عبد الناصر البنا يكتب : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ
تحض الآية الكريمة على ” الاعتدال ” وعدم الاسراف فى المأكل والمشرب ، أى الانفاق بشكل سليم ، وهنا قد يقفز إلى الذهن سؤال بديهى أى إسراف والناس بالكاد تجد قوت يومها ؟ وقد تأتى الإجابة عن هذا السؤال لاحقا ، ولكن دعونى أشير بداية إلى حديث شريف ” إن الله يحب إذا أنعم على عبده نعمة أن يرى أثر نعمته عليه ” فإذا ما أنعم الله على الإنسان بنعمه لايصح أن ” يقتر ” على نفسه أو أهل بيته ، وفى المقابل قد نجد بعض الناس يبالغوا فى إطهار أثر النعمة عليهم ، فتجدهم مثلا يبالغوا فى إكرام الضيف !!
هناك ناس تبالغ فى إكرام الضيف لدرجة أنها يمكن أن تستدين من أجل ذلك ؛ وقد شهدت ذلك بعينى خلال إقامتى فى مدينة ” حائل ” بالسعودية ، وحتى يومنا هذا تجد مظاهر البذخ كلما هل علينا شهر رمضان لدرجة انه يخيل إليك اننا داخلين على حرب وليس شهر صوم وعبادة ، ولايخفى على أحد تكالب الناس بشكل غير عادى على شراء المواد الغذائية أو مايسمى ” حاجة رمضان ” لدرجة أننا أفرغنا الشهر الكريم من كل مظاهر الروحانيات والعبادة إلى جعله شهر للأكل والشراب والولائم والعزومات وغيرها من مظاهر الإنفاق الـ غير مبرر .
وقد روى عن النبى ﷺ أنه قال } ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه { لـ فترة قريبة كان فائض الولائم فى بلد مثل المملكة العربية السعودية يلقى فى القمامة ، وفى أحد المرات جلس شاب ” بنغالى ” يبكى إلى جوار صندوق للقمامة وإقترب منه أحد رجال الهيئة العامة للامر بالمعروف والنهى عن المنكر يستفسر منه عن سبب بكاءه ، فما كان منه إلا أن أشار إلى مابداخل الصندوق من فائض طعام وفاكهة وعلب مشروبات غازية .. إلخ ، وقال أن له أهله فى بنجلاديش لايجدوا العيش الحاف ليأكلوه .
وقد تنبه بعض الشباب لذلك وقاموا بالمرور على قصور الأفراح لـ جمع فائض الطعام وإعادة تغليفه وتوزيعه على مخافر الشرطة ودور الأيتام والرعاية الإجتماعية .. إلخ ، وهى الفكرة نفسها التى يتبناها ” بنك الطعام المصرى ــ مصر خاليه من الفقر ” وجهات عديدة فى مصر ، وغيرها من دول العالم ، وهناك مبادرات جادة يقوم بها مجتمع الأعمال فى العديد من الدول لـ جمع فائص الطعام للإستفادة منه ، وقد حققت الفكرة نجاحا ملحوظا .
ويبقى السؤال : هل مازال هناك هدر أو فاقد فى الطعام على الرغم من الأزمات التى تمر بها العديد من دول العالم وخاصة فى ظل تراجع سلاسل الإمداد والتموين ، الحقيقة تشير الدراسات إلى أن حجم الطعام المهدر عالميا يقدر بنحو 1.3 مليار طن من الغذاء على مستوى العالم سنويا ، ويقدر حجم إهدار الغذاء فى مصر بنحو 9 ملايين طن ، وأن توفير هذا الطعام المهدور من الممكن أن يوفر الطعام لـ نحو ” مليار ” نسمه من فقراء العالم !!
وتجدر الإشارة إلى أن محاربة الفقر وتقليل نسبة الفاقد من الطعام هى مشكلة عالمية تأتى على الرغم من معاناة
الملايين من الجوع نتيجة هدر الطعام بشكل يومى فى جميع أنحاء العالم ، ومن هنا تحاول العديد من الدول سن
القوانين لتقليل نسبة الفاقد من الطعام ، ففى فرنسا لايسمح لمحلات السوبر ماركت إتلاف المواد الغذائية غير
المباعة ، إنما يتم التبرع بها ، إضافة إلى مبادرات مجتمع الأعمال السابق الإشارة إليها .
المشكلة الأساسية تكمن فى سلوك بعض الناس ، ولعلنا لاحظنا خروج الكثير منهم عن وقاره خاصة فى المناسبات
العامة مثل المؤتمرات والأفراح فعندنا يتم الإعلان عن فتح البوفية ، تجد الصراع والتزاحم والهمجية على الأكل بطريقة
تدعو إلى الإشمئزاز ، وقد جمعنى لقاء بصديق هو المالك لسلسلة فنادق عالمية كبرى شكى لى مر الشكوى من
تصرفات بعض النزلاء الذين يقومون بوضع كميات كبيرة جدا من الطعام على الطاولة ولايتناولوها ، والمفترض أن
مصيرها إلى القمامة ، لأنه لايسمح بإعادتها مرة أخرى ، وقال : هناك عشرات الأطنان من الطعام تهدر سنويا بسبب
هذه السلوكيات ، وتكررت نفس الشكوى من مدير المطعم فى الاوتيل الذى أقيم فيه ، وأقسم لى أنه يفرح عندما
يتناول الشخص الطعام الذى وضعه أمامه ، وذكر حديث عن الرسول ﷺ } أن الإِنَاءُ يَستَغفِرُ لِلَاعِقِهِ؛ { وتمنى ان
لايترك أحدا اكلا متبقيا فى طبقه لكى لايكون مصيره القمامه !!
دعيت منذ سنوات لـ تغطية مؤتمر دولى عن ” ختان الإناث ” فى ظل هوجة قضايا العنف ضد المرأة .. إلخ فى العهد
البائد ، وكان الداعى إلى هذا المؤتمر عدد من الجهات منها ” المجلس القومى للطفولة والأمومة ــ والمجلس
القومى للسكان ــ والمجلس القومى للمرأة ــ ووزارة الصحة والسكان ــ ولفيف من الهيئات والمنظمات الدولية
المعنية بالشأن ــ وبمشاركة العديد من الدول العربية ” وأقيم فى فندق ” كونراد ” على نيل القاهرة ، وقد هالنى هذا
الكم من البذخ والإنفاق الغير مبرر ، والذى يتنافى تماما مع القضايا التى يناقشها المؤتمر والخاصة بالمرأة مثل العنف
وختان الإناث والمرأة المعيلة .. وغيرها من القضايا المطروحة على مائدة الحوار .
وهنا تساءلت فى نفسى عن ما أنفق على موائد الطعام فى هذا المؤتمر وأنا أكاد أن أجزم أنه كان كفيلا بتحسين
حياة المئات من المعدمات فى ريف وقرى مصر وفى دول الضيوف من الدول المجاورة ، بعيدا عن تلك المظاهر الكاذبة
، والمؤتمرات التى لاتقدم ولاتؤخر سوى إنفاق المزيد من الأموال فى كلام لايفيد ، أو لايقدم ولا يؤخر .. لكن مين يقرا
ومين يسمع !!