تحتفل مصر اليوم، مع أبناء ورجال القوات المسلحة، وجميع أسر شهدائها، بيوم الشهيد، رمزاً لمن قدموا أرواحهم، عبر السنين، فداءً لمصر لكي تنتصر، وتعيش في رخاء واستقرار. يوافق هذا اليوم، ٩ من مارس، ذكرى استشهاد الجنرال الذهبي، الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، خلال حرب الاستنزاف، الذي فاضت روحه إلى بارئها، في مثل هذا اليوم من عام 1969، على الخط الأمامي للدفاعات المصرية على قناة السويس، في سابقة تعد الأولى في التاريخ العسكري، العالمي، أن يستشهد رئيس أركان قوات مسلحة على الخط الأمامي.
تخرج الفريق عبد المنعم رياض في الكلية الحربية المصرية عام 1941، واشترك في الحرب العالمية الأولى، ضد ألمانيا وإيطاليا، وكان، حينها، قائداً لإحدى البطاريات المضادة للطائرات، في المنطقة الغربية. وخلال عامي 1947 و1948 التحق بإدارة العمليات المصرية، ونال وسام الجدارة العسكرية، ليتدرج، بعدها، في المراكز حتى قيادة الدفاع المضاد للطائرات، عام 1954. بعدها، وفي عام 1959، سافر في بعثة للاتحاد السوفيتي، وحصل على تقدير امتياز، قبل عودته لمصر، لاستكمال مسيرته المشرفة. وفي مايو 1967، بعد توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والأردن، عُين قائداً للجبهة الأردنية، أثناء حرب 67، بعدها عاد إلى مصر ليتولى رئاسة أركان حرب القوات المصرية، في أعقاب هزيمة 1967.
وفي هذا الصدد، أذكر، يوم سفري إلى إنجلترا، في عام 1975، للدراسة بكلية كمبرلي الملكية، وفور وصولي لمطار
هيثرو، بالعاصمة البريطانية، لاحظت أن جميع العاملين بالمطار، وكذا عدد من المسافرين، يضع كل منهم، في عروة
معطفه، وردة حمراء، يتوسطها دائرة سوداء، وتكرر المشهد بين ركاب مترو الأنفاق، أثناء توجهي لمحل إقامتي، ورأيت
نفس المشهد عند وصولي للفندق، وعرفت، لاحقاً، أثناء متابعة نشرة الأخبار، أن اليوم يوافق ذكرى “عيد المحاربين”،
في إنجلترا، وهم شهداء وجرحى الحروب السابقة لبريطانيا العظمى.
وفي المساء، وعلى شاشات التلفاز، شاهدت ملكة إنجلترا، يصاحبها رئيس الوزراء البريطاني، وجميع أعضاء حكومته،
وممثلي البرلمان البريطاني يلتقون بعدد من جرحى هذه الحروب، وممثلين عن أسر الشهداء، في احتفال رسمي،
لوضع أكاليل الزهور على نصبهم التذكارية، تقديراً، وعرفاناً، لما قدمه هؤلاء الأبطال لأوطانهم، وشعوبهم، من تضحيات.
وهي ذات الطقوس والمراسم، التي تتبعها الكثير من البلاد الأخرى، مع اختلاف التاريخ، فمثلاً، الجزائر، بلد المليون،
وأكثر، شهيد، تخلد ذكراهم في يوم 18 فبراير، من كل عام. بينما تحتفل الولايات المتحدة الأمريكية بذكرى أبطالها،
بعطلة فيدرالية تعرف باسم “Memorial Day”، في الاثنين الأخير من شهر مايو، من كل عام. أما الصين فتحتفل،
سنوياً، في يوم 30 سبتمبر، بيوم الشهيد، حيث تكرم ذكرى الأبطال في ميدان تيانانمن، أكبر ميادين العاصمة بكين.
وفي مصر يتم الاحتفاء ببطولة شهداء مصر، الذين قدموا أرواحهم في سبيل رفعة شأنها، فقد تم إنشاء “النصب
التذكاري” لشهداء مصر، في منطقة مدينة نصر، بعد حرب 1973، الذي صُمم على شكل هرم، رمز العمارة المصرية
العريقة، وعلى أضلاعه كتبت أسماء الشهداء المصريين، المختلفين في انتماءاتهم الدينية، والمتحدين في الدفاع عن
مصر في حروبها المجيدة. وعند النصب التذكاري، دُفنت رفات أبناء الجنود المصريين، الذين لم يتم التعرف عليهم بعد
حرب 73، ليكون “قبر الجندي المجهول” رمزاً لكل شهداء مصر، الذين ننعم اليوم بالأمن والرخاء، بفضل تضحياتهم. كما
تم إنشاء نصباً تذكارية، في كل محافظات مصر، لتكريم شهدائها، فما من بقعة في أرض مصر، إلا وجادت بخيرة
رجالها، للدفاع عن الوطن.
عادة ما تجري مراسم الاحتفال بهذا العيد، كل عام، بوضع إكليل الزهور على النصب التذكاري، وقبر الجندي المجهول،
في مدينة نصر بحضور السيد رئيس الجمهورية القائد العام للقوات المسلحة، وقادة القوات المسلحة، وكبار رجال
الدولة، كما يحرص السيد رئيس الجمهورية على أداء صلاة الجمعة مع قادة القوات المسلحة، في أعقاب ذلك. أما
في باقي محافظات مصر، فيتم وضع أكاليل الزهور في النصب التذكارية للجيوش الميدانية في كل أنحاء مصر.
ورغم متابعة أبناء الوطن لتلك المراسم، التي يتم نقلها على الهواء مباشرة، إلا أنني أتمنى أن يمتد الاحتفال بيوم
الشهيد إلى جميع مدارس مصر، وجامعاتها، ليتعلم النشأ، والجيل الجديد قيمة ما قدمه هؤلاء الأبطال الشهداء
للوطن، سواء في حروبهم للدفاع عن حدود مصر، أو للتصدي للإرهاب، وهو ما يعتبر قدوة ومثل أعلى جدير بالاحتذاء
به. كما أرجو ألا يقتصر الاحتفال في المحافظات على وضع إكليل الزهور، وإنما يمتد لدعوة أسر الشهداء، إلى احتفال
لتكريم أسماء من فقدوا من ذويهم، وأبنائهم، وأزواجهم، اعترافاً بفضلهم فيما نعيشه، اليوم، من سلام وأمن وأمان.
فالهدف ليس الاحتفال في حد ذاته، وإنما ترسيخ وإعلاء قيمة التضحية في سبيل الله والأرض، تلك القيمة التي
سطرها، ولازال يسطرها أبناء القوات المسلحة في تاريخ بلادنا بأحرف من نور. ومن هنا اسمحوا لي أن أتقدم
شخصياً بتحية إجلال واعتزاز، لأرواح شهداء مصر الأبرار، على مر السنين والحروب، وأن أؤكد لأسرهم أن مصر لا
تنسى أبداً تضحيات البواسل من أبنائها، وستبقى مدينة لهم أمد الضهر.