خلال جلسات ملتقى البودشيشة ال١٨: الانتماء الوطني والدينى.. تكامل لا تعارض.. لصالح الإنسانية

تغطية /  مصطفى ياسين
أكد العلماء والمفكرون من مختلف الجنسيات أن الانتماء للوطن لا يتعارض نهائيا مع الهويات الدينية مهما تعددت، بل إنها تتكامل وتعاون مع بعضها لصالح المجتمعات والإنسانية، ضاربين المثل بصحيفة المدينة التى وضعها سيدنا رسول الله، صل الله عليه وآله وصحبه وسلم، وحددت حقوق وواجبات كل مواطنى المدينة من مسلمين ومسيحيين ويهود، فكانت أول وثيقة للمواطنة الشاملة بمعناها الحقيقي المعاصر.
جاء هذا خلال مناقشات جلسات الدورة الثامنة عشر للملتقى العالمي للتصوف بعنوان “اﻟﺘﺼﻮف واﻟﻘﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻮﻃﻨﻴﺔ من أجل تأسيس مواطنة شاملة”، والذى يعقد تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس، بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي، والذى تنظمه الطريقة القادرية البودشيشية ومشيختها، برئاسة العارف بالله مولاي جمال الدين القادري بودشيش، رضي الله عنه، ومؤسسة الملتقى، بشراكة مع المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، ومؤسسة الجمال.
حيث تحدث د. عبدالصمد اليزيدي ،الأمين العام للمجلس الاعلى للمسلمين في المانيا، المدير العام لمواطنة المعهد الألماني للحوار والتفاهم، عن “مغاربة العالم بين مفهوم العامل الضيف الى المواطنة الفعالة”، مشيراً إلى أن الطلب على اليد العاملة من الدول الأوروبية خلال القرن العشرين، جعل المغرب أحد أبرز الدول التي كانت موطن هجرة، فكانت الدول المستقبلة تنظر إلى هذه الفئة من منطلق كونهم ضيوفا وليسوا مواطنين أصحاب حقوق ثقافية وسياسية واجتماعية كاملة، كما كان المغاربة المهاجرون لا يعتبرون أوروبا والدول الغربية، مكان استقرار دائم.
فالنظرة التي استبطنتها سياسات الهجرة في الدول الأوروبية، كانت تختزل المهاجرين في الأدوار المهنية التي يقومون بها لسد الخصاص الحاصل، كما أنهم عمال ضيوف سيعودون إلى بلدانهم، مما غيب التفكير في آليات الإدماج المبكر للمهاجرين أو المواطنة الفعالة.
واستدرك د. اليزيدى، قائلا: انبثقت سياسات الاندماج من واقع جديد خلق مع الوضعيات المستحدثة للمهاجرين، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، لكن سياسات الاندماج نفسها تبقى في منظور عدد من الباحثين والأكاديميين الألمان والأوروبيين قاصرة، بل إنها تعتبر إقصائية باعتمادها نهج التغيير القسري للملامح الثقافية للمهاجرين أو من هم من أصول مهاجرة، من المغرب وغيره من الدول العربية والإسلامية.
أوضح أن المواطنة تشكل عقد الانتماء والعلاقة التعاقدية بين الفرد والمجتمع من جهة والدولة من جهة أخرى، وقد تطور المفهوم في علاقة بالمكونات التي تشكلت في العقود الأخيرة مع الهجرة، أو اتساع قاعدة المكون الإسلامي بأوروبا والغرب عامة، وهي القاعدة التي يشكل فيها المغاربة عنصرا فاعلا، هذا المفهوم تطور مع عدد من الأبحاث والدراسات من منظور الفلسفة السياسية أو علم الاجتماع السياسي أو الدراسات الثقافية، والتي ترى ضرورة منح المكونات الثقافية والدينية المتنوعة داخل المجتمع الواحد حقوقا متساوية داخل دولة المواطنة، باعتبار المجتمع قائم على نسق التعددية والتنوع واحترام الاختلاف.
وأشار إلى أن المواطنة انتماء سياسي تترتب عنه جملة من الحقوق والواجبات، وهذا الانتماء لا يتعارض مع البعد الديني الذي يحمله الإنسان ويعبر عنه. حيث تشكل وثيقة المدينة والمجتمع النبوي الإطار النظري الإسلامي لعقد الانتماء على أساس المواطنة، ذلك أن مجتمع المدينة شكلته دوائرة متعددة من الانتماء، بين أمة الدين وأمة السياسة، في نسق سياسي ومجتمعي جامع وموحد بمكوناته المتعددة.
والمواطنة الفعالة في السياق الأوروبي والغربي، تتجاوز الاندماج إلى الفعل والمبادرة، ذلك أن النسق السياسي والاجتماعي للمجتمعات الحديثة، وبالأخص الأوروبية، تنظم أسسه قيم ومبادئ سياسية، تمنح المسلمين والمغاربة مساحات واسعة للتأثير في الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية. فالمواطنة الفعالة، هي صيرورة من الفعل المدني والثقافي والسياسي، يتحقق معها كسب الاعتراف، ومفهوم الاعتراف مفهوم مركزي على مستوى الفكر والممارسة، أي على مستوى التنظير الفلسفي والفكري في السياق الغربي، وكذلك على المستويين السياسي والاجتماعي. ويتمثل تجسيد المواطنة الفعالة التي تنتهي بنيل الاعتراف سلبا بمحاصرة العنصرية والاسلاموفوبيا والتطرف اليميني، وإيجابا من خلال الاستثمار في المساحات المفتوحة وتوسيع هامش التأثير فيها، لكسب جملة من الحقوق المدنية والسياسية والثقافية.
الفطرة الإنسانية
وقال د.عبد الوهاب الفيلالي، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس: السعي إلى القيم فطرة في الإنسان، والحاجة إليها أبدية عنده عبر التاريخ، وهي من ثمة أصول وكليات مشتركة بين الناس تتخذ خصوصياتها بحسب خصوصيات الإنسان التاريخية والدينية والثقافية، والاحتكام إليها تخطيطا وإنجازا وتنظيرا وممارسة من أسرار نهوض الأمم وبنائها الحضاري السامي، ومواكبة مسارها الناجح والناجع في مختلف مجالات الحياة.
والمؤكد عندنا أن الاحتكام إلى الدين والوطن في بناء منظومة القيم هو أنجع السبل لتحقيق ذلك البناء السامي، وأوضح المسالك إلى المجتمع الإنساني القوي والقويم والموحد في ظل مواطنة شاملة إنسانية كونية مشتركة، ومنسجمة ومتعايشة مع فطرتها؛ فطرة النقاء والصفاء والطهر والسمو، أساسها الارتباط الروحي بالأمة الإنسانية ارتباط محبة والتزام، وانخراط في خدمتها بصدق وإخلاص وإيثار، تمكينا لفضائل الألفة والتواصل المجدي والبناء ولروح الإنسانية السمحاء، استنادا إلى منظومة القيم الدينية وما يحكمها من مبادئ ويتربى عنها من أخلاق وسلوكيات.
ولن يوارب المطلع المتمكن، إذن، في أن القيم الدينية الإسلامية قيم إنسانية أخلاقية وطنية شاملة، وأن حياة التصوف نموذج سام لها ولفاعليتها في بناء إنسان المواطنة الشاملة الناجمة عن اشتغال منظومة القيم ومركزيتها في تحديد هوية الإنسان فردا وجماعة، مبادئ وأخلاقا، معرفة وسلوكا، فما أحوج بني الإنسان إلى تنزيل مثل هذه الهوية العلائقية تنزيل سلوك حياتي يومي اجتماعيا واقتصاديا وغيرهما مما يمكن أن يضمن فسح المواطنة القيمية الشاملة المرجوة ضمان محبة رسخها دين الإسلام ودعا إليها وفعَّلها رسول الله امتثالا للإرادة الربانية القائمة في مثل قوله الحق سبحانه 🙁 تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا).
التطبيق الصحيح
وأكد د. عبدالقدوس أسامة الكليدار، ممثل أشراف الخليج والدول الإسلامية، مستشار مشاريع جودة التعليم بالإمارات، أن تطبيق المواطنة الشاملة بالمفهوم والمنهج النبوي الشريف يقود الإنسانية للفلاح الربانى. مشيراً إلى أن هذا يتطلب بدء الغرس والترسيخ فى الناشئة منذ الصغر، حتى يشبوا على ركائز الانتماء الديني والوطني.
