عبد الناصر البنا يكتب : محطة أم كلثوم

فى حاجات كتير إتعودنا عليها وترسخت فى أذهانا ووجدانا ، وكان لها ذكريات جميلة معنا ، ومنها على سبيل المثال متعة الإستماع إلى ” محطة أم كلثوم ” ، محطة أم كلثوم أو كما قيل عنها المحطة السرية التى عشقها المصريون ، هى قبلة لسماع الفن الراقى والأصيل ، أنشأت المحظة لـ أغراض سياسية ، وكانت تبث على موجة قصيرة تغطى منطقة القاهرة الكبرى ؛ وظل المكان الذى تبث منه غير معلوم ، فلا وجود لها فى مبنى الإذاعة المصرية القديم فى شارع الألفى ، أو فى مبنى الشريفين ، ولا حتى فى مبنى الإذاعة والتليفزيون “ماسبيرو ” ، وسبب إنشاء هذه المحظة جاء بعد أن ضربت قوات العدوان الثلاثى محطات الإرسال الاذاعى فى ” أبو زعبل ” ، وإقتضت الضروره وجود إذاعة احتياطية وسرية يصعب ضربها مرة أخرى !!
محطة ام كلثوم وإن كانت تذيع أغانى إلا أن دورها فى رفع الوعى والتثقيف والرقى بالذوق العام لايمكن لـ أحد أن ينكره ، وخاصة فى ظل هوجة الـ أغانى الهابطة ، وأغانى المهرجانات التى ذاع صيتها فى هذه الأيام . والحقيقه أنى أشفق دوما على الجيل الحالى من ضياع الهوية ، الذى بدأ من إنحدار الذوق العام وغياب القدوة والقيم والمثل ، وأشياء أخرى كثيرة لاداعى للخوض فيها ، فقدان الذوق العام للأسف أصبح سمة العصر الذى نعيش فيه ، بالقدر الذى يجعلنى أقول أن محاولة إستعادتة مرة أخرى أصبح أمرا صعبا فى ظل وجود حمو بيكا وشاكوش ومن على شاكلتهم .
خلونى أقول إللى مالوش ماضى ، مالوش حاضر ، وبالتالى مالوش مستقبل ، زمان لما كنا صغيرين كانت وسيلة
الترفيه والتثقيف الوحيدة بالنسبة لنا هى ” الراديو ” وأثير الإذاعة المصرية ، خاصه لـ أبناء القرى أمثالنا ، وكان لـ أثير
الإذاعه بريق ، وكانت برامجها تخاطب العقل والوجدان ، وتسمو بالمشاعر ، وأعتقد أن مفيش حد يقدر ينكر فضل
الإذاعة المصرية فى تشكيل وجدان المواطن المصرى والعربى من المحيط إلى الخليج ، نعم أنها ” بالقوة الناعمة
المصرية ” .
ومن الذكريات الجميلة الباقية ” محطة أم كلثوم ” ، ولك أن تتخيل أنك تجلس مستكينا ساعه العصارى وفى تمام
الساعه 5.00 عصرا ينساب إليك صوت أم كلثوم ، فى وصلتها الـ غنائية الأولى التى تشدو فيها بواحدة من أغانيها
التى إكتمل فيها مثلث ” الكلمة ــ مع اللحن ــ والـ آداء المميز لسيدة الغناء العربى أم كلثوم ” ، وبعدها بأتى إليك
صوت موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب ، وفريد ، ونجاة ، وحليم . وتتنوع الفقرات كل يوم بين فايزة ووردة وفوزى
ورشدى وكارم وعبدالعزيز محمود ” بأغنيات تسمو بالمشاعر وترتقى بالذوق العام ، وتختتم الإذاعة برامجها فى
العاشرة بواحدة من روائع أم كلثوم .. يالها من ذكريااات !!
الهدف من إنشاء محطة أم كلثوم غير معلوم على وجه الدقة حتى لدى رواد الإذاعة المصرية أنفسهم ، فالبعض يرى
أنها جاءت أو أنشأت بغرض التشويش على الإذاعات الموجهة من إسرائيل ، والتى كانت تبث معلومات وأخبارا
مغلوطة ، وقيل أنها بمثابة إذاعة احتياطية فى حال حدث – لا قدر الله – اى هجوم على الإذاعة الرسمية . وعلى أيه
حال يظل الهدف منها سرا يضاف إلى سر المكان الذى تبث منه ، وعلى اية حال معرفة المكان لا يهمنا فى شىء .
منذ بداية عام 2000 كان الإستماع إلى إذاعه أم كلثوم بصوت جيد يحتاج الى ضبط دقيق لـ مؤشر الراديو لكى تحصل
على صوت خالى من الشوشرة والتشويش ، ومع مطلع العام 2002 توقف بث إذاعة أم كلثوم تماما بعد نجاح وانتشار
دام لسنوات طويله ، بالقدر الذى رأى فيه بعض الخبثاء أن غلق المحطة جاء فرصة لـ إفساح المجال لـ إذاعه الأغانى
وغيرها ،
محطة أم كلثوم لم تكن محطة بالمعنى التقليدى ، إنما كانت صاحبة رسالة لـ أبناء مصر عليها كنا نضبط مواعيدنا ،
وبها يستقيم نظام حياتنا ، كما كانت منبرا لـ كوكبه من نجوم الزمن الجميل ، وحتى لـ جيل الشباب ، ولـ أعمال
عمالقه العناء التى ولدت للخلود .
للأسف يقال دوما ” الحلو مايكملش ” مابين عشية وضحاها وفى ظل هذا الركام والزحام الذى تسلل إلى حياتنا ،
خبأ صوت إذاعة أم كلثون وبمنتهى الـ أريحية تستطيع أن تقول أنه بعد أن خبأ ؛ إسكت عنوة . من الجهبز صاحب فكرة
غلق محطة أم كلثوم أو من صاحب قرار غلقها ، الله وحده أعلى وأعلم . كم كنت أتمنى فى ظل التطور الهائل فى
تقنيات البث الأرضى والفضائى ، وبعيدا عن الموجات الطويلة المتوسطة والقصيرة الـ AM والـ FM .. وغيرها ، وفى ظل
البث الرقمى أو الديجيتال والثورة التى نشهدها فى عالم الإتصالات ، أن يكون هناك ” رجلا رشيدا ” يعيد يث هذه
الإذاعة من جديد لـ تعود إلى سابق عهدها واوانها .
كما نأمل فى إعادة كل شىء حلو لـ حياتنا ، وأن نحافظ على كل شىء يربطنا بجذورنا ، بأصلنا ، واصالتنا ؛ بهويتنا ،
وبتراثنا ، والله أن الدول من حولنا تحاول أن تصنع لها تاريخا من لاشىء ، ونحن وبكل أسف نتعمد أن نضيع أعمالا جاء
التاريخ من أجل أن يدونها ويخلدها ، ياحراس الأمة أعيدوا محطة أم كلثوم إلى سابق عهدها ومجدها فهى والله لن
تكلفكم شيئا ، وحتى وإن كلفتم ، فكم من تكاليف تنفق فى أشياء تافهة ، وأعود لاقول أرجوكم أعيدوا لنا ذاكرتنا