محمد نبيل محمد يكتب : تحصين الوعى وبناء الفكر كيف نبدأ ؟ الثقافة سلوك حياة! (١)

محمد نبيل محمد
العدمية والعبثية أو حالة الشعور باللاوجود، وتنامى تحقير الإنسان لذاته، وربما كان عدم اكتشاف قدراته الحقيقية هو الباعث لتقوقعه وتحوله من الوجود – هروبا – للعدم، وتنتفى صفاته المدنية لأنه لا يمارس منها أى سلوك يدفعه للحركة فيقبع متكورا على ذاته متجمدا فى بيات شتوى طويل، وسُبات عميق، لا ينتوى الفعل على الإطلاق، كمن يخشى مغبة الحركة حتى لا يفقد سعراته الحرارية التى تأذن له ببعض البقاء الوجودى، وهذا من جانبه، أما من جانب من حوله فهم قد شاركوا فى وأد الفعل لدى هذا الإنسان وتحوره إلى مجرد مخلوق منزوع الآدمية يسلك أنماط البقاء المؤقت التى تلبى احتياجاته الهامشية من هواء وماء ومأكل كما باقى الكائنات المفعول بها. وربما تغاضى عن اللائق من المسكن والجائز من غرائز وشهوات التناسل كأنه مخلوق أبتر خالف الناموس الطبيعى، والأهم فقدانه للأمل والهدف من الوجود. وأيضا كان من خلال تجاهل الآخرين لوجوده، والاستعلاء على كينونته، وتخليهم عن انتمائه إلى المجموع، كل تلك التصرفات كفيلة بخلق كائن غير الذى نعرفه عن البشر، هو يسير على قدمين منتصب القوام فى ظاهره يصنف ضمن أرقى المخلوقات وفى باطنه العذاب؛ إذ يعد من آكلى لحوم البشر ليس للبقاء أو للأكل فى حد ذاته، بل لتفريغ طاقات الحقد وموجات الغضب على الآخرين، وما أسهل أدلجة مثل هذا الكم المهمل من مجتمعه. وبما أنه مازال فى التصنيف الرقمى (صفرًا أنطولوجيًّا) لم يكسب أى مساحة من الوجود المحيط، وقد اقتنع برفض مجتمعه له، وتملكته رغبة عارمة بشروده عن مساحات الحياة التى ينعم بها الآخرون، ولن ينالها بأى شكل من الأشكال، ولن تواتيه فرصة التمتع بالوجود المسخر من أجله، فما يمنعه من الانصياع لمن يدس فى عقله المحدود الذى لم يعتد الحركة والجهد ولم يتدرب على اكتشاف المتسع من الطموح، ولم يذهب أبعد من موقع ثبات صاحبه الذى يأبى الفعل خوفا من سخرية الآخرين وربما لأنه غير مدرب عليه، ولأنه لم يمارس أى منهج تجريبى ولو بدائيا، ولم يزج بعقله فى محيط الاحتمالات، ولم يُسمح له إلا بالشك فى غاية وجوده، الأمر الذى قاده سلبا إلى رغبة فى التخلص من عناء الكراهية للآخرين. ولن تتأتى تلك الرغبة إلا بهدم بنائه الخرب اللاموجود أو اللافائدة منه تُرتجى أو بمعنى مباشر قتل نفسه مع إبدال مفردة الانتحار بغيرها كالشهادة مثلا لتكسبه بعض القوة المرادة لتخلّصه من وجوده العبثى.
ومع غياب أدوار المؤسسات الرسمية والتطوعية لاحت فى الأفق كيانات الهدم – الوافدة – التى لا تستطع إخفاء
حقدها تجاه هذا المجتمع؛ فأخذت تلتقط المهمشين والمحرومين من مركز الحياة لإعادة تدويرهم كقنابل بشرية
يمكنها تحقيق مأرب الهدم والطمس.