وقال: في إطار السعي لإعادة الأجيال إلى ثوابت الأمة وهدي آل بيت النبوة في حب الأوطان وصحة الولاء للدين والقيم والوطن، تؤكد نقابة السادة الأشراف آل البيت في العراق وممثليتها العامة في الخليج العربي والدول الإسلامية على ضرورة إحياء المشتركات القيمية الدينية والوطنية والأخلاقية التزكوية لدى الشعوب لتحقيق المواطنة الشاملة وصولا إلى الشهود الحضاري للأمة في قيادة الإنسانية نحو الفلاح الرباني المدبج بالتقوى من خلال الثوابت الدينية وهدي آل بيت النبوة الأطهار..
ومن هنا نؤكد على ضرورة بعث الأمة واجيالها ومؤسساتها على الاستمساك بالمعاني القيمية وتحويلها إلى سلوك منضبط المفهومية يستمد أطره من الهدي النبوي الشريف، ومن تلك المرتكزات التي خطها آل بيت النبوة فمكنوا الناس من فهم مراد الله تعالى والالتزام به، التأسي بمنهج رسول الله في حب الأوطان والتزام الأخلاق في القول والعمل، وتحويل هذا الموروث الثقافي المعرفي الذي يُعتبر وقودا حقيقيا لإعادة انتاج الحضارة وتحويلها إلى واقع سلوكي وممارسة ترقى بالسلوك المجتمعي المعزز بالقيم، وهو ما كانت تتمتع به المجتمعات الاولى والتي تمثل مرحلة التأسيس لبيئة تحكمها قيم الإسلام ،وكذلك تلك التي حملت لواء التنمية والتطور والجذب للآخر وتعتبر ذات صلة بالإسلام او لا تعارضه.. وتمكّن لحالة التعايش السلمي الإنساني بعيدا عن التمييز العنصري او العرقي أو القبلي أو المذهبي او الفكري او الطائفي أو الجغرافي، وصولا إلى تلك المشتركات الجامعة بين هذه المسميات لتكون ورقة للحقوق المتبادلة بين فئات الشعوب وتنوعها ،وهذا ما صنعه النبي الخاتم في مجتمع المدينة عندما خط لهم صحيفة حفظ من خلالها حقوق الجميع بل مكنت الجميع من التعايش والمواطنة وبسطت الأمن والسلم المجتمعي ونقلتهم إلى الشهود الحضاري.. وتطورت المدينة الشريفة وصدّرت دعوتها ومعارفها وعلومها وتجاراتها ونموذجها الحقوقي الشامل إلى العالم أجمع.
الطريق إلى الوطنية
والسبيل نحو تحقيق هذا الهدف الإنسانى السامى يكون بضرورة إقتباس المجتمعات الشرقية، ولاسيما مجتمعات بلداننا العربية هذه الأفكار وتحويلها إلى برامج وطنية تنموية ممنهجة ترقى بمستويات أبنائها وتعمد إلى تغذية عقولهم وأرواحهم بمعاني تلك القيم رباعية الأبعاد (الدينية والوطنية والأخلاقية والسلوكية) وتشمل كافة مراحل دراستهم الابتدائية والمتوسطة والإعدادية الثانوية والعليا، لتسهم تلك الحكومات او وزاراتها المعنية بالتربية والتعليم او هيئاتها المشرفة في حفز  تلك الأجيال وشعوبها نحو الهدف الأسمى، وجعلها شريكا حقيقيا في تعزيز المواطنة بمعانيها الكلية وتمكين حب الأوطان في القلوب الواعدةؤ وتلقينهم دروس الأنموذج الجامع قدوة الأمة في التعامل مع هذه القضية، وفي تجذير قواعدها وتمكين مرتكزات وبسط سماتها في الأمة والإنسانية وهو سيدنا رسول الله بقوله وحاله وفعله وعلاقته مع الآخر.
استطرد: لقد دعونا إلى تحقيق التعليم والتوعية لتصميم القيم في المناهج الدراسية والبرامج التعليمية، وإلى إطلاق “برنامج تنموي” برعاية سيادية يهدف إلى تغذية جميع جوانب المواطنة وروافدها، والمشاريع ذات الصلة المعززة لها.
