عبد الناصر البنا يكتب : الحج في زمن التكنولوجيا

عبد الناصر البنا – الفضائية المصرية

دعونى فى البداية أن أعبر عن مدى سعادتى وشكرى وتقديرى وإمتنانى لما تقوم به المملكة العربية السعودية قيادة وشعبا لما ماقدموه ويقدموه من إنجازات على مر العصور حتى البوم لـ خدمة ضيوف الرحمن من حجاج بيت الله الحرام ، والحقيقة يعجز القلم عن وصف تلك الخدمات سواء على مستوى النقل والمواصلات والطرق أو على مستوى الأمن وتوسعه الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسه ، وكذلك توفير أماكن للإقامه ، وتيسير آداء المناسك فى سهوله ويسر ، وفى توفير أفضل سبل الرعايه الطبية للحجاج .. إلخ ، وتلك حقيقة لاينكرها أحد .

لعلنا نتذكر المشقة التى كان يعانى منها قاصد بيت الله الحرام للحج أو العمرة سواء فى رحلة السفر إلى مكة المكرمة أو المدينة المنورة لـ آداء المناسك ، ففى الماضى وقبل إختراع وسائل السفر الحديثة من سفن وطائرات .. وغيرها ، كانت رحلة الحج محفوفة بالمخاطر ، وكان هناك مثل شعبى يقول ” الذاهب للحج مفقود .. والعائد منه مولود ” ، خاصة وأن الدواب والجمال كانت هى الوسيلة الوحيدة لـ آداء الفريضة ، ولم يكن عناء السفر فى البوادى والصحارى الذى يمتد لـ شهور ومايصاحبه من تقلبات جوية وعواصف وسيول وأمطار ولهيب الشمس الحارقة .. إلخ ، لم يكن وحده الذى يؤرق راحة الحجاج ، وإنما تعرض قوافلهم للسلب والنهب من لصوص وقطاع الطرق . ولذلك كانت الرحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر .

ولك أن تتخيل الحجاج فى آداء المناسك فى هذا التوقيت سواء فى نصب الخيام أو إعداد الطعام فى أماكن المشاعر المقدسة ، أو السير على الأقدام لـ أيام عديدة تحت درجات الحرارة العالية .. كانت مشقة حقيقية !!

أبناء الريف والقرى فى الوادى والدلتا وصعيد مصر يعرفوا جيدا الطقوس والعادات والتقاليد التى كانت تصاحب رحلة الحج إلى بيت الله الحرام ، بدءا من الـ إستعدادات لـ ” الرحلة المباركة ” بالزاد والزواد مرورا بزيارة الأهل والأقارب والأصدقاء الذين يحملوا الحاج الأمنيات والدعوات ، ويتذكروا أيضا موكب زيارة الحاج لـ المشايخ والأولياء فى طقس فولكلورى جميل يكون الحاج فيه فى أبهى صورة ويزين الموكب بالأعلام والريات وتدق الطبول وتصدح الاناشيد الدينية ، وبعدها يتم وداع الحاج الذى يصر على كتابة وصيته ، وقبل عودة الحجيج يقوم الأهل بطلاء واجه البيت الذى سوف يستقبل الحاج الذى عاد سالما ، وتزين الجدران بالآيات القرانية والنقوش والرسوم التى ترمز لبيت الله الحرام وللمسجد النبوى .. إلخ .

كان والدى رحمه الله فى الأربعينات من عمره عندما قام بآداء فريضة الحج فى العام 1962 م ولم تكن الظروف وقتها مهيأة بين الرئيس جمال عبدالناصر والملك سعود بن عبد العزيز آل سعود ، بعد أن أرسل الرئيس جمال عبدالناصر مايقرب من الـ 70 ألف جندى مصرى إلى اليمن ، ولذلك لم يكن إستقبال المملكة للحجاج المصريين على مايرام ، وخصعوا لـ تفتيش دقيق خشية أن يكونوا قوات خاصة أرسلها جمال عبدالناصر إلى المملكة .

بدأ والدى رحلة الحج بالباخرة التى إستقلها الحجاج من ميناء السويس إلى ميناء جده على البحر الأحمر ، قد تكون تجربة سفره بالباخرة مريحة مقارنة بالجمال فى الماضى ، لكنها رغم ذلك لاتخلو من المصاعب ، خاصة وأن الرحلة كانت تستغرق لـ أكثر من أسبوع ، ناهيك عن ” دوار البحر ” الذى كان يصيب أغلب الحجاج ، ويقول : فى العموم كانت تجربة لاتخلو من الطرافة خاصة الدلافين التى كانت ترافق الباخرة على طول الرحلة . أما آداء المناسك لم يكن بالأمر الهين وكانت تحفه المشقة والصعاب ، ولذلك قيل ” الحج شباب ” !!

