” أسطورة زَهّْرَة ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام

أغلق الخط مع هشام وظل صامتاً وقتاً طويلاً غير مصدق ما قال هشام له ، ممدوح يعمل مذيعاً باحد الإذاعات المسموعة التى أنتشرت فى الفترة الأخيرة ، وتعتمد برامجها على التواصل والتفاعل مع الجمهور ، ومشاركة المستمعين أرائهم فى مشاكلهم اليومية ، وافكارهم عن الحياة خاصة فيما يخص الأحاسيس والمشاعر الرومانسية
وقد أكسبت ممدوح المشاركات العاطفية الشهرة الكبيرة التى تمتع بيها فى وقت قصير ،ارتبط المستمعون ببرامجه التى تبث يومياً فى وقت متأخر من اليوم تقريباً بعد منتصف الليل ، وكانت أراء ممدوح فى المسائل الأجتماعية المختلفة تلقى قبولا وأستحساناً من الجمهور
وأصبح الجمهور ينتظر برنامج ممدوح اليومى ليستمتع معه بحكايات البرنامج الواقعية ، وكان يتلقى آراء الجمهور عبر الهاتف والمشاركات عبر وسائل التواصل الاجتماعى ، مع الوقت أكتسب ممدوح خبرات كبيرة فى عرض وحل المشاكل التى يتلقاها
وكان الحوار الذى يجمعه مع أصدقائه وقت السمر يحكى لهم عن أغرب المشاكل العاطفية التى سبق أن تلقاها عبر الجمهور ، فكان يطوف بأصدقائه عبر كثير من الحكايات العجيبة والغريبة ، وكان دائماً يختم كلامه معهم بأن الدنيا بلاتوه كبير ممكن أن تجد فيه أشياء أكثر غرابة من الأفلام السنيمائية والدراما التلفزيونية ، ثم يردف قائلاً القدر هو أعظم مؤلف وسيناريست ومخرج فى حياتنا ثم يحكى حكاية جديدة من النوادر التى تلقها عبر ميكرفون الإذاعة التى يعمل بها .
فى ذلك اليوم تلقى مكالمة من صديقه هشام ، حكى له اثناءها عن حكاية واقعية حدثت لهشام أدارت رأس ممدوح وقلبت كيانه رأساً على عقب .
أرتدى ممدوح ملابسه وتوجه إلى مبنى الإذاعة على كورنيش النيل ، لم يكن فى هذة الليلة مثل كل الليالى السابقة ، كان شارداً لا يتحدث مع أحد ولا يضحك مع أحد كعادته ، ودخل الأستوديو وهو فى نفس الحالة ، فتوجه إليه شاكر مخرج البرنامج متسائلاً عن حالته الغريبة اليوم ، طمأن ممدوح شاكر بأنه فى حالة ممتازة ، اطمأن شاكر ووضع أسكربت الحلقة فى يد ممدوح ثم ذهب لكنترول الأستوديو ، خمس دقائق وطلب شاكر من الموجودين بالاستوديو الهدوء التام وبدأ فى العد التنازلى ، خمسة .. اربعة .. ثلاثة .. اثنين …واحد .. احنا على الهواء ، اخذ ممدوح برهة قبل ان ينطق باول جملة فى الاسكربت ، لاحظ شاكر ان ممدوح ترك اسكربت الحلقة على جانب من ديسك الهواء بجوار الميكرفون ثم تكلم ،
قائلاً : اعزائى المستمعين اهلاً بكم وحلقة جديدة من برنامجكم ( الحياة بلاتوة ) فى انتظار مشاركتم الهاتفية وعبر الرسائل النصية.
دعونى اسألكم فى البداية ، ماهى الأسطورة فى رايكم ؟
لم ينتظر الرد ثم تايع قائلاً:
سوف اقول لكم ، الاسطورة هى شئ يتجسد فى حكاية تروى عن اشياء مستحيلة لا تحدث فى الحياة لكننا نستمد منها العبر ونستخلص منها القيم الانسانية الرفيعة ، مثل الشجاعة والكرم والصدق وحكايات الحب المستحيلة الخ ،
الحكاية التى سأرويها لكم الليلة هى اقرب الى الاسطورة او ستتحول من خلال هذا البرنامج إلى أسطورة حقيقية .