وإلى انبثاق نواة “منصة إلكترونية” تعرّف بمفهوم المواطنة الشاملة بأبعادها القيمية، وتعين على ترسيخ مقوماتها، والتبصير بأسباب تحقيقها، وحُسن إشاعتها بين الجماهير بمختلف الوسائل العصرية ذات التأثير الحسي والمعنوي في تمكينها.
مصابيح الأوطان
ويصف الشيخ الحسيني محمد رضوان، المشرف العلمى على الساحة الرضوانية بالأقصر، الصوفية بأنهم أصحاب الترياق المجرب والدواء المطبب لقلب الإنسان ونفسه وشخصه وأحواله كان لهذا الطب والدواء أثر عظيم في أن يكون الإنسان البشري نافعا لنفسه ولأهله ولمجتمعه ولوطنه، فإن الصوفية لا يكتفون بأن يوضحوا للناس أحكام الشرع وآدابه بمجرد الكلام النظري فقط ولكنهم بالإضافة إلى ذلك يأخذون بأيدى تلامذتهم ويسيرون بهم في مدارج الترقي بل يشملونهم بعطفهم وحنانهم وتوجيهاتهم في جميع مراحل سيرهم إلى ربهم وخالقهم ،ثم إنه لا يخفى على كل ذى عقل لاذب وذهن ثاقب أن لأئمة التصوف الدور الأكبر والفضل الأعظم في غرس معاني المحبة والإحترام والتقدير والإجلال للأوطان، بل إنهم غرسوا في أبنائهم وأحبابهم وطلابهم أنه من أساس الإيمان محبة الأوطان وإعمارها. ولقد روى البخاري أن رسول الله كان إذا قدم من سفر فأبصر جدران المدينة المنورة أوضع راحلته إليها من حبه لها “أي أسرع في السير إليها.
اضاف: ومن الذين عبّروا عن محبتهم للأوطان بحمايتها والدفاع عنها أئمة عظماء وسادة فضلاء اذكر منهم: الإمام المحدث القدوة سيف الدين البخاري الذي وصفه ابن ايبك الصفدى في كتابه (الوافي بالوفيات) أنه كان إماما في السنة والتصوف فعندما حطّم التتار بلاد الاسلام ودمروها قام هذا الإمام الجليل بدوره في حماية وطنه وفى نشر وخدمة دين ربه فلقد أرسل الإمام البخارى تلامذته إلى (بركة خان) حفيد (جنكيزخان) ملك القبيلة الذهبية التتارية ودعوه إلى الاسلام بحق وإخلاص وصدق  فأظهر على ايديهم الكرمات وخوارق العادات حتى تغلغل الاسلام في قلب (بركة خان) وقبيلته فأسلم وأسلم كل من فى القبيلة الذهبية التتارية على أيدى تلامذة الأمام الصوفى البخارزى رحمه الله. ‏ثم إنه لا يخفى أن الذين عبّروا عن حبهم لبلادهم وأوطانهم هم الصوفية بل قاموا بنشر الإسلام والإيمان في بلاد العالم كله، فقد انتشر الإسلام في عدة دول كإندونيسيا وماليزيا وجزر القمر وتايلاند والفلبين وسنغافورة ونيجيريا وكينيا على يدي شيوخ الطريقة والشريعة والحقيقة من أئمة التصوف.
علاقات متجذرة
أشار د. عبد اللطيف أديمولا مغاجي، ممثل صوفية نيجيريا وخريج جامعة القرويين، ومؤسسة دار الحديث الحسنية، إلى أن علاقات المغرب بمنطقة جنوب الصحراء تعود لفترة تاريخية قديمة وإن تطورت بعد انتشار الإسلام، وإن كان التمازج المغربي الإفريقي سابق على الإسلام، إلا أنه ازدهر في العهد الإسلامي من خلال التجارة وتبادل المنافع، وإن هذه العلاقات تتميز ببعد شعبي، لم يضعفها لا الاستعمار ولا مخططات عزل المغرب عن محيطه الإفريقي، ومن رحم هذه العلاقات المغربية الإفريقية ولدت الثوابت الدينية المشتركة، وهي الأشعرية عقيدة، والمالكية مذهبا، والتصوف سلوكا روحيا.