رحلة الحج كانت تتطلب أشياءا يحرص الحاج على إقتناءها وكانت موجودة لدينا حصريا ” Exclusive ” بسبب إقامة أعمامى الطويلة فى المملكة للعمل فى توسعة الحرم التى تمت إبان فترة حكم الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله ومنها ” الخُرج ” بضم الخاء وهو مصنوع من صوف الغنم أو وبر الجمال وفيه يضع الحاج الزاد والزواد من المأكل والشراب .. إلخ ، والحزام أو ” القايش ” الذى يلفه الحاج على الازار الذى يستر به خصره ما بين السرة والقدمين حتى لايسقط أثناء آداء المناسك ، وهو مصنوع من الجلد وفيه جيوب لحفظ المال ، وأخيرا مايشبه الشنطة التى تعلق على الكتف ويضع فيها الحاج جواز سفره والأوراق .. إلخ . وكل من كان يظفر بقرعة الحج يقصد بيتنا للحصول عليها .

أثناء آدائى للعمرة منذ عدة سنوات كان معى بعض من أبناء بلدتى منهم شخص غير متعلم ، لكنه كان شديد الذكاء

خفيف الدم ، ما أن وطات قدمنا الحرم كان المشهد مهيبا مايجاوز المليون شخص فى الحرم ، وكنا قبيل المغرب فى

شهر رمضان ، همس لى : من فين ح يجيبوا ميه للناس دى كلها ؟ قلت له : أسكت ، ومازال يكررها وهو غير مقتنع

أبدا أنه سوف يتناول طعام إفطاره . وقبل المغرب بلحظات وزعت مياه زمزم الباردة وبسطت الفرش بما لذ وطاب من

خيرات الله ، وأكل وشرب حتى الثمالة ، ولما فرغنا من صلاتنا قلت له : إنها دعوة سيدنا إبراهيم الذى قال { رَبِّ

اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ } .

فى الماضر شهدت مكة المكرمة العديد من الحوادث التى كانت سببا فى وفاة الـ مئات من الحجاج بسبب الإزدحام

وتدافع الحجاج أثناء رمى الجمرات ، والأوبئه والأمراض ، ونشوب الحرائق فى الخيام ، إضافه إلى حوادث الطرق

والأنفاق مثل ماحدث فى نفق المعيصم عندما إنقطعت الكهرباء .. إلخ

والحقيقة أن المملكة لم تألو جهدا فى تخطى كل هذه العقبات بتوسعة أماكن المشاعر وتهيئة كل سبل الراحة

لضيوف الرحمن ، وهذا العام وقد عادت للحج أعداده المليونية ، توسعت المملكة فى إستخدام الوسائل التقنية

الحديثة والذكاء الإصطناعى والتطبيقات الذكية والخدمات الإلكترونية المتنوعة في التيسير على قاصدي الحرمين

الشريفين بشكل غير مسبوق ، وقامت بتطبيق عشرة تقنيات حديثة لخدمة ضيوف الرحمن .

ومنها ” بطاقة الحج الذكية ــ السوار الذكي ــ الروبوت الذكي للحد من إنتشار الأمراض والأوبئه ــ تطبيق تنقّل لحجز

العربات ألكترونيا فى المسجد الحرام ــ تطبيق مناسكنا لتعريف الحجاج على المشاعر المقدسة ــ تعليم المناسك

افتراضياً بتقنية الواقع الافتراضى ــ المسار الإلكتروني لحجاج الداخل من المواطنين والمقيمين ــ منصّة منارة الحرمين

وهى منصة رقمية لـ نقل الدروس العلمية والتوجيهية والإرشادية من الحرمين إلى شتى المسلمين في بقاع العالم

ــ مبادرة ” المشاعر الخضراء ” وتهدف إلى تحسين البيئة وحماية الأرض والطبيعة ــ اسأل الحج التى أطلقتها وزارة

الحج والعمرة على وسائل التواصل الاجتماعي للإجابة عن استفسارات الحجيج المتعلقة بإجراءات الحج ، وإصدار

التصاريح ، والبروتوكولات الصحية ، والسكن والإعاشة ، والتنقل، وغيرها .

تجربة ثرية غنية وفريدة من نوعها يجب الوقوف أمامها طويلا بالدراسة والتحليل لـ تعظيم الـ إستفادة منها ، ندعو الله

أن يكتب لنا حج بيته المعمور وكل عام وأنتم بخير .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.