كان لى أحد الأصدقاء إبان المرحلة الجامعية ، يتمتع بشخصية متوازنة ومظهر متناسق وأعتزاز شديد بنفسه ، وكان يلقى منا جميعاً كل تقدير وأحترام ، ولأنه كان معى منذ المرحلة الأبتدائية ، فأنا أعرف عنه أكثر من بقية الزملاء ، ورغم مستوى أسرته المتواضع إلا أن مظهره كان يدل على مستوى إجتماعى أكبر من الحقيقى
لم يكن يطلب من الحياة أكثر من ما يطلبه كل شاب فى سنه ، النجاح والتوفيق وعاطفة حانية تضئ له حياته وتشعل فى دروبه المرهقة شمعة تضئ عتمة أيامه أذا أظلمت
على الجانب الأخر من الحياة كانت هناك فتاة معنا فى نفس الكلية ، رقيقة ..صاحبة جمال هادئ وفاتن لا تخطأه العين ، وكثير من الهدوء ، تكتب الشعر و تعشق الغناء ،وكان لها صوت جميل ، كنا نتمايل على نبراته فى جلسات السمر بين المحاضرات وأثناء الرحلات ، بأستطاعتكم أن تقولوا بكل بساطة أن “هشام وزهرة زاهر ” رغم أن الحب لم يكن جمعهما معاً بعد ، إلا أنك تستطيع القول أنهما خلقا لبعضهما البعض ، وكما كنا نقول بيننا إذا جاز التعبير زهرة لهشام ، وهشام لزهرة ، و أن هشام هو الشخص الوحيد الذى يستحقها
لم يتأخر القدر كثيراً على تحقيق أمنياتنا ! ، فى أحد أيام الدراسة أمام المدرج جمعت الصدفة هشام وزهرة وتم التعارف بينهما عن طريق أميمة زميلتنا ، لم تكن تدرى أميمة فى تلك اللحظة أن بتعارف زهرة وهشام قد أشتركت فى صنع أسطورة عاطفية قلما يجود بها الزمان .
ها هما يسيران فى ردهات الجامعة وهم منفصلان عن ما يحيط بهما ، كان يكتب لها أعذب الكلمات وأرقها وكان يقول دائماً ويصارحنى أن ما يعيشه من مشاعر مع زهرة يحتاج أن يكتب بمداد من الذهب على جدران المعابد ويفط الشوارع والعناوين الرئيسية بالصحف اليومية ، وكان هشام يبتسم وهو يقول : ان زهرة تهب للحياة حياة ، فاذا مرت على الصحراء أصبحت واحة ، واذا أبتسمت تشرق الشمس فى الليل فى غير موعدها .. هى بإختصار البدايات والنهايات وصوت الحب الأبدى يملأ بأصدائه المدى .
اعزائى المستمعين ارجو ان لا اكون قد اطلت عليكم ، لكن ما اريد ان اقوله ان زهرة كانت تعرف قيمة هشام كانسان ، وترى انه قد اختصر كل الرجال فى شخصه ، وكانت تعتبر ان عينيه نافذتان على الحياة .. اذا غابتا غابت الحياة باكملها ولا تتصور ابداً غيابه ، وشيئاً فشئ بدات الأسطورة تتشكل ، زهرة بالغة الثراء تطلب من هشام ان يتقدم لها وتقرر ان تواجه اسرتها بوضع هشام المادى واسرته رقيقة الحال، ورغم امكانياته المادية المتواضعة الا أنها على استعداد لتواجه العالم كله بحبها له حتى اذا تطلب الامر ابعد من المواجهة
كانت اسرة زهرة بفعل الفضول تريد ان تتعرف على هشام رغم رفضهم المبدئى له ، ترك هشام انطباعاً ممتازاً عند اهل زهرة واثنى على شخصيته خال زهرة السفير وقال لوالدتها ؛ انه صحيح رقيق الحال ومتواضع المستوى إلا أنه ينتظره مستقبل مزدهر لانه يملك شخصية لها مواصافات جيدة
عملت أم زهرة بدأب على اقناع والد زهرة واخواتها ، بارتباط زهرة بهشام ، وبقلب الام التى تشعر بحالة الحب التى تعيشها ابنتها ، استطاعت الأم النجاح فى مهمتها الصعبة ، واصبح هشام وزهرة على بعد خطوات من تحقيق حلمهم بالارتباط .
لكن ويالها من كلمة نقولها ببساطة رغم اننا نجهل ما سياتى من بعدها من أخبار خطيرة ستعمل على استكمال ملامح الأسطورة ، لقد مات والد هشام واخوه الكبير فى حادث على الطريق ، ومثل هشام يا سادة بطبيعته الرقيقة المرتبطة بالابداع الانسانى ككل والابداع الشخصى ، لن يمر عليه هذا الحادث كأى أحد ، ارتباطه الشديد باخيه الأكبر كان أكبر من يعرفه أحد .. فهو كان بالنسبه له المربى والاخ والصديق والدرع الذى يحميه من افعال الزمان الناقصة ، فجاة يفقد بدل الأب اثنان ، ها هو القدر يضع بريشته ملامح لمأساة انسانية متكررة وحزينة .
دخل هشام فى نوبة من الأكتئاب الشديد ثم تحول الأكتئاب الى أستهتار وغياب تام عن الحياة ، كان عندما يسأل عما يشعر به ؟
يقول :كل ما أريد فقط ، ان أتخلص من المرارة الشديدة الساكنة فى حلقى ، أريد ان أخذ نفساً عميقاً هادئاً يعيد حياتى الى ما قبل هذا الحادث !، حاولت زهرة بمساعدة اهلها إخراج هشام من دوامة الألم التى أبتلعته وغاصت به الى أعماق محيط من الألم .
على الجانب الأخر أصاب زهرة السأم ،و العلل وقتلها اليأس فى عودة هشام الى سابق عهده ، وتحت ضغط أسرتها وشدة والدها خطبت زهرة الى أحد العاملين فى المجال الدبلوماسي بسفارة مصر فى السعودية ، أنهى أهل العريس إجراءات الزواج بسرعة ووجدت زهرة نفسها خارج حدود الوطن الذى يعيش به حبيبها ، ومسئولة عن زوج وأربعة أبناء ،
نحن الأن نقتزب أعزائى المستمعين من أكتمال ملامح الأسطورة ، الزمن لا يتوقف عند محطة واحدة فى حياة أى إنسان ، ما العمر الا عدة محطات من الحزن والسعادة ، والنجاح والفشل ، والانتصار والهزيمة ، ولان تيار الزمن أقوى من أى إنسان .. فهو دائماً يغير حالاً بحال بسرعة وأحيانا ببطئ ، كما فى حالة هشام ، لكن فى النهاية حتى لا أطيل عليكم أستطاع أن يخرج هشام بعد وقت من أزمته ويتقدم فى الحياة وهو يحمل جراحه فى قلبه
وتتوالى النجاحات المهنية ، ويتولى رئاسة واحدة من أهم الصحف اليومية ويتزوج وينجب ثلاثة أبناء ناجحين ، خمسة وثلاثون عاماً مرت على هشام وهو يتقدم فى الحياة رغم الجرح الذى تشكل بداخله ، هذا الجرح الذى يفتحه كل ليلة يشاهد أحداثة، ثم يغلقه وينام نوماً غير عميق ويظل طوال الليل بين الصحو والغفو يرنو الى سقف الحجرة فيرى زهرة كمصباح يضئ حياته رغم طول الزمن الذى فرق بينهما ، وبعد المسافة ، طوال خمسة وثلاثين عاماً لم يحاول ان يعرف اى شئ عنها ظل محترماً لخصوصيتها ، أنها تلك الفتاة التى أحبها من كل قلبه ويتمنى لها الهدوء والأستقرار فى حياتها الجديدة
أعزائى المستمعون دعونى أعتذر عن تلقى أى مداخلات فى حلقة اليوم ، على غير العادة هذة الليلة لأنى فقط أريد أن أحكى وأتأمل معكم لعبة القدر فى حياتنا .
فى أحد ردهات الصحيفة قابل هشام أميمة الصديقة المشتركة التى جمعته مع حب حياته زهرة ، لم يستطع ان يصمت فسألها عن أحوال زهرة ؟ فأبلغته أنها تعانى الأكتئاب منذ مدة طويلة بسبب خلافاتها الدائمة مع زوجها .
الغريب أنه فى نفس هذة الليلة ظهر طلب صداقة من زهرة لهشام على الفيس بوك ، وقبل ان يندهش هشام او تتملكة المفاجأة تم حذف طلب الصداقة سريعاً قبل ان يتحقق منه ، ففهم ان هذا قد حدث بالخطأ ،
اتصل بى هشام وحكى لى عن هذا الموقف لكننا لم نتوقف امامه كثيراً ، بعدها بحوالى ستة أشهر كان هشام يسير وحيداً فى ملعب النادى يمارس رياضة المشى .