اضاف : يظهر الدور المركزي لمؤسسة إمارة المؤمنين التي تستمد مشروعيتها من النص الدستوري المغربي، في توجيه السياسة الخارجية من خلال التوظيف المكثف لرمزيتها الدينية والروحية في توثيق العلاقات المغربية بالبلدان ذات الأغلبية المسلمة بإفريقيا سواء تعلق الأمر بدول الساحل وأفريقيا الغربية التي تربطها بالمغرب علاقات تاريخية عريقة وتقاليد وعادات مشتركة أو غيرها من الدول التي تأثرت بالموروث الديني والروحي المغربي بفعل رحلات الدعاة والمتصوفة وعلماء المغاربة الذين حملوا إلى تلك البلدان في فترات متباعدة من التاريخ الفقه والعلوم والمعارف والتصوف .
اضاف : ترتكز الدبلوماسية المغربية على الرابط الديني الذي يجمع المغرب بالقارة الأفريقية، من خلال إمارة المؤمنين ورمزيتها وما قدمته لخدمة الإسلام في القارة. فأول ما دخل الإسلام إلى أفريقيا جنوب الصحراء كان على يد التجار المغاربة والزوايا الصوفية المغربية، لذلك ظلت هذه العلاقة تكتسي طابعاً روحياً، بالدرجة الأولى، ثم اكتست حلة سياسية، بمعناها الإيجابي، بحكم الإقرار للمملكة بإمارة المؤمنين.
وقد نجحت منظومة إمارة المؤمنين في إرساء مشروع مغربي متكامل يرتكز على النسب الشريف وحماية الدين على المذهب السني المالكي الذي يتميز بالجمع بين النص وإعمال الرأي عند الضرورة، والعقيدة الأشعرية، والتصوف الجنيدي.
وتناول “أديمولا مغاجي” الأدوار الدبلوماسية لمؤسسة إمارة المؤمنين في ترسيخ القيم الدينية في أفريقيا من خلال المحاور: الدور الدبلوماسي في ترسيخ القيم الدينية في أفريقيا. مشيراً إلى أنه من الصعبالنتحدث عن التجربة الإسلامية في بلدان غرب إفريقيا أو ما كان يعرف بالسودان الغربي دون أن نستحضر الدور الفاعل والمهم الذي لعبته مؤسسة إمارة المؤمنين في نشر الإسلام وثقافته في تلك الأصقاع والدفاع عنها باعتبارها دار إسلام وجب حمايتها بموجب البيعة الشرعية التي تنبني عليها المؤسسة في المغرب باعتبارها خلافة للنبوة وامتدادا للشرف النبوي ورمزا للإمامة العظمى التي من أولوياتها حفظ الدين وسياسة الدنيا حيث يصبح أمير المؤمنين بذلك هو الوالي الأعظم الذي لا والي فوقه، ولا يشاركه في مقامه، ولا في سلطته غيره من الحكام، مهما علا قدرهم وعظم شأنهم. كما لا يمكن تجاهل دور المغرب في تكوين الشخصية الإفريقية المسلمة سواء من خلال تاريخه السياسي كدولة إسلامية ذات نفوذ وقوة وامتداد، وبخاصة في عهد الدولة المرابطية والدولة الموحدية التي امتد سلطان المغرب فيها إلى الأندلس شمالا وإلى تونس شرقا وإلى السنغال جنوبا، أو من خلال دور المغرب العلمي أو الثقافي في أفريقيا المسلمة, حيث كانت القرويين في فاس هي المركز العلمي الذي كانت تدرس فيه مختلف العلوم الشرعية والفلسفية , وأنجب المغرب علماء كبار أسهموا في خدمة الفكر الإسلامي ,وما زال المغرب يتمتع بهذه المكانة حيث تنظر إليه الشعوب الأفريقية في غرب أفريقيا كعاصمة للثقافة الإسلامية وبخاصة فيما يتعلق بالمذهب المالكي الذي أسهم علماء المغرب في انتشاره في أفريقيا وخدموا هذا الفقه، وألفوا الكثير من المصنفات في أصوله وفروعه وقواعده ونوازله.
كذلك يتجلى دور إمارة المؤمنين في المواقف التاريخية التي اتخذها المغرب في دعم نضال الشعوب الإفريقية من أجل الاستقلال, والتحرر من الاستعمار الأجنبي و مساندته لحركات التحرر الوطني الإفريقية منذ استقلال المغرب عبر مساهمته الفاعلة في بعثات الأمم المتحدة في إحلال الأمن والاستقرار بالمناطق التي شهدت صراعات مسلحة منذ 1960 وعمله في تحقيق المصالحة والتحكيم في النزاعات الإقليمية باعتباره عضوا مؤسسا لمنظمة الوحدة الإفريقية 1963، حيث لعبت الدبلوماسية الملكية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني دورا مهما في ضمان استمرارية وفعالية العلاقات المغربية الإفريقية حتى بعد انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية 1984.
تأكد ذلك في عهد العاهل المغربي الملك محمد السادس الذي جعل من مكانته الدينية باعتباره قائدا مسلما في القارة الإفريقية عنصرا أساسيا لتوطيد العلاقات مع بلدان الساحل وأفريقيا الغربية وتطوير سبل التعاون الاقتصادي والثقافي في إطار علاقات التعاون جنوب – جنوب التي تعتبر امتداد طبيعيا لعلاقات المغرب التاريخية بدول جنوب الصحراء، حيث ظهر ذلك بشكل واضح خلال الجولة التي قام بها صاحب الجلالة إلى بعض الدول الأفريقية منذ م2013 والمتواصل حتى الساعة .
المحور الثاني: الدبلوماسية الروحية، حيث لعبت الطرق الصوفية دوراً مهماً في ترسيخ الأواصر الروحية وتعزيز الدور العلمي والروحي للزوايا الصوفية، وقد كان للتصوف المغربي تأثير واضح على مجتمعات إفريقيا جنوب الصحراء في ترسيخ الثقافة العربية الإسلامية وكذلك في الحياة السياسية وقيادتها، حيث فرضت عدة طرق صوفية نفسها، كفاعلين مؤثرين لا يمكن تجاوزهم في علاقات التعاون بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء ونذكر في هذا الصدد الطريقة التيجانية كرمز لهذا التقارب ووسيط ضروري في هذا المجال، والملتقى السنوي الدولي لجميع ممثلي فروع التيجانية في القارات الخمس بمدينة فاس المغربية شاهد على ذلك. مما زاد من توطيد الروابط بين ملوك المغرب وسكان الساحل وأفريقيا الغربية الذين ينتسب أغلبهم إلى الطرق الصوفية هو عنصر النسب الشريف الذي حول البيعة من مجرد شكل من أشكال الخضوع لسلطة الدولة الشرعية إلى رابطة وجدانية تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية المعاصرة حيث تبرز فيها مؤسسة إمارة المؤمنين باعتبارها خلافة للنبوة وامتدادا للشرف النبوي، وهو الأمر الذي يفسر لنا ذلك التعلق الشديد والمحبة العظيمة التي يبديها مشايخ الطرق الصوفية بأغلب دول أفريقيا الغربية لشخص الملك المغربي باعتباره أميرا للمؤمنين ولما يجسده نسبه الشريف من رمزية لدى أتباع المنهج الصوفي الذين ارتبط شيوخهم المؤسسون بروابط البيعة الشرعية مع ملوك المغرب.
ويفسر لنا كذلك الإطار النظري الذي من خلاله تتم اللقاءات الملكية برموز التصوف في دول الساحل وأفريقيا الغربية في كل مرة يزور فيها العاهل المغربي إحدى بلدان المنطقة وانعكاساتها الإيجابية على اتفاقيات التعاون الثقافي والديني وبناء الشراكات الإستراتيجية بين المغرب وبلدان الغرب الإفريقي وتقوية العلاقات بين الشعب المغربي وشعوب إفريقيا جنوب الصحراء بما يفند التأويلات السياسية الوقتية والظرفية التي قد تصدر عن البعض ممن لم يدركوا مدى مركزية مؤسسة إمارة المؤمنين الإستراتيجية في توجيه مسار السياسة الخارجية المغربية وتقوية فاعليتها ودورها في الحفاظ على الخصوصية الدينية التي تميز بها الغرب الإسلامي.
اما المحور الثالث: ترسيخ القيم الدينية عن طريق تكوين الأطر العلمية بالمغرب. فمن المعطيات المهمة لتأكيد الاستراتيجية الجديدة للمؤسسة تجاه أفريقيا مشروع تكوين وتأهيل الأطر العلمية الدعوية الأفريقية في معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات بالمغرب. هذه الخطوة لقيت ترحيباً واسعاً في الوسط الأفريقي وتسارعت دول لتوقيع اتفاقيات تعاون مع المملكة المغربية لتكوين الأطر العلمية الدعوية الوطنية في هذا المعهد، مثل دولة مالي التي تعاني من التطرف وممارسات جماعة العنف الديني، تلك الاتفاقية وقعت في باماكو. كما وجّه جلالة الملك محمد السادس بالاستجابة لطلبات قدمتها دول إفريقية عدة وغيرها، مثل تونس وسنغال وغينيا كوناكري وكوت ديفوار وفرنسا. وقدمت المملكة المغربية بديلا عن التيارات الدينية المتطرفة التي تتغلغل في بعض الأجزاء من تراب دول إفريقيا، ونجحت في سحب البساط من تحتها من خلال محاصرة التطرف بتكوين الأئمة والمرشدين الدينيين لتصحيح مفاهيم الإسلام، ونشر قيم الوسطية داخل المجتمعات الإفريقية المسلمة. وضمن هذا السياق، لعبت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دورا كبيرا في تنسيق طلبات تكوين الأئمة الأفارقة، من شمال وغرب أفريقيا، لتؤكد امتداد حقل إمارة المؤمنين نحو تصدير النموذج المغربي في مجال التأطير الديني. وقد تمكن المغرب من ربح مواقع داخل بلدان أفريقية، بفضل الخدمات التي يقدمها هذا الحقل الديني، في سياق محاربة الإرهاب والتطرف بالمنطقة، إذ أبانت الإستراتيجية الدينية لإمارة المؤمنين قدرة كبيرة في تحقيق الاستقرار ببلدان أفريقية.
ومن الناحية التعليمية يشكل المغرب مرجعا لكل القيادات الأفريقية ويستقطب الكثير من الطلاب في جميع المجالات المعرفية وتستفيد أفريقيا من حوالي 2000 منحة سنويا. ويقدر عدد الطلبة الأفارقة في المغرب بأكثر من 13 ألف طالب مسجل في المؤسسات التعليمية المغربية من بينهم 8 آلاف طالب على منحة دراسية.
يضيف”أديمولا مغاجي”: المحور الرابع: ترسيخ القيم الدينية عن طريق تأسيس مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، أما دبلوماسية إمارة المؤمنين قي تأسيس مجلس يجمع العلماء الأفارقة فهي خطوة لم يسبق إليها قط، حيث قرر صاحب الجلالة الملك محمد السادس، إحداث “مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة”، وتهدف إلى توحيد وتنسيق جهود العلماء المسلمين بكل من المغرب وباقي الدول الإفريقية، للتعريف بقيم الإسلام السمحة ونشرها وترسيخها؛ القيام بمبادرات في إطار كل ما من شأنه تفعيل قيم الدين السمحة في كل إصلاح تتوقف عليه عملية التنمية في إفريقيا سواء على مستوى القارة أو على صعيد كل بلد؛ تنشيط الحركة الفكرية والعلمية والثقافية في المجال الإسلامي؛ توطيد العلاقات التاريخية التي تجمع المغرب وباقي دول أفريقيا والعمل على تطويرها؛ التشجيع على إقامة المراكز والمؤسسات الدينية والعلمية والثقافية؛ إحياء التراث الثقافي الإفريقي الإسلامي المشترك من خلال التعريف به ونشره والعمل على حفظه وصيانته ؛ربط الصلات وإقامة علاقات التعاون مع الجمعيات والهيئات ذات الاهتمام المشترك. وقد أكد أعضاء المؤسسة في الاجتماع السنوي لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة 2017 : أن المؤسسة ستوحد المسلمين في القارة الإفريقية والعالم. أما الدروس الحسنية فهى دعوة إلى الوسطية والتجديد، ودورها مهم جدا في تعزيز العلاقة.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.