” الحصار ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام

( لا تبحر فى الوقت ، الذكريات قضبان والصور سجان )

صورة اولى

الكاتب الإعلامي محمود عبد السلام
غلالة من ضوء ابيض شفاف كغبش الفجر فى ليلة شتائية ، وعصفور يقف على حبل غسيل يزقزق يلاغى ولفته على الطرف الاخر من الحبل يتقافز سائراً بطول الحبل ، يحرك راسه فى كل اتجاه ، تفتح سيدة باب الشرفة يفزع العصفوران يطيران نحو شجرة مانجو مقابلة لم يدرك ثمارها النضج بعد مزروعة وسط حديقة ناتئة بعشب اخضر وعشب اصفر وعشب لونه بين الاثنين والحديقة داخل المدرسة والصورة لصفين من التلاميذ ، الصبيان وقوف فى مرايل من قماش شعبى لونه كاكى والبنات يفترشن الارض يرتدين نفس المرايل ، الشمس الساطعة قفلت عيون الاطفال ، الوجوه مغلفة ببراءة الطفولة وفرحة الخروج من الفصل للتصوير ، دون غيرهما اثنان من الاولاد ملتصقان احدهما يضع يده اليمنى على كتف زميله وكلاهما يميل براسه نحو الاخر ، نفس الطول ونفس الاسم ونفس النظرة، على يمين الصورة يجلس استاذ محمد الفيومى واضعاً قدماً فوق اخرى ويمسك فى يده خرزانه ويبتسم ، وعلى يساره يقف ابنه ميسره ملتهب الانف وسائل لزج يحيط بفمه ، على الجهه الاخرى تقف ابله سهير فى فستان اسود بلون الحداد حزناً على امها التى رحلت منذ ايام ، غاب عن الصورة خالد لمرضه ، الصورة باللون الابيض والاسود مثبته على خلفية من الكرتون المقوى وفى المساحة الخالية من الصورة مكتوب ، مدرسة حدائق شبرا الابتدائية فصل اولى ثان، خمس درجات مابين باب المدرسة والداخل تفصلنا عن الفصل ، ثم ننعطف ناحية اليسار ندخل الى بهو كبير ذو جدران مرتفعة علقت عليها خرائط للوطن العربى وخريطة قديمة للجمهورية العربية المتحدة ممزقة واخرى للعالم كله ، ومجموعة من النصائح والارشادات لغسل الايدى قبل الاكل وبعد الاكل اسفل الجملة رسم لولد وبنت وصنبور للمياه وتعليمات بالتزام الهدوء ، وبخط ثلاثى كتب على فرخ ابيض كبير ( لا تؤجل عمل اليوم الى الغد ) واخرى بجوارها ( اطلبوا العلم من المهد الى اللحد ) ، الفصول الدراسية متفرعة من البهو الكبير وكل فصل كتب عليه اسمه واسم المدرس رائد الفصل ، الشباك فى الفصل من الطراز القديم المعتاد فى ابنية الاثرياء الذين اُمَمتْ ممتلاكاتهم بعد ثورة يوليو فى منتصفه مشربية خشبية مصنوعة من الارابيسك ثم اعلى الشباك منفتح على الشارع ، الاضاءة ضعيفة والشباك يسمح بقليل من ضوء النهار ، متى سينتهى هذا العبث وينتهى اليوم الدراسى ويعود الى البيت يرتمى فى حضن امه ويحكى لها عن مغامراته فى اول يوم دراسة ،
الف باء تاء
واحد اثنين ثلاثة
تزعق ابله سهير تدعو الفصل لالتزام الصمت وترديد الحروف خلفها ، ينقطع النور ثم يعود يهلل الاطفال ( هيه )
تعاقب ابله سهير الفصل كله ، قيام … جلوس … قيام … جلوس
يضحك فى سره
الوقت يمضى بطئ اين الان العجلة ( ام تلاته ) اجوب بها حجرات الشقة ، يضرب جرس الفسحة وينفتح باب الفصل المغلق ، تهب نسائم الحرية ، يطلق لقدمه العنان ، يركض مسابقاً الاطفال حوله يندفع نحو حوش المدرسة ، الارض رملية والاسوار من حجارة ترتفع لاكثر من مترين والعلم فى المنتصف ، ياخذ اشرف جانباً ، الجهاز فى قدماه يثقل حركته يتعاطف البعض معه يتحلقون حوله يدعونه للعب معهم ، تلمع عيناه ويصمت ، وببرائة اتسائل كم من الوقت يحتاج اشرف ليخلع الجهاز ويلعب معنا ؟

صورة ثانية

وضع يده على جبينه ، احس ببرودة الموت تنتقل من الجسد المسجى على الارض اليه ، فاصابته قشعريرة ، هل
يموت الