كتب مصطفى ياسين :
شهد افتتاح فعاليات مؤتمر منتدى حوار الثقافات، بالهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الإجتماعية، تحت رعاية القس د. اندريه زكي، رئيس الهيئة والطائفة الإنجيلية، بعنوان “نحو سلام مجتمعي: الدين ورسالة السلام”، المنعقد حاليا بمدينة الجلالة بالعين السخنة، مناقشات ومداخلات ساخنة للقضايا المعاصرة، حيث ناقشت الجلسة الأولى “دو ر الدين فى صناعة السلام المحلي و الدولى” بحضور د. مختار جمعة – وزير الأوقاف- العميد د. خالد عكاشة، مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، وادارها الكاتب الصحفى حمدي رزق.
قال د. اندريه: أشير باختصار لعدة نقاط مهمة أعتقد أنها تشكل الأعمدة الرئيسة في موضوع هذا اللقاء. تعريفنا ورؤيتنا للسلام
• إن معالجة أي قضية يجب أن تبدأ أولًا بتعريف مصطلحاتها؛ فبتعريف المصطلح تتكشف أمامنا كافة الأبعاد، ويتكون لدينا إدراكٌ لمحتوى القضية التي نناقشها، وإدراك الفرق بين المصطلحات التي قد تبدو مترادفةً أو يتم استخدامها في غير سياقها.
• وتعريف السلام ينطوي على العديد من الأبعاد والمستويات؛
• فإن كان التعريف اللغويُّ يشير إلى غياب العنف، فأعتقد أن احتياجات مجتمعنا في هذه الآونة تتجاوز هذا التعريف، من حيث فهمنا لمعنى العنف.
• ويجب أن نضع في اعتبارنا أن معنى العنف يشمل العنف اللفظي والمعنوي إلى جانب العنف البدني.
• وعلى المستوى المجتمعي يمكن تعريف خطاب الكراهية باعتباره شكلًا من أشكال العنف اللفظي. لهذا فإن فهمنا لمعنى السلام يجب أن يشتمل على أبعاد أخرى؛ مثل الاستقرار * والاتفاق المجتمعي واحترام القانون وتحقيق الرفاهة الاجتماعية. كل هذه الأبعاد لا غنى عنها في تعريفنا لمفهوم السلام.
أضاف: الدين وبناء السلام.. الفرص والتحديات ، لقد ترك لنا تراكمُ خبرات العقود الماضية وعيًا شاملًا وإدراكًا جامعًا لدور الدين في المجتمع. فالدين مكوِّن رئيس من مكوِّنات المجتمع، ويشكِّل عنصرًا مهمًّا من عناصر هوية أي مجتمع. لكن هذا لا يعني الدعوة إلى تديين المجال العام أو تحويل الدين إلى أيديولوجية أو استخدامه سياسيًّا، أو توظيفه بأي شكل من الأشكال؛ فهذا من شأنه أن يُبعِد الدين عن أهدافه الأساسيَّة السَّامية.
استطرد قائلا: ودعونا هنا نفرق أيضًا بين “الدين” و”الفكر الديني”؛ فالدين منظومة إيمانية جاءت في نصوص مقدَّسة يؤمن بها الإنسان ويكوِّن من خلالها علاقةً مع الخالق، أما الفكر الديني فهو اجتهادات وتأويلات تحاول تفسير النصوص الدينية؛ وهذه نشاطات فكرية بشرية، خاضعة للمراجعة واختلاف الآراء والرؤى والتوجهات الفكرية، ولا ينبغي -بأي حال من الأحوال- أن تكون هذه الاختلافات مدعاةً للصراع أو النزاع أو التقليل من شأن الآخر. ولهذا فمن حيث المبدأ، فإن جميع الأديان تدعو إلى السلام، والمحبة، وتماسك المجتمع، واحترام الآخر، وجميع هذه القيم المجتمعية.
وبناءً على هذا فالنصوص الدينية المقدسة نقطة انطلاق عظيمة لبناء السلام المحليّ والدوليّ. لكن تكمن المشكلة الحقيقيَّة في هذا الشأن في صناعة الفكر الديني المتطرف بما يتضمنه من تفسيرات للنصوص المقدسة تكون إما مُوجَّهة أو مبتورة من سياقها أو تحمل أيديولوجيَّةً. بينما الفكر الديني المتسامح هو ما يعكس القِيَمَ الحقيقيَّةَ الأصيلة للأديان. وهذا دور المؤسسات الدينية في الاهتمام بالتعليم الديني الذي ينشئ عقليةً تستوعب الاختلاف وتحترمه، وتسعى دائمًا لبناء الجسور مع الآخر.
ومن إحدى إشكاليات صناعة الفكر الديني وتقديمه في وقتنا هذا أنه لم يعد مقتصرًا على المتخصصين من دارسي الفقه واللاهوت، لكنه امتد أيضًا لصنَّاع المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي، وربما يحظى صناع المحتوى بتأثير كبير بين النشء والشباب من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.
والإشكالية الحقيقية في هذا الأمر هو احتمالية انحراف بعضهم في الفكر إلى مهاجمة العقائد والأديان، وخلق حالة من الاحتقان والعنف اللفظي وشيوع خطاب الكراهية، والتي قد تشكِّل خطورةً على التسامح والتماسك المجتمعي.
ويخلط مثيرو دعاوى الكراهية بين ترويج خطاب الكراهية والاستهزاء بمعتقدات الآخرين وبين حرية الرأي والتعبير؛ لهذا يقتضي الأمر خلق حالة من التوازن وإدراك التعريف الدقيق والفرق الواضح بين حرية التعبير واحترام العقائد ومواجهة خطاب الكراهية حتى لا يُستَخدم أيٌّ من هذه المصطلحات خارج سياقه.
وتابع د. أندريه قائلا: وفي هذا السياق، أودُّ أن أشجب وأدين كل محاولات الازدراء بمقدسات الآخرين؛ بأي شكل أو أي طريقة. ومع احترامي لحرية التعبير؛ فالحرية تقف حدودها عند حرية الآخرين واحترام مقدساتهم ومعتقداتهم، لهذا أعلن رفضي القاطع لكل دعاوى حرق الكتب المقدسة لما فيها من إساءة للمقدسات وتعدٍّ وعنفٍ ضد معتقدات الآخرين.
لذا دعونا نؤكد مرارًا وتكرارًا: إن خطاب الكراهية هو نوعٌ من العنف اللفظي ولا يمكن أن يكون حرية تعبير.
يمكن للدين إذن -بل يجب- أن يشكِّل جسرًا بين أفراد المجتمع من خلال التمسك بالقِيَمِ الإنسانية الراقية التي نادت بها الأديان وتعزيز الحوار البنَّاء بين أتباع الأديان والذي من شأنه أن يخلق حالة من السلام والتماسك المجتمعي.
والحوار هنا ليس حوارًا فقهيًّا- لاهوتيًّا، إنما يمتد إلى حوار الحياة المشتركة والاتحاد سويًّا في مواجهة التحديات التي يواجهها المجتمع، فالمؤسسات الدينية (الجامع والكنيسة) ليست جزيرة منعزلة عن المجتمع إنما هي جزء منه لا تقدر أن تنفصل عنه. والحوار والتعاون بين المؤسسات الدينية سيكون له دور كبير في تحقيق السلام المجتمعي، على أن تكون ثمار هذا الحوار واضحة لرجل الشارع.
ثمة عوامل عديدة تسهم في إنجاح الحوار وتعزِّز تأثيره خاصةً لدى رجل الشارع؛ أهم هذه العوامل:
– قراءة النص الديني قراءة معاصرة؛ بمعنى الاهتمام بقراءة النصوص الدينية في إطار خلفياتها التاريخية والتعرف على المتلقي الأول للنصوص،
– ثم محاولة استكشاف ما يقوله النص الديني في الوقت الحالي. مما يشكل بدوره توجهات فقهية ولاهوتية داعمة للحوار.
– وهذا أحد الأدوار الأهم المنوطة بها المؤسسات الدينية. يسهم هذا في تمهيد أرضية مشتركة للحوار والتعاون في التعامل مع قضايا مشتركة، كالمواطنة والتعددية والعيش المشترك، كما يسهم في مواجهة فاعلة لخطاب الكراهية، سعيًا إلى تحقيق السلام المجتمعي والإنساني.
وهنا يأتي دور الإعلام
– في توسيع المجال أمام الأفكار المعتدلة، خاصةً أن منابر الإعلام أصبحت عديدةً وذات فاعلية وتأثير كبيرين على الأغلبية العظمى من المواطنين، مع انتشار منصات التواصل الاجتماعي بمختلف تطبيقاتها ومواقعها،
– وما لمسناه خلال العقد الماضي من قدرة فائقة على نقل توجهات الشارع والآراء السياسية والتطورات الاجتماعية داخل المجتمع، بل والأبعد من ذلك لعب دور المحرك للمجتمع.
وأخيرًا، إن بناء السلام -محليًّا ودوليًّا- عملية تحتاج إلى وقت
– فعلى المستوى الدولي تتسم الظروفُ العالميَّةُ الراهنةُ بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.
– وعلى المستوى المحلي، أرى أن خلال العقد الماضي ساهمت الدولة المصرية بخطوات كبيرة في دعم السلام
المجتمعي،
– لكن لا يزال أمامنا الكثير لإنجازه في هذا المجال، والدين -باعتباره مكونًا رئيسًا له مكانة راقية في وجدان المصريين-
هو أحد الفرص العظيمة لدفع بلادنا إلى الأمام والتعامل مع مختلف التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها