اعتاد الأميركيون على وجود انقسام ما بين السلطة التنفيذية، ممثلة في الرئيس والبيت الأبيض والكونغرس، فعادة ما يكون الكونغرس بمجلسيه أو أحدهما من الحزب المعارض، وهذا ما يحدث الآن حيث أن الجمهوريين يسيطرون على مجلس النواب في مواجهة إدارة جو بايدن الديمقراطية.
لكن الانقسام هذه المرة مختلف عن المرات السابقة، هناك انشقاق حقيقي عميق داخل المجتمع الأميركي ينعكس في تحرك كل طرف ضد الآخر بعنف ومرارة لم تكن موجودة في المجتمع الأميركي بهذه الدرجة من قبل.
رئيس مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون يستعد لإطلاق محاولة لعزل الرئيس جو بايدن ويتحدث رئيس مجلس النواب (كيفين مكارثي) عن هذا صراحة كما يتحدث عنه الأعضاء البارزون، لكن ليس لديهم أغلبية في مجلس الشيوخ، وبالتالى فإن المحاولة ليس لها جدوى.
ومن ناحية أخري، فإن الحزب الجمهوري لا يزال يصطف خلف الرئيس السابق دونالد ترامب وهناك احتمال كبير أن يحصل على ترشيح الحزب الجمهوري له في انتخابات 2024، مع استمرار هجوم ترامب الضاري على الإدارة الحالية.
لكنّ الحزبين يمران بأزمة عميقة تتآكل فيها شعبيتهما، وذلك لأن كلاً من بايدن وترامب يواجهان اتهامات متعددة، في حالة جو بايدن فإنها مازالت في طور تقديم الأدلة بأنه كان يتدخل وهو نائب للرئيس لمساعدة ابنه هانتر بايدن على تحقيق مكاسب شخصية متعددة وقد أفرج الأرشيف القومي الأميركي عن رسائل إلكترونية تشير إلى ذلك بعد أن تقدمت مؤسسة غير هادفة للربح بقضية للإفراج عن هذه الوثائق.
لكن أزمة الحزب الديمقراطي لا تتعلق فقط بهذه الاتهامات الموجهة إلى الرئيس بايدن، بل أيضاً في الشكوك المتداولة عن صحته الشخصية وقدرته على القيادة لمدة أربعة أعوام أخرى.
كذلك فرغم التحسن في الأحوال الاقتصادية إلا أن الكثيرين يهاجمون الإدارة على زيادة الدين الداخلي والخارجي، وسوء إدارة العلاقات الخارجية والتي أدت إلى فقدان الولايات المتحدة للحلفاء التقليديين مثل السعودية والإمارات في الشرق الأوسط.
أما أزمة الحزب الجمهوري فإنها تظهر على مستويات ثلاث:
أولها: المشاكل القضائية التي يواجهها مرشح الحزب الرئيسي المحتمل دونالد ترامب والتي أدت به إلى تسليم نفسه لسجن ولاية جورجيا والبقاء فيه أقل من ساعة ثم الإفراج عنه بكفالة وهو ما لم يحدث من قبل في التاريخ الأميركي.
وتمثل الملاحقات القضائية ضد ترامب سلاحاً ذا حدين فهي من ناحية تضعه في موقف صعب لكي يكون تركيزه على الدفاع عن نفسه والابتعاد عن الساحة السياسية – وهو ما يحدث بشكل ما – ولكنها من ناحية أخرى تقدم له فرصة لزيادة شعبيته لدى اليمين الجمهوري الذي يري أن هذه الملاحقات لها دوافع سياسية ولا تستند إلى قواعد قانونية صحيحة.
ثانياً: فالحزب من دون ترامب لم يستطع حتى الآن أن يقدم بديلاً واتضح هذا في المناظرة التي جرت أخيراً في ولاية وسكنسون بين ثمانية من المرشحين المحتملين للرئاسة.
وظهرت في هذه المناظرة وجوه قديمة وأخرى جديدة، القديم منها هو نائب الرئيس السابق مايك بنس وحاكم ولاية فلوريدا (رون دي سانتيس) وهو أكثر المرشحين احتمالاً لكي يحل محل ترامب، لكن ظهرت أيضاً أسماء جديدة وشابة ومنهم رجل أعمال من أصول هندية (فيفيك راماسوامي) والذي أنفق 15 مليون دولار من ثروته الخاصة التي كونها من صناعة الأدوية والتجارة على حملته الانتخابية وقد تحدث بشكل جيد في المناظرة وأعطى انطباعاً أنه له مستقبل سياسي كبير إن لم يكن في الرئاسة على الأقل يمكن أن يلعب دوراً في الكونغرس أو حتى احتمال اختياره نائباً للرئيس وهو من مؤيدي ترامب بشدة.
كما ظهرت (نيكي هيلي) وهي أيضاً من أصول هندية وكانت سفيرة لدى الأمم المتحدة في ولاية ترامب وهي محامية واستطاعت أن تجذب الاهتمام لها بشكل كبير بالدفاع عن دور المرأة في المجتمع الأميركي.
وقد تجنب ترامب حضور المناظرة ورأى أن ما يحضر فيها ليس على مستوى الرئاسة، حيث تحدث إلى قناة فوكس للأخبار تقريباً في نفس توقيت المناظرة، كي يسحب البساط من تحت أقدام المتحدثين والغريب أن النقاش قد تركز في جزء كبير منه على دونالد ترامب وهل هناك من مؤيديه رغم صدور أحكام ضده ورفع ثلاثة من المتناظرين أيديهم معلنين أنهم سيؤيدونه مهما كان الأمر.
ثالثاً: لم يعد الحزب الجمهوري متماسكاً، فهناك الثلث فقط يؤيد ترامب وهناك ٢٠% يميلون إليه ولكن متأرجحون، وهناك ٥٠% تقريبًا يبحثون عن مرشح آخر، وفقاً لنتائج آخر الاستفتاءات التي أجرتها وكالات الأنباء.
ويبقى المرشح المحتمل الأقوى حاكم ولاية فلوريدا (رون دي سانتيس)، لكنه لم يكن ظاهراً في المناظرة كما أنه يواجه انتقادات حادة من مؤيدي ترامب ويشيرون أنه ليس على مستوى القيادة.
لكن هذا الانشقاق في النخبة السياسية ما بين اليمين الجمهوري والليبرالي الديمقراطي ليس كما كان في الماضي، فاختلاف السياسات، يعكس اختلافاً جوهرياً بين الحزبين في المبادئ والنظر إلى القضايا الداخلية والخارجية.
فاليمين على الأقل في جزء كبير منه يري أن الديمقراطيين قد فتحوا أبواباً للمشاكل في المجتمع الأميركي بتشجيع المثليين وفرض الضرائب على الشركات الكبري والرأسماليين وأن هذا يضر بالطبقة الرأسمالية ويضر بالإنتاجية بالنسبة للاقتصاد الأميركي، كما أن هناك من يهاجم بشدة سياسات إدارة بايدن الخارجية، خصوصاً مواقفه من أفغانستان وسياساته تجاه الخليج العربي والسعودية بالذات ويرون أنه قد أفقد الولايات المتحدة دورها في الشرق الأوسط وسمح للصين وروسيا أن تلعب دوراً أكبر وهذا أيضاً ما يحدث في أفريقيا كما أن هناك معارضة للدعم الأميركي المتزايد لأوكرانيا ويذكر أن ترامب أكد أكثر من مرة أنه يمكنه حل هذة المشكلة فوراً إذا انتخُب رئيساً مرة أخرى بمعني أنه سيحسن العلاقات مع روسيا.
وفي مقابلة مع عدد من القيادات الشابة بالحزب الجمهوري أشاروا إلى أنهم لا يعتقدون أن ترامب لديه فرصة للنجاح في الانتخابات المقبلة إذ أن هناك قوى عديدة ضده وأن المستقلين لن يؤيدوه بالتالى سيكون لديه ثلث الجمهوريين فقط، لكنهم أشاروا إلى أنه في حالة أن الحزب سيرشحه فإنهم سيصوتون لصالحه.
هذه الحالة من التذبذب وعدم الوضوح تسيطر على الساحة الأميركية وتؤثر بشكل عميق على قدرة الإدارة على اتخاذ قرارات في وقت تواجه فيه مثل هذة الاتهامات والضغوط الداخلية والخارجية.