تقاس، قوة أي دولة، أو كما يطلق عليها في محاضرات الاستراتيجية في كليات الدفاع الوطني في العالم، عناصر محاضرة قوى الدولة الشاملة، تشمل القوى العسكرية والسياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية والبشرية والثقافية (القوى ناعمة) وغيرها من القوى.
وخلال الأعوام الماضية، تغيرت أسبقيات هذه القوى في الفكر العسكري العالمي، فلقد كانت في الماضي الأسبقية الأولى في تحديد قوة أي دولة هي القوة العسكرية. فالدولة القوية عسكريا هي الدولة القادرة، على حماية حدودها، كما تمكنها من مهاجمة أي دولة أخرى لكي تفرض عليها شروطها والاستيلاء على ثرواتها، وترهيب الدولة الأخرى بقوتها العسكرية حتى لا تفكر بالاعتداء عليها وهو ما يطلق عليه الردع Deterrence.
وطبقا للتقديرات السابقة، كانت قوة الدولة السياسية لها وزن هام أيضا من حيث وجود الدولة ضمن معاهدات وأحلاف عسكرية وهذا ما دعا، على سبيل المثال، قيام بعض الدول الأوروبية الصغيرة التي خرجت من الاتحاد السوفيتي السابق، أن تنضم إلى حلف الناتو لتعطيها قوة سياسية تقف أمام طموح روسيا في العصر الحديث. إذا حاولت الانقضاض عليها لإعادة ضمها الى الإمبراطورية السوفيتية السابقة، وبعد ذلك تأتي القوة الاقتصادية، فالدولة القوية اقتصاديا. بما لها من ثروات طبيعية أو صناعية مثل اليابان وحاليا الصين، تستطيع ان تبني جيشا قويا وان تحقق لشعبها حياة كريمة.
وبالنسبة للقوة الجيوستراتيجية، نجد أن دولة جيبوتي مثلا رغم انها دولة صغيرة الحجم والتعداد لكن موقعها على مدخل مضيق باب المندب والبحر الأحمر المسيطر على ثلث التجارة العالمية وتطل على المحيط الهندي وهي محطة للرحلات الذاهبة عبر طريق رأس الرجاء الصالح. هذا المكان الجيوستراتيجي أعطاها قوه لكي تكون مهمة لدرجة انه يوجد على ارضها الان ستة دول تحتفظ بقواعدها العسكرية في هذه الدولة الصغيرة، وهي أمريكا وفرنسا والصين واليابان وإيطاليا واسبانيا. وهو أمر غير موجود في أي دولة في العالم. كله رغم قوتها الجيوستراتيجية، إلا أنها دولة ضعيفة. لأن قوتها العسكرية والاقتصادية والبشرية محدودة للغاية.
وفي العشر سنوات الأخيرة، فوجئ الفكر الاستراتيجي العالمي بأن القوة الاقتصادية أصبحت هي أهم القوى الان لتحديد قوة أي دولة وتفوقت على القوة العسكرية. وعلى سبيل المثال، فإن الولايات المتحدة هي أقوى دولة في العالم حاليا، لأنها الأقوى عسكريا، والأقوى اقتصاديا.
وتجيء بعدها كثاني قوة في العالم هي الصين، لأنها القوة الاقتصادية الثانية في العالم. ورغم أن الصين قوتها العسكرية تجيء في المرتبة الثالثة بعد أمريكا وروسيا، ولكن بقوتها الاقتصادية أصبحت العدو الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية حيث يبلغ الناتج المحل للصين 14,8 تريليون دولار ويقترب من الناتج المحلي الأمريكي الذي يصل 20,4 تريليون دولار وتأتي بعدها اليابان القوة الثالثة اقتصاديا في العالم 4,9 تريليون دولار. فالدولة القوية اقتصاديا يمكنها تكوين جيش قوي، كذلك الدولة القوية اقتصاديا يمكنها الدخول في حرب طويلة المدى.
ولعل حرب أوكرانيا كانت اكبر مثال على ذلك فلو كانت اوكرانيا تحارب وحدها دون دعم اقتصادي من أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، لما استطاعت أن تصمد أمام روسيا في حربها، ودخولها العام الثاني من القتال، ومثال لذلك إنجلترا عندما ضعفت قوتها الاقتصادية تقلصت إمبراطوريتها التي لم تكن تغرب عنها الشمس وحلت محلها الولايات المتحدة والصين وروسيا. ، لأنها أصبحت من أقوى القوى الاقتصادية في العالم، ومن هنا أصبحت الصين حاليا هي العدو الرئيسي لأمريكا، لأنها ثاني قوة اقتصادية في العالم، وتتطور وتتقدم اقتصاديا بسرعة هائلة، ورغم قيام أمريكا بفرض عقوبات اقتصادية عليها في السنوات الأخيرة. الا ان التقدم الاقتصادي الصيني يسير بسرعة هائلة، حيث يعتقد العديد من الباحثين أنه لو استمرت الصين بهذا التقدم الاقتصادي السريع، فإنها قد تصبح القوة الاقتصادية الأولى في العالم. في غضون عام 2030.
وخلال الأعوام الثلاث الماضية حاولت الولايات المتحدة أن تدفع الصين في الدخول في نزاعات عسكرية خاصة مع تايوان بهدف إضعافها اقتصاديا ولكن الصين تفهمت كل ذلك، ولم تدخل في مصيدة التورط في معركة عسكرية، وفي الفترة الاخيرة بدأت تظهر في مفاهيم العلوم الاستراتيجية قوة أخرى لم تكن في الحسبان، هي القوة التكنولوجية والمعلوماتية، والذكاء الصناعي فالمعلومات هي أساس اتخاذ القرار، وكلما كانت المعلومات دقيقة وصحيحة. كان القرار سليما، وكلما كانت المعلومات خاطئة كان القرار المتخذ خطأ، سواء من الناحية العسكرية أو حتى الاقتصادية أو السياسية.
من هنا أصبح ذلك العنصر الجديد وهو القوة التكنولوجية والمعلوماتية من اهم المفاهيم الجديدة في قوى الدولة الشاملة لأن الدولة التي لديها قوة تكنولوجية هائلة حاليا تستطيع أن تحصل على معلومات دقيقة وتطور قواتها العسكرية والاقتصادية معتمدة على التكنولوجيا الحديثة ومثال على ذلك، اليابان، التي أصبحت الآن من أكبر القوى العسكرية في العالم، فهي القوة الخامسة عسكريا نتيجة استخدامها التكنولوجيا المتطورة في مجال الصناعات، لتطوير قواتها العسكرية. وايضا أبسط مثال على ذلك أن الدولة التي لديها أقمار صناعية متطورة. تستطيع التجسس والحصول على المعلومات عن كل دولة، بما فيها بالطبع، أعدائها وأصدقائها، وإذا نظرنا للصين، فإن التقدم التكنولوجي والمعلوماتي التي تتوفر لها حاليا تصنفها في مكانة عالية جدا
ويكفي أن شركة هواوي الصينية التي تعمل في مجال نظم المعلومات قد أصبحت من أكبر ثلاث شركات في هذا المجال في العالم، وقد نجحت في الفوز في مناقصة تطوير شبكة الاتصالات البريطانية بإدخال نظام G5 متفوقة على كل الشركات الأمريكية والأوروبية. ولكن قامت الولايات المتحدة بالضغط على بريطانيا لرفض العرض الصيني، لأن ذلك يعني دخول الشركة الصينية على جميع شبكات الاتصالات في أوروبا، وبالتالي تحصل على جميع المعلومات من دول أوروبا وأمريكا.
وكذلك كان مثال آخر وهو دخول روسيا على شبكة الانتخابات الأمريكية. السابقة، وكان ذلك أحد مساوئ التكنولوجيا في أمريكا، لذلك ظهرت هذه القوة الحديثة في تكنولوجيا المعلومات لتصبح احد أهم عناصر تقييم قوة الدولة.
وتتفاخر الصين حاليا بأن لها نظام إنترنت خاص بها، ولا تتعامل بنظام الإنترنت العالمي. ولذلك، هي أقل دولة في التعرض لاستخدام هذه التكنولوجيا الحديثة في الحصول على معلومات عن الصين، ومن هنا تغير المفهوم الحالي في قياس قوة الدولة الشاملة لتصبح القوة الاقتصادية. هي القوة الأولى، ثم القوة التكنولوجية الثانية، وبعدها تجي القوة العسكرية والسياسية والقوة البشرية وباقي القوى الأخرى وهكذا فإن العالم يتغير من حين لآخر طبقا للمتغيرات الجديدة.