الإعلامي محمود عبد السلام يكتب : عودة للقلق !

الكاتب الإعلامي محمود عبد السلام
هل كنت أعلم ما سيحدث لى بعد دقيقة واحدة ؟ بالتاكيد لا ! لا أنا ولا غيرى ولا أحد على وجه الارض مهما بلغ من قوة ، ومهما بلغ من مكانه ، ومهما امتلك من اموال ، أو صحة ، أو ذرية او مُلْك يستطيع أن يخترق الغيب ويعلم القادم من الأحداث ،
انه تحدى القدر للانسان الذى يصيبه أحياناً الخيلاء ويتصور أنه بقليل من الصحة وقليل من المال يستطيع أن يخرق الأرض ويبلغ مبلغ الجبال ،
كل ما أتذكره اننى كنت عائداً من جلسة نقاش حادة حول أمور مختلفة فى حياتنا وامتدت الجلسة الى الساعات الأولى من الصباح ، ورغم الاجهاد الشديد لكنى لم أشعر بأى تعب ممكن أن يؤدى الى تدهور فى صحتى ، وعندما عدت إلى بيت أختى كان اذان الفجر يعلن ميلاد صباح جديد ، توضأت للصلاة ووقفت بين يدى ربى وانتهيت من ركعتى السنة ، ثم اقمت الصلاة لتادية صلاة الفرض، وانتهيت من الركعة الاولى وفى الركعة الثانية سجدت أردد ،سبحان ربى الأعلى .. سبحان ربى الأعلى .. ( سبحان ….) أحاول ان اتذكر بقية الكلمات لم أعثر عليها ! بل لم أعثر على انفاسى ،
انسحب الهواء من صدرى ومن الحجرة ومن الكون كله ، وبدأت اشعر بضربات قلبى تتسارع وتضرب فى كل اتجاه ، وكان قلبى قد تمرد على وجوده سنوات طويلة محبوساً فى صدرى فانتهز لحظة ضعفى ليتمرد ويخرج هارباً يولى الأدبار ، ثم بدأ الضوء يخبو كضوء شمعة قاربت على الانتهاء و الانطفاء ،
يا الله .. كيف ياربى يحدث هذا وأنا قبلها بلحظة واحدة أملأ الدنيا نشاطاً وحركة ؟ ماهى تلك اللحظة الفاصلة التى حولتنى من انسان يتمتع بكامل حيويته الى انسان يعثر على انفاسه بالكاد ، هل هكذا يكون الموت ؟ ،
لحظة يغافلنى ، ينتهز فرصة ضعفى أم ينتهز لحظة غرور تنتابنى لتؤكد لى أن الحياة مستمرة واننى اتمتع بقدر من الصحة يضمن لى الحياة ،
أو ليس هناك من مقدمات او اشارات تدل على ان الموت قريب ، أتساءل من الذى نشر هذه الكذبة بيننا ؟ ، وهل الانتقال من هذا العالم الفانى الى عالم الخلود يحتاج الى اسباب ؟ ام أننا خلقنا وخلق معنا أسباب انتهائنا ، وأن الانسان مهزوماً من قبل دخوله معركة الحياة لانه محكوماً عليه فى النهاية ، فنحن مهزمون من قبل ان نبدأ ، ( أحبب من أحببت فانك مفارق )
لحظات مرت لكنها كانت قاسية انتبهت على آثارها أننى لم أفقد الحياة كلها وأننى مازالت بعضاً منها وهى قليلاً منى ، لكن الألم يزداد ! شئ مثل الشوك ينشب أظافره فى صدرى لا يريد ان يتركنى ،
يد قوية تضغط على رقبتى بقوة واستحكام تمنع الهواء عنى ، لكنى أردد أنا مازالت أحيا رغم كل هذا الألم ، فى لحظة كنت فيها بين الحضور والغياب بين الظلام والنور بين النجاة والغرق ،
استجمعت كل ما أملك من قوة لآخذ نفساً عميقاً محاولاً سحب اكبر قدر من الهواء داخل صدرى ، لم تنجح المحاولة الأولى ولا الثانية ولا العاشرة ! ،
يا الله ها أنا افقد القدرة على المقاومة وبدات أرفع راية الاستسلام ، فى هذه اللحظة امتدت يد ( على ابن أختى ) تهزنى بقوة ، فاعود مرة اخرى الى الحياة لكن بلا ارادة او قدرة أو وجود فعلى ،
انسحب الوجود من شرايينى وأصبحت فى انتظار لحظة سقوط الزهرة لحظة غياب الشمس والانتقال من النور الى الظلام ، لكن اليد التى تهزنى تصر أن تدفعنى للمقاومة مرة اخرى ، وصدى صوت واهن يردد خالى .. خالى ، ثم يسيطر الضوء الباهت على المشهد ، وينتشر حولى الضباب ، ضباب يغلف كل الاشياء ويمحو ملامحها فتتشابه جميعاً وتصبح الحياة بلا ألوان أو ملامح فقط لوناً ضبابياً اميل الى الابيض الواهن ،
شعرت بوخزة شديدة فى كف يدى من الخارج ، الوخذة تتكرر مرات حتى تستقر داخل شريانى ، وبدأ محلول يتدفق فى جسدى المسجى ، دقائق بعد هذه الوخزات بدأت أعود للحياة ، صدرى عارياً وعليه ماصات للهواء للتثبيت واسلاك ممتدة منها متصلة باجهزة لها طنين منتظم ، وشاشة عليها رسم بيانى ما أن يكتمل حتى يختفى ثم يعود ليبدأ من جديد ،
فتحت عينى وجدت اكثر من شخص فى ملابس أعرفها جيداً ، انه الزى الرسمى للأطباء الذين يستقبلون به الاشخاص المحتمل مغادرتهم الحياة او الذين كتب لهم النجاة، لا يقدم الطبيب الى المريض سوى دفعه الى قدره الذى كتبه الله له ،
الطبيب وسيلة انسانية لاستمرار الحياة اذا قدرت لها السماء ذلك ، أكثر من طبيب ينظر لى فى اندهاش واحدهم فى يديه مقبسان كبيران بيدين قويتين من مادة عازلة لعمل صدمات كهربائية ، لإعادة قلبى للحياة ،
شكراً مستر اديسون إنى أدين لك بالفضل بعد الله ثم الاطباء ثم حضرتك ، اكتشافك للطاقة الكهربائية منذ أكثر من ١٥٠ عام أنقذ حياتى ، ها أنت فى العالم الآخر بينى وبينك بعد المدى اللا متناهى ، ورغم ذلك انقذت حياتى ،
بالتاكيد لم تكن تعلم أنه بعد أكثر من مئة عام واكثر سيتعرض أحد الأشخاص فى أحد المدن الكثيرة المنتشرة حول العالم فى قارة بعيدة عن القارة التى ولدت بها أنت ستنقذ حياته ! رغم انك لا تعرفه ولم تقابله حتى ولو لمره واحدة !
( هنا تتجسد قيمة العلم فى حياتنا الذى أصبح غريباً فى بلادنا ) ، وأنت تسير فى أحد الشوارع بينما أنت هائم فى أفكارك ، شكراً لك ياسيدى ،وشكراً للكهرباء التى كنت اخشاها طوال عمرى عندما رأيتها تقضى على أحد الاشخاص أمامى ،
ها هى القاتلة تنقذ حياتى ( ألم يسبب الله الاسباب لاستمرار الحياة ، ويسبب الأسباب لانتهاءها ) بعد عدة صدمات كما ابلغنى الاطباء ، هل كنت خائفاً من الموت ؟ لا لم أكن كذلك فانا لا اخاف من الموت بل أخاف من المستشفيات أكثر من الموت نفسه ،
فانا حين أموت ساقف بين يدى الرحمن الرحيم ، أما فى المستشفى تتلاقانى أيدى البشر ، لقد عشت حياتى كلها قلقاً ابحث عن الحكمة فى كل الاشياء وكلما كنت أشعر بانى اقتربت منها اكتشف بعدى عنها ،
ارتكبت أخطاء بالتاكيد لكن توبتى كانت أكثر من سقطاتى ، حاولت طوال عمرى أن أفهم ، أن ألقى على نفسى كل يوم عشرات الاسئلة وأكلف نفسى بالاجابة عليها ، هل نجحت فى الإجابة ؟ ، أشك فلو أنى أجبت لكنت اطماننت ! لكنى حتى الآن أسأل وأحاول الإجابة ،
وانا طفل كنت أجلس دائماً وأحيط نفسى بأشياء كثيرة من مختلف الجهات بحيث أصنع جداراً يفصلنى عن العالم ويحقق لى الإحساس بالأمان والعزلة عما حولى ، هكذا كنت اشعر بالاطمئنان ! ، فلماذا كنت اخاف ؟ او من ماذا ؟ لا أعلم إجابة محددة هل تكون فى عقلى الباطن اشياء تثير خوفى ؟
ممكن لكن ما اعرفه أنى عشت طوال عمرى قلقاً خائفاً ، منتظراً من السماء قراراً على غير توقعى ، فهل كانت السماء معى عادلة ؟ بالتاكيد نعم ، فالعدل كله فى السماء وقليل منه على الأرض ، اذاً فانا قلق وخائف ولا أشعر بالأمان ، ودائم السؤال فماذا تبقى منى ؟ بعضاً من ذكريات جايز ، لحظات انتصار ممكن، لحظات انكسار بالتاكيد ،
صور كلما استعدتها تذكرنى كم كنت متالماً فى هذه اللحظات ذلك حقيقى، فى الواقع أن من هم امثالى ارتباطهم بالحياة ضعيفاً ولا يحملون هماً كبيراً للحظة الموت ، فهى لحظة راحة واستراحة لمحارب قد انهكته الحياة وعاركته وانتصرت عليه دائماً وانتصر هو مرات قليلة !
الموت بالنسبه له لحظة الإجابة على كل الأسئلة المؤجل الاجابة عليها ، فانت لن تفهم الحياة الا عندما تنتهى ويغلق عليك قبرك ، عندما سؤل احد الحكماء ( اظنه توفيق الحكيم وأظن ان الذى القى السؤال انيس منصور ) ما هو السؤال الذى لم تجد اجابة له ،، فقال وهو على فراش الموت : هل تستحق الحياة كل هذة المعاناة ؟
على كل واحد فينا ان يجاوب على هذا السؤال واذا كانت الاجابة بلا فعليه أن يعطينا وصفة لهذة الطريقة المثلى لنعيش بها الحياة ( أشك ).
، شكراً يا على ، شكراً يادكتور احمد جوهر ودكتور فؤاد وفايز ورئيس الممرض الشاطر كريم والممرضة الذكية داليا ولمستشفى مصطفى النجار الذى انقذ حياتى وساعدنى على العودة للحياة بامر الله لأستانف تساؤلاتى وقلقى والبحث عن الحكمة من وجودى فى الحياة .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.