ثار جدل كبير في السنوات الأخيرة حول مسالة الطلاق وهذا الخلاف نتج حقيقة عن تنظير فقهي قاصر جاء من غير المتخصصين تاره ومن بعض المتخصصين غير المدققين تاره اخري , وسبب هذا اللبس انما جاء عن طريق محاولة قياس حكم الطلاق علي عقد زواج وقالوا ان ” ما لا ينعقد إلا بالكتابة لا يحل إلا بالكتابة ” يقصدون أن عقد الزواج لا ينعقد إلا بالكتابة في نظرهم وهذه مغالطة كما سنري , لان عقد الزواج من العقود الرضائية في الفقه الاسلامي والقانون الوضعي ويخضع لمبدأ سلطان الإرادة وينعقد بالكتابة وباللفظ وغيرها , وانما الكتابة للتوثيق فقط وهذه مسألة لاحقه لانعقاد العقد , وهذه المغالطة انما تبتعد بالعقد عن الرضائية وتتجه به الي الشكلية وهذا منهج منتقد شرعاً وقانوناً كما سنري .
أما المغالطة الثانية في تلك المقولة أيضا هي محاولة قياس يمين الطلاق علي عقد الزواج وهذه مغالطة أخري من الناحية الشرعية وذلك لان القياس هنا قياس مع الفارق كما قال الفقهاء (الشيخ علي الخفيف : فرق الزواج ص155 وما بعدها , المغني لأبن قدامه ج8 ص191 , تحرير الاحكام ص227 , الفتح القدير للكمال بن الهمام ص171) حيث يرون ان القياس هنا قياس مع الفارق لان الأول عقد يسمي (عقد زواج) والثاني يمين ويسمي (يمين طلاق) وفرق شاسع في الشريعة الاسلامية بين العقد واليمين إذا التصرفات في الشريعة الاسلامية منها ما هو يمين ومنها ما هو عقود ومنها ما هو معاوضات , وهناك فروق كبيرة بينها من حيث المبني والمعني فالعقود مثلا تختلف عن الايمان يقول صاحب التحرير : اليمين لا يقبل المساومة (المفاوضات) او الخيار او الالغاء او الرجوع , بخلاف العقد , فعقد الزواج مثلا من العقود التي تقبل الفسخ بخيار البلوغ ” عند بلوغ احد الزوجين إذا كان قاصراً وقت الزواج ” وخيار العتق وعدم الكفاءة , اما اليمين فلا يقبل شيئا من ذلك . فبمجرد التلفظ باليمين بلفظ صريح فإنها تقع ويترتب عليها آثارها مباشرة ولا يمكن الرجوع فيها , ولهذا كان الاصل في اليمين الألفاظ وهذا فارق جوهري بين العقد واليمين .
ونحن هنا لم نقصد إغراق القارئ في خضم قواعد الفقه الاسلامي بقدر ما هو محاولة منا لإيضاح الفرق بين العقد واليمين في الفقه الاسلامي , وما يثير اللبس دائما انما هو محاولة سحب احكام احدها علي الآخر , ولكن كون النبي صلي الله عليه وسلم جمع بينها في حديث ” ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح , الطلاق , الرجعه ” أبوداود والترمذي وفي رواية ذكر العتق ” فالأول عقد الزواج والثاني يمين الطلاق والثالث الرجعه أو العتق وهي تأخذ حكم اليمين ايضا , فهذا ليس بغريب ومن الممكن الجمع بين تصرفات مختلفة في الحكم بجامع علة اخري وهي ان كل منها انما يرد علي العرض ,
ومثل هذه العقود اذ نطلق عليها جميعاً لفظ (العقود) مجازاً . ان مثل هذه العقود يجب ان تصان من الهزل واللعب , اذ
ليس لهذه التصرفات خيار مجلس او خيار شرط ولا تقبل المساومة . كما ان النبي صلي الله عليه وسلم أراد أن يتجه
بهذه العقود نحو الرضائية ويبتعد بها عن الشكلية وهذا نفس ما استقر عليه القانون الروماني قديماً حيث تخلي عن
العينية والشكلية التي ظل متمسكاً بها لقرون , فقد كان عقد البيع مثلا في القانون الروماني لا يعتد به ولا ينتج آثاره
إلا بالتسليم (تسليم المبيع) وهذه هي العينية فتآثرت بذلك حركة النشاط الاقتصادي فاضطروا أن ينتقلوا من العينية
الي الشكلية فكان العقد لا ينتج آثاره الا بعد استيفاء اجراءات شكلية معينة كالكتابة والتسجيل ونحوه , فوجدوا ان
الصفقة ستظل معلقة وخاصة اذا فقد العقد احد هذه الشروط الشكلية او اذا طعن احد الطرفين علي ايها فكانت آثار
العقود تتخلف عن العقد في أغلب حالات التعاقد الي ان اضطروا بعد ذلك للتسليم بالارادة أي ان العقد ينتج كل اثاره
بمجرد التراضي .وقد استغرقت هذه المراحل اكثر من اربعمائة سنة .
فالمطالبة من جديد بكتابة العقود وخاصة (الزواج والطلاق) والرجوع بالعقود والتصرفات لمبدأ الشكلية يعد رده للوراء
لحوالي سنة 270 ق.م عصر الامبراطورية السفلي في العصر الروماني أي الرجوع للوراء حوالي 2300 سنة وبيان ذلك
اننا اذ اخذنا بشكلية العقود وخاصة (الزواج والطلاق) فان هذا العقد يظل معلقاً أوقابلاً للابطال اذا طعن عليه احد
الزوجين علي صحة توقيعه مثلا او توقيع الطرف الآخر او أي اجراء شكلي آخر في العقد الي ان يصدر حكم قضائي
بات ونهائي بصحته ويظل عقد الزواج او الطلاق معلقا لحين استنفاد درجات التقاضي : درجة اولي – استئناف – نقض .
أي ان أي عقد من هذه العقود (الزواج او الطلاق) يلزمه علي الاقل حوالي ربع قرن من الزمان حتى يستقر ويصبح
نهائياً وينتج آثاره , ولا يخفي ما في ذلك من العنت والمشقة والضرر للفرد والمجتمع , ولهذا كان المشرع حصيفاً
حينما اعتبر هذه العقود (الزواج والطلاق) من العقود الرضائية اي يترتب آثارها فور انعقادها او ايقاعها في حالة الطلاق
وكفل اثباتها بكافة طرق الاثبات ونظم احكام الطلاق بالقانون رقم 25 لسنه 1929 المواد 1 : 6 ونص في (م1) “لا يقع
طلاق السكران والمكره ” , (م2) ” لا يقع الطلاق غير المنجز ” إلي أن نص في (م5) مكرر “علي المطلق ان يوثق
اشهاد طلاقه لدي الموثق المختص خلال ثلاثين يوما من ايقاع الطلاق ” وإلا سيعاقب بالحبس مدة ستة أشهر
وبغرامة مائتي جنيه أو باحدي هاتين العقوبتين (م23 مكرر) من ذات القانون .
كما استقرت احكام محكمة النقض علي ان الأحكام المتعلقة بصحة الزواج والطلاق والخلع والفسخ كلها احكام
انتهائية ولا تقبل الطعن عليها بأي طريق من طرق الطعن , ونحن إذ نهيب بالمشرع بسرعة التدخل باضافة نص صريح
الي قانون الاحوال الشخصية يقرر عدم جواز الطعن علي هذه الاحكام السابقة وجعلها انتهائية وذلك نظراً لان نص
مادة (15) من قانون الاسرة رقم 10 لسنه 2004 ومادة 250 من قانون المرافعات غير كافية لمعالجة مثل هذه الحالة
الماسة والجوهرية وبهذا يكون قد اكتمل البناء الشرعي والقانوني لرضائية عقد الزواج والطلاق والبعد بهما عن