أتذكر الطفل الغجرى الذى تركه أبواه خلفهم هربا من بطش نبلاء باريس، كان طفلا أحدب لقيطا قبيح المظهر، وُلد
بعاهة ظاهرة فى عموده الفقرى ألزمته الانحناء أمام مجتمع لم يحترم إنسانيته، بل بذل جل جهده ليسخر من هذا
الطفل الذى أضحى منبوذا مكروها غير مرغوب فى مشاهدته إلا بهدف السخرية. إنه الطفل كوازيمودو الذى لم يمنعه
حدبه من أن ينصبه فيكتور هوجو بطلا لروايته (أحدب نوتردام) ربما ليجسد موقفا فى الدفاع عن الضعفاء والمقهورين،
ويعلل أسباب حقدهم على المحيطين بهم، وتلقف مُدعى التدين لهم لاستغلالهم، وربما أيضا يجد باعث أمل فى
إعادة اندماجهم بالمجتمع إذا استشعروا بعضا من عطف أو همسا من حب.
وبالفعل تدور الأحداث حول استغلال الدوق كلود فرولو لكوازيمودو، وبالطبع يجب إكساب هالة مقدسة حول تنشئته
ليكون خادما للرب، مطيعا لسيده رجل الدين الذى يربيه فى كنيسة نوتردام، ويدربه ليكون قارع الأجراس فى
الكنيسة. ويا لها من عظمة وأهمية ألبسها القس على عبده الضعيف؛ حيث أراده أن يقضى بقية عمره فى الكنيسة،
وألا يظهر أمام الناس بسبب مظهره السيئ، ولكى لا يرعب الناس.
وبالطبع أقنعه ببضاعة الدين أن من وراء سور الكنيسة يكرهونه ولا يكنون له خيرا إنما يضمرون بغضا يصل إلى حد
القتل. وإذا استمر الحال على ما خطط له رجل الدين – ضعيف الدين – لتحول كوازيمودو الأحدب إلى مخلوق أو وحش
فرانكشتاين كما فى رواية (فرانكشتاين) للكاتبة الإنجليزية مارى شيلى، أو لمصاص دماء (الكونت دراكولا) للإيرلندى
برام ستوكر.
وفى النهاية عندما يلمح الأحدب الحب الذى يراه مستحيلا والعطف الإنسانى الذى افتقر إليه، متمثلا فى ذاك الجمال
الإنسانى الذى حول القبح والخوف والحقد إلى فضائل من
رذائل عند الأحدب على يد أزميرالدا واسمها الحقيقى أجنيس، وهى التى سرقها الغجر من أمها السيدة المتمدينة
من رايمس عوضا عن طفلهم الأحدب. وقد منحها القدر جمالا آخاذا منذ طفولتها إلى بلوغها السادسة عشرة، وقد
رأت الأحدب فى احتفال المهرجين ونافسه على عشقها سيده الدوق كلود فرولو الذى بدأ فى التخلى عن مدنيته
وتدينه من أجل الوصول إلى الجميلة أزميرالدا، ولو كان الاغتصاب سبيلا لذلك، وتحول الأحدب إلى إنسان حقيقى فقط
لشعوره باهتمام ولو فردا واحدا ممن حوله ولا يرونه.
وهكذا قد نتبع نهجا وقائيا بالثقافة عندما نجعلها سلوكا ونمطا للحياة، ونفرج عنها بعد أن ظلت لعقود حبيسة الأرفف
المتربة والأدمغة المتعالية، لنعطى شكلا حقيقيا للحضارة، وبعضا من الاهتمام لمن هم فى المربع رقم صفر؛ حتى لا
نضطر لبذل جهد أكبر فى التخلص من عشائر الأصفار التى ستكون وبلا شك طاقة جذب – للجميع – للخلف ولأسفل
بدلا من أن نمنحها بعضا من الأمل لنتجه جميعا للغد.
الحديث ممتد ان شاء الله
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.