أمواج متلاحقة من البشر تمر في الاتجاهين ، الشارع – رغم اتساع مساحته العرضية – لم يعد يتسع لهذا الطوفان المتواصل خاصة في تلك الساعات الوسطى من النهار ، فالسيدات يقمن بشراء احتياجات منازلهن أثناء عودتهن من أعمالهن ، حتى اللائي لا يعملن تعودن على التسوق خلال نفس الساعات ، أما الموظفون والطلاب فذلك وقت عودتهم ، المحلات على الجانبين تمادت بقسوة في التعدي على ممر المشاة حتى ضاق تماما شريان الطريق وأصبح المرور يشبه عبور الصراط ، أما الباعة الجائلون فلا يتوقفون لحظة ولا تنقطع أصواتهم عن النداء المتواصل للترويج لبضاعتهم . فبعض المارة يسألونهم عن الأسعار والبعض يقومون بالشراء الفعلي في حين تطاردهم أصوات أصحاب المحلات مطالبة إياهم بالانصراف لمنع التكدس وتعطيل المارة ، لكن هيهات .
على إحدى النواصي الهامة التى تصب في هذا الشارع المشهود ، يجلس ساطور مع ثلاثة أصدقاء ، هكذا اعتادوا على تسميته وهكذا عرفه أهل الحي ، أمامهم منضدة عليها أربعة أكواب من الشاي فرغت جميعها ما عدا الكوب الرابع الذي لا يزال في يد ساطور ، بجوار المنضدة نرجيلة كبيرة تحمل كمية ضخمة من الفحم المشتعل ، يدور الحديث عن مشاجرة الأمس التي وقعت بين شارعهم والشارع المجاور ، الجميع يبدون رأيهم على استحياء في انتظار قرار القائد ، تتجه أنظار المارة نحوهم ، تساؤلات تطل من العيون : ماذا يخططون ؟ ومتى ينفذون ؟ وما الذي تحمله الساعات القادمة ؟ ما زال القائد سابحا في تفكيره ، يسمع أصدقاءه ويلاحظ نظرات العابرين لكن بلا تعليق ، تلوح من بعيد سيارة يبدو عليها التوجه لهذا الشارع ، يشير أحد أعوان ساطور بضرورة أن يسلك السائق شارعا آخر احتراما وتقديرا لجلوسهم ، يهمس السائق برهة ثم يلقي السلام والترحيب والدعاء لساطور وحلفائه ، ثم يتواصل الحديث .
يعود عامل المقهى ليسترد الأكواب الفارغة ويتلقى الأوامر بالمشروبات القادمة وكذلك يقوم بتغيير حجر النرجيلة دون أن يشير إلى الحساب ، يمر من سكان الشارع أشخاص معروفون بالعلم والحكمة والوقار ، يلقون السلام ، يسارعون لمصافحة الجالسين فردا فردا وقصائد المديح تتسابق إلى أسماع هذا الفريق المتجانس الذي لا يعير أدنى اهتمام لمن صافحهم ، يتفل ساطور بعنف خلف ظهورهم ذاكرا بين أصدقائه خسة وحقارة هؤلاء البشر ، يتعجب أصدقاؤه لكن دون سؤال ، تدور بينهم النظرات لعلهم يجدون تفسيرا لما يسمعون من زعيمهم ، لكن دون جدوى ، يضحك ساطور قائلا ، ستفهمون كل شيئ في وقته المناسب ، ثم يعود السؤال المهم : ماذا سنفعل بخصوص مشاجرة الأمس ؟ لكن الجميع يتفقون على ضرورة الرد بقوة دون تأخير ، فالأمر متعلق بكرامتهم وهيبتهم ليس في الشارع فقط بل في الحي بأكمله ، وإلا وجب عليهم مغادرة المدينة في الحال .
تتجه الأنظار نحو ساطور لمعرفة ما وصلت إليه أفكاره وخططه ، يبادره أحدهم بالسؤال : ماذا قررت يا زعيم ؟ يترك ساطور خرطوم النرجيلة ، يستعد للحديث ، الأسماع تتشوق وتتأهب ، يقول ساطور : كنت في مقتبل شبابي في بداية المرحلة الإعدادية ، أحترم الجميع وأرى الكبار قدوة لي بعد وفاة والدي ، إلى أن همس لي صديق بضرورة التدخين ، فعلت على استحياء متوقعا عتابا أو نصحا ممن كنت أحبهم ، فلم أر شيئا من ذلك ، تشاجرت في إحدى المرات وقلت ألفاظا قبيحة جدا ولم أسمع نهيا من أحد ، تماديت ، تركت دراستي ، زاد ذلك من جرأتي فرأيت الناس بلا قيمة ، بلا وزن ، أصبح المجتمع في نظري ميتا ، وكلما تشاجرت احترمني الجميع وتقربوا لي وأظهروا لي الحب والتقدير ، الآن أنا أحتقر هؤلاء بشدة ، لقد كان بإمكانهم أن يقوموني كي أصبح طبيبا أو مهندسا أو محاسبا أو غير ذلك من المهن المفيدة ، لقد كنت متفوقا بل كنت من الاوائل ، لا بارك الله لهم ، الآن أعلن توبتي ، وعلى من يحبني بصدق أن يتراجع عن ذلك الطريق المهلك ، يبدو الوجوم على الوجوه ، لكن سرعان ما تعود الابتسامة لتعلن الموافقة .