وهنا أريد منكم أعزائى المستمعين أن تنتبهوا جيداً لما سيحدث ، بينما يسير هشام أستدعى أغنية من الأغانى العاطفية التى كان يستمع اليها مع زهرة ، ووضع الاغنية على وضع الإعادة ، ومع كل كلمة فى الأغنية ومع كل نغمة فى اللحن كان يستدعى بها زهرة من الزمن البعيد
كان يتذكر ما أخبرته به أميمة عن أحوال زهرة كأنه يردد تعويذة لينقذها من حالة الاكتئاب التى تعيشها ، وكلما كانت الأغنية تعيد نفسها كان أحساسه بوجودها يقتزب من الواقع .
ثم بدأ ينفصل عن الواقع تماماً ليجد زهرة تسير بجانبه ،
تقول الأسطورة أن الصدق والحب حينما يندمجان ممكن يتحولا حقيقة رغم الغياب ، كان قلبه يعتصر وهو يعيش فى
حقيقة الغياب وحضور الخيال ظل هكذا حتى أفاق على هاتفه يرن ، أنتبه على صوت الهاتف وتردد فى الرد على
المكالمة لكنه خشى ان تكون المكالمة خاصة بالعمل ، لم يخطر فى باله ابداً ان الأمنية التى تمناها منذ قليل
ستحقق بهذة السرعة ، واذا بصوت زهرة زاهر يأتى عبر الهاتف ليملئ الكون حوله بمشاعر من السعادة كانت قد
هجرته منذ خمسة وثلاثون عاماً مضت
كيف عرفت زهرة أدق تفاصيل حياته الطويلة التى عاشها وهو بعيد عنها ، لقد كانت تتبع أخباره بأدق تفاصيلها منذ
ان تركا بعضهما حتى الأن ، حتى اخبار زوجته واولاده بأساميهم واعياد ميلادهم ، كيف تحقق ذلك لزهرة وهى التى
كانت تبعد عنه الاف الأميال وعشرات السنين ، كانت تقسم له أنها رأت كل ذلك فى أحلامها أثناء نومها ، ظلا يتحادثا
منذ الساعة العاشرة مساء حتى الساعة الواحدة ظهراً من اليوم التالى أكثر من ثلاث عشر ساعة من الحديث
المتواصل ، كانوا يعيدوا فى كل مرة حكايتهم كيف التقيا ؟، وكيف عشق كلاً منهما الأخر ؟ ، وكيف أنتهت حكايتهما
معاً !
فى كل مرة كانا يعيدا فيها حكايتهما على مدار الثلاث عشر ساعة بتفاصيلها الدقيقة وذكرياتها الجميلة ، كانا فى كل
مرة يحاولا ان يجدا نهاية أخرى لهذة القصة الأسطورية ، لكن ياسادة مالم يعرفه هشام وزهرة أنهما حتى لو أعادا
قصتهما ملايين المرات . فلن تتغير نهايتها ، فان ما تخطه يد القدر بمداد لا يمحى .. يستحيل ان يتغير
فى تلك الليلة ظلا هشام وزهرة هكذا مثل البطل الاغريقى سيزيف الذى حكمت عليه الآلهة بان يحمل حجراً ثقيلا
ويرتقى به قمة الجبل ، وكلما كان يصل الى القمة كان يتدحرج منه الحجر الى أسفل الجبل مرة أخرى
لكن الأسطورة لم تقل لنا كيف أستطاع سيزيف ان يصبر كل هذا الوقت ؟ وكيف استطاع ان يتحمل كل هذا الألم ؟
الإجابة اعزائى المستمعين بسيطة .
فالحب يجعل لنا منطق ، ويجعل للمنطق حياة ، الحب يجعل لكلامنا احساس ، ويجعل لاحساسنا كلام ، الحب يا
سادة يجعلنا دائماً نرى ضوء المصباح المضئ فى نفق الحياة المظلم
الحب هو أسطورة كل واحد فينا يكتبها كما يشاء ، ويصنعها من دمه وأعصابه وأيام عمره ، فاذا أكتملت الأسطورة
كتب لها الخلود ،كأسطورة ” زَهّْرَةْ وهشام ”
تصبحوا على أسطورة .