فى يوم الثامن من شهر ذى الحجة “يوم التروية ” الذى يقال أن الله تعالى أرى فيه سيدنا إبراهيم مناسك الحج ، وقيل أن الناس كانوا يرتوون فيه من الماء فى مكة قبل خروجهم إلى منى ، فى وقت كانت فيه شبه الجزيرة العربية صحراء قاحلة ، فى هذا اليوم الطيب المبارك تحركنا مع جموع الحجيج الذين أتوا شعثا غبرا من كل فج عميق ، ملبين طائعين خاشعين يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، إستقليت أنا ومرافقى سيارتى الـ ” نيسان ”
رباعية الدفع من بيت الله الحرام فى مكة المكرمة قاصدين مشعر ” منى ” .
الوصول إلى مشعر منى فى هذا التوقيت هو ليس بالأمر الهين ، رغم قصر المسافة بينها وبين الحرم ، كونها وادى يقع فى شرق مكة تحيط به الجبال ، فهى تقع فى الطريق بين مكة المكرمة وجبل عرفات ، وتبعد عن الحرم حوالى 6 كم تقريبا ، وذلك مقارنة بالمسافات الشاسعة التى تفصل بين مدن المملكة التى تعد قارة فى حد ذاتها ، ورغم أن رحلتنا إمتدت لـ أكثر من ألف كم للوصول إلى بيت الله الحرام ، والسبب فى ذلك هو وعورة تضاريس منى ، أيضا كونها موضع أداء شعائر الحج ، وفيها يبيت الحجاج في يوم التروية ويوم عيد الأضحى وأيام التشريق ، وفيها موقع رمي الجمرات ، وفيها يذبح الهدى .
أيضا لـ طرقها التى لم تكن معبدة بالقدر الكافى فى هذا التوقيت ” نهاية التسعينات ” ولك أن تتخيل الملايين من حجاج بيت الله الحرام الذين يقيمون فى تلك البقعة الضيقة من الأرض التى لو ظفرت فيها بموضع قدم فأنت الفائز ، وهنا يأتى الثواب على قدر المشقة ، قلم يكن وقتها هناك من فنادق وخيام مكيفة .. إلخ .
الزحام الشديد ودرجات الحرارة العالية وتصرفات بعض الحجيج قد تخرجك عن شعورك لولا أنك تتذكر دوما قوله تعالى { فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } من أجل ذلك لابد أن تكتم غيظك حتى لاتفقد حجتك ، كانت رحلتنا إلى مشعر منى محفوفة بالمخاطر ، خاصة وأننا لم نجد مكانا نخيم فيه إلا أعلى قمة جبل فى منى وجدنا فيه موقعا قل أن يظفر به أحد ، والحقيقة ساعدتنا السيارة كثيرا فى الوصول إليه ، رغم أننى كلما تذكرت الطريقة التى صعدنا بها إلى هذا الجبل أصاب بالدوار ،
أوقفنا سيارتنا وأمعنا فى تأمينها لأنها سوف تظل هنا حتى إنتهاء مناسك الحج ، وإنتهينا من نصب خيمتنا
ومع شروق شمس يوم التاسع من ذى الحجة توجهنا إلى الوقوف بعرفات ، وعرفة هو الركن الـ أعظم فى الحج ولا
يصح الحج بدونه ، ومن فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج ، هنا فى مسجد ” نمرة ” بفتح النون وكسر الميم صلى
عشرات الألوف من ضيوف الرحمن صلاتى الظهر والعصر ” قصرا وجمعا ” إقتداءا بالرسول ﷺ ، ويذكر أن هناك جزء من
مسجد نمرة يقع خارج مشعر عرفة في ” وادي عرنة ” أحد أودية مكة ، كنت أجلس فى مكان قريب من المقصورة
الرئيسية التى تجمع كبار زوار المملكة من الرؤساء والملوك .. إلخ ، أتذكر أننى كنت على مقربة من المنبر الذى
خطب فيه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء خطبة عرفة ، وبالقرب
منى الأمير سلمان بن عبدالعزيز وكان أميرا لمنطقة الرياض وقتها ، وإلى جواره الشيخ سعد العبدالله ولى عهد
الكويت .
من المواقف التى لاتنسى على صعيد جبل عرفات ، أننى جلست أردد بعض الأدعية من كتاب كنت أحمله بناءا على
طلب كهل من اليمن الشقيق ، وإلتف حولى عدد لا بأس به من الحجاج رافعين الأكف إلى السماء حتى ضاق المكان
بالحضور ، وكان على مقربة منا شخص مصرى بدين مستلقى على جنبه يلتهم ثمار التفاح بنهم ولايلقى لنا بالنا ،
فوكزه أحد الحضور أن يفسح جانبا ، وهنا حدثت مشادة كادت أن تنتهى بالاشتباك لولا تدخل أهل الخير ، فى هذا
التوقيت كانت الهيئة العامة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى المملكة تحرم التصوير ، كنت أامل فى إلتقاط صورة
للذكرى ، وهنا ظهر شاب من شرق آسيا يخفى كاميرا Polaroid فورية فى طيات إحرامه وإلتقط لى الصورة فى ثانية
كى لايراه أحد المطوعين فيحطم الكاميرا !!
مع غروب شمس اليوم التاسع بدأت جموع الحجيج نفرتها من عرفات إلى مزدلفة ، كنا قد أنهكنا من عناء الوقوف
على صعيد عرفات ، ورغم ذلك أصر مرافقىً إلى الذهاب للمزدلفة سيرا على الأقدام لـ مسافة 7 كم وفى الطريق
غلبنا النوم قبل الوصول لـ مزدلفة بكيلو متر واحد ، وأفقنا مع شروق الشمس وكان لابد لنا من جبر ذلك الخطأ بهدى ،
ذهبنا لرمى جمرة العقبة الكبرى ، وتحللنا من إحرامنا ، وطفنا طواف الافاضة ، ورجعنا إلى منى طوال أيام التشريق
الثلاثة نقيم فى مسجد ” الخيف ” بفتح الخاء وسكون الياء الذى يقيم فيه السواد الأعظم من الحجاج حتى أنهينا