مساكين هؤلاء المبدعون ، تحسبهم أغنياء من التعفف ، فى عام ١٩٩٠ وصلت مصر إلى نهائيات كأس العالم بإيطاليا ، وسجل هدف مصر اللاعب حسام حسن فى مرمى الجزائر ، وحصل وقتها على مكافأة مليون جنيه من أحد أصحاب توكيلات السيارات الألمانية الشهيرة ،
فكتب توفيق الحكيم الذى كان يكتب مقالا اسبوعياً بجريدة الاهرام مقابل ٢٠٠ جنيه ،ينعى رأسه التى تساوى القليل فى مقابل قدم حسام حسن التى تساوى الملايين ، ولمن لا يعرف الحكيم ، فهو واحد من أربعة مع محمد عبده والعقاد وطه حسين أخذوا بيد الثقافة المصرية الى العصر الحديث
ولا يذكر هذا إلا فى الأوساط الثقافية ، أما اذا سألت عن اللاعب حسام حسن ، ستجد الملايين التى تعرفه وتقدره وتحكى معك عن تاريخ حياته
إنها الحكمة المكروهه والمعرفة التى يضيق بها صدور الناس ، عندما ضرب لنا الكاتب الصحفى الكبير محمد الشبه موعداً مع الحاجة علية لتصوير شقة العندليب التى كان يسكنها مؤجرة بجوار حديقة الأسماك بحى الزمالك ، أصابنى الذهول أنا والزميلة شافكى المنيرى وكنا نقوم بعمل برنامج عن عبد الحليم فى ذكراه لقناة mbc
الشقة بسيطة والأساس أبسط ، وعندما دخلنا غلى حجرة نوم العندليب ، شاهدنا حجم الآلام التى كان يتعرض لها هذا الفنان الكبير الذى أثرى وجدان شعب مصر لعدة عقود من الزمان ، أثر راسه مطبوع على ظهر السرير لأنه كان ينام وهو جالس خوفاً من النزيف الذى يهاجمه فى أى وقت ،
وعندما قال له الأطباء أنه يمكن أن يبرأ من المرض الخطير الذى سيودى بحياته بشرط عمل عملية ، لكنها ستؤثر على أحباله الصوتية و من ثم ستمنعه من الغناء رفض ، وفضل الموت على الحياة بدون إبداع
أحد المطربين الآن يملك المليارات وصاحب جسد يشبه أجساد المصارعين واذا حاولت ان تتذكر له أغنية واحدة ستجدها لكن بصعوبة ، قد يمنحك الحظ المليارات ولكن لن يكتب لك الخلود كفنان ،
المبدع الحقيقى ، صاحب ألم متواصل لانه دائماً يعيش هاجس هجرة الإبداع له ، واذا اكتمل عمله الإبداعى فهو ينتظر حكم الناس فيه .. إما البراءة وإما الحكم بالاعدام
وغاية ما يصبو اليه المبدع فى حياته أن تقدر الناس إبداعه ولا يريد أكثر من ذلك ، أى مطرب – آسف – مهرجانات، يجنى من الحفلة الواحدة ملايين الجنيهات وبعضهم يطلب أجرة بالدولار ، واذا تمعنت فى كلمات الأغانى والألحان ستجد أنها ليس أكثر من تقيؤ فنى ، ولا تمت للفن بصلة إلا صلة الإيقاع الذى يشبه ايقاعات حلقات الزار والشعوذة ، لكن الجمهور عايز كده
جمهور يستحق ما يسمع ويستحق أن يحاكم فى ميدان عام لسماعة تلك المنغصات والسفاهات والموبيقات ، الشاعر أمل دنقل الذى كتب ” لا تصالح ” ، كان يسكن فى حجرة تحت الأرض بحى العجوزة وكان لا يأكل فى اليوم سوى وجبة واحدة مكونة من البطاطس المقلية وبعض أرغفة الخبز ، وكان يملك قميصاً واحداً يتبادله مع رفيقه فى الحجرة الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى ، فاذا خرج الابنودى ينتظره دنقل حتى يأتى ، ثم يغسل القميص وينتظر أن يجف ، وعندما شك الوسط الثقافى فى نشوب خلاف بين دنقل والأبنودى يمنعهم من التواجد معاً فى مكان واحد .. بحثوا وعرفوا السبب الحقيقى .
فى حين كانت ملايين من القطط السمان تأكل أقوات الناس ، وتضع فى كروشها الممتلئة ثروات مصر ، إبان حقبة الستينات وحقبة السبعينات فكتب أمل قائلاً :
من يملك العملة
يمللك الوجهين
والفقراء بين بين
كل المبدعين يعلمون مصائرهم لأن بضاعتهم ليس لها رواج ورغم ذلك ، ذاهبون إلى اقدارهم وإلى نهايتهم المحتومة ، لأنهم مدفوعون لا إراديا بشعور يتملكهم ويستولى على أرواحهم ، للبحث عن الحكمة والخلود من خلال الإبداع .
انت مبدع اذاً انت تتألم ، كما تألم ملايين المبدعين قبلك ، أنت لست أقل من “فان جوخ ” أو “بيتهوفن” أو “بليغ حمدى ” أو “بيكاسو ” أو “صلاح طاهر” أو الشاعر الكبير “صلاح عبد الصبور ” الذى قتله صديقة بكلمة أصابته بأزمة قلبية ، حينما اتهمه الفنان عادل كامل بالتطبيع مع اسرائيل ، لم يحتمل – صاحب ديوان ” الناس فى بلادى ” – الكلمة التى تحولت فى لحظة إلى نصل مسموم استقر فى قلبه
تاتى ذكرى ميلاد ورحيل واحد من أهم مائة شاعر على مستوى العالم ، ولا يلتفت إليه أحد ، بينما يكفى أى كومبارس الظهور فى أى عمل فنى لنحتفى به ،
وأصبحت عادة أن تحتفى البلاد بأنصاف الفناننين وأنصاف الإعلاميين بوضع أسمائهم على منشآت هامة تخليداً لهم ، تري ماذا أرادوا بهذا مثلاً ؟ أن تقدر الفشل على حساب النجاح ! ممكن !
اذا كنت مثقف .. فانا أتحسس مسدسى ، إنها دعوة مفتوحة لعدم الاجتهاد والابتكار .
لقد قتل النبى يحى ، وفصلت رأسه عن جسده ، فى مقابل أن ترقص سالومى عاهرة بنى اسرائيل للملك عارية ، ونحن نذبح مئات المبدعين يومياً من أجل عيون التفاهة والسطحية ودقائق من اللذة المفتعلة ، حتى بعد رحيل سالومى بآلاف السنين ما زال العهر الفكرى له آلاف الضحايا .. إنها خصلة فى بنى الإنسان لا يريد أكثر من اللذة السريعة
ولا عزاء لمئات المبدعين المساكين المنتظرين كلمة ( الله)