” تجريدية الحصان والطائر المحلق” .. قصة قصيرة للكاتب الاعلامي محمود عبد السلام

نغمات التشيلو تعانق صوت البيانو القادم من اصداء هدير البحر ، الطائر المحلق بين رزاز الموج والهواء الطلق يملك الفضاء وجزءاً من البحر وقليلاً من اليابسة ، الفتاه ترتدى رداءاً ابيضاً شفافاً بزهور ربيعية زرقاء وخضراء وصفراء وحمراء ، تحتضن الفتاة التشيلو من اسفل وتلامس بوجهها اعلاه وهى نفسها تنعكس على زجاج الشرفة وهى تجلس الى بيانو وبجانبها التشيلو ترتدى نفس الفستان وينسدل شعرها الى الخلف بحرية تداعبه تيارات الهواء الاتية من البحر ، تتمايل براسها مع نقرات اصابعها على البيانو وتتاميل بين نغمات التشيلو ودقات البيانو ، الامواج تتابع خلف بعضها فى هدوء ثم تغافل صخر الشاطئ فجأة بموجة قوية فتضربه بعنف تحاول ان تتخطاه نحو الشاطئ الرملى فيأبى فتتناثر الموجة رزازاً فى الهواء فيتعبق الهواء برائحة بحرية ويبتل الوجه قليلاً فتعلو ملامحه ابتسامة طفولية بريئة ، الفتاة تحتضن التشيلو وتحرك القوس فوق الاوتار بحب وحنان ف يأن التشيلو عطفاً ورقة فى احضانها ويجود بما يملك من موسيقى ونغمات ، تميل بنصفها الاعلى تنحنى على اصابع البيانو ، يدور حوار بين الانامل العاجية والاصابع البيضاء والسوداء فيبوح البيانو باسراره فى محرابها باجمل الدقات ، والطائر المحلق فوق الموج يتابع العزف وتتفاجأ السمكات الصغيرات الطافية فوق الماء ،
، فى الاحتفال الاخير بالحصان فى نهاية السباق يصفق له الجمهور ومنظمى السباق والمراهنين والسيدات ذوات الفراء الثمين والاصباغ الكثيرة ، فى اليوم الاخير تتداعى الذكريات وتتوالى صور الانتصارات وصور الانكسارات وتستدعا كلمات المديح وخطابات الثناء ، كانت وجوه المدعوين للحفل شمعية ولامعة وعيونهم صامتة لكنهم كالعادة فى حفلات التكريم مبتسمون ابتسامة بلهاء ، رغم صخب الحفل كان ياتيه من بئر الوقت العميق صوت التشيلو والبيانو ، ويرى الطائر المحلق الذى يملك الفضاء وجزءاً من البحر وقليلاً من اليابسة يقف عند نافذة المبنى العتيق يدعوه ان يتبعه ،
فى اليوم التالى قرر ان يغادر نحو البحر ليتتبع الطائر المحلق وموسقى التشلو والبيانو ، تخفف من حقيبة الملابس
والاغراض الشخصية ، لا يريد ان يحمل اثقالاً تجذبه اكثر نحو الارض حتى اذا ما طار ارتفع الى عنان السماء، فى
الطريق كان ينظر الى المدى والمدى لا حدود له وكلما اسرع بالسيارة نحوه يبتعد ، ترك يده تستريح فوق مقود
السيارة ووضع يده الاخرى على الشباك واسند راسه على الافريز الداخلى للسيارة ، كان يلمح بطرف عينه فى
المرأة الداخلية الطريق خلفه يبتعد وكلما مر على شئ مايلبث بعد قليل ان يتناهى الى الصغر ثم يختفى ، وكانت
الايام تتساقط من راسه على الطريق الاسفلتى الاسود اللامع الذى يحده من الجانبين شريطاً ابيضاً جيرىاً باهتاً ،
كانت تتساقط مع الايام الذكريات فتتناثر على الطريق ثم تتهشم وتصير هباءاً ، وكان المدى مازالاً بعيداً لكن الطائر
المحلق مازال يملك الفضاء وجزءاً من البحر وقليلاً من اليابسة وكانت انغام التشيلو والبيانو مازالت تتابع ،
فى الفندق القابع على شاطئ البحر والملاصق لكوبرى ستانلى من جهة الخلف ، قال موظف الاستقبال وهو ينظر
اليه ويتحدث بادب متصنع وباداء تمثيلى نحن والبحر والطائر والبيانو والتشيلو فى انتظارك ياسيدى ، الشاب
العشرينى بشعره الفاحم ووسامته الملحوظة كان يقف وفى خلفه مرأة تعكس صورة الحصان المتعب بشعره الابيض
ووجه المتغضن وعمره المتقدم ،
اناخ البحر امواجه وانفرش امام الحصان بساط ازرق امتد حتى عانق اخر غيمة عند التقاء حافة البحر بالسماء ، تكتمل
دائرة الحكمة قبل بلوغ النهايات وتتخلص الزهرة من اشواكها ويطير الحصان مثل الطائر المحلق ويتخلى عن نصيبه
فى الارض والبحر ويتشبث بالفضاء فهل يقبله الفضاء ؟ كطائر فقد جناحيه فاصبح غريباً عن الطيور والسماء وقمم
الجبال وفروع الاشجار فاستحال حصان سباق ، اى اقدار اطاحت بحلم الطيران ، والعودة الى عش من قش تزروه
الرياح فيعاود الطائر البناء ،
تقدمه نحو الماء وهو ينظر الى الغيمة الاخيرة فى السماء ، والموج المنبسط امامه سراب والفتاة والطائر المحلق
والموسيقى والتشيلو والبيانو محض ادعاء ، ويبقى الحصان يتسائل قبل ان يجرفه الموج الخادع المنبسط كسجادة
زرقاء ، هل انا .. انا ام ماكنت مجرد حصان خسر السباق .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.