هذا الجحيم ، بينما يتسائل آخرون عن وجهتهم بعد المغادرة ، يؤكد أحدهم أنه سيعود إلى موطنه الأصلى في أمريكا ، بينما يؤكد آخر أن والديه ينتظران عودته لهما في إنجلترا ، وهذا يؤكد أن مسكنه ما زال فارغا في فرنسا ، أما تلك السيدة فتؤكد عودتها إلى كندا ، أما هذا العجوز فيعلن عن رغبته في قضاء بقية أيامه في ألمانيا حيث نشأ وتعلم وعاش مع والديه ، هكذا اختلفوا في تحديد وجهاتهم لكنهم اتفقوا جميعا على أن بلاد العرب للعرب مهما طال الزمن .

صوت جهوري يفرض الصمت على الجميع ، تتابع العيون بشغف ، يزداد إصرارهم على المغادرة وخاصة عند رؤية تلك الصور التي تعرض دباباتهم التي سقطت في إيدي أبطال المقاومة ، ما زال الصوت متدفقا بقوة وثقة ، إنه أبو عبيدة ، هذا البطل الملثم الذي أصبح حديث العالم ، يبدو عبر الشاشات والهواتف ليفضح أكاذيب المحتلين ، كما يشد من أزر شعبه الذي لم يضعف عزيمته تخاذل العالم من حوله ، الدهشة تغمر الوجوه ، تتسائل بشغف ؛ ما هذا الفداء ؟! وما

هذه البطولة ؟! إنهم لا يهابون الموت ، بل إنهم يسعون إليه بكل سعادة وحماس . يواصل أحد الصهاينة قائلا : لقد

دمرنا مدنهم وقراهم ومزارعهم ومستشفياتهم ومدارسهم وما لانت عزيمتهم . لقد قتلناهم بأبشع أنواع الأسلحة

وأحدثها لكنهم ما زالوا أقوياء صامدين ، لقد هدمنا المنازل على رؤوسهم وهم أحياء وما خضعوا ، لقد منعنا عنهم

المساعدات الغذائية والعلاجية ولم يستسلموا ، لقد دمرنا فلسطين بالكامل لكن لم نمس عزيمة أبنائها ، لقد فعلنا

ما لم يفعله الشيطان ولكنهم هزمونا بالإيمان ، يستمع الجميع وتتبادل عيونهم النظرات ، تبدي ندمها على قدومها

لتلك الأرض العربية ، يقول أحدهم : لقد أيقنت الآن أننا أخطانا الطريق منذ قدومنا ، لنعود إلى بلادنا ولتبقى بلاد

العرب لأصحابها .

يتحد صوت صافرات الإنذار في الأحياء المجاورة مع صوت الإذاعة الداخلية للمطار والتي تعلن عن وجود طائرة تستعد

للتوجه إلى باريس خلال دقائق ، يتدافع الجميع دون انتظام ، يتسابقون نحو سلم الطائرة ، يحاول القوي منهم إزاحة

الضعيف ، كما يحاول الذكور إبعاد النساء ، يختفي الأطفال تماما من المشهد ، لقد تركوهم على قارعات الطرق

وبجوار صناديق القمامة ، امتلأت الطائرة عن آخرها ولا تزال المشاجرات قائمة عند أسفل السلم ، بحتدم الصراع

ويتبادل الجميع الاتهامات والتساؤلات عن شعارات احترام المرأة والطفل والمسن ، يهتف أحد الواقفين – وهو من كبار

السن القارئين للتاريخ – معلنا سقوط قيادات الاحتلال الصهيوني التي خدعتهم والتي جلبت لهم الكراهية والعداء من

كل بلاد العالم وشعوبه التى لا تتوقف عن التظاهر ضد هذا الكيان المحتل : لقد فقدنا الأمان ليس هنا فحسب ولكن

في كل بقاع الأرض ، لن أفكر في العودة إلى هنا ما دمت حيا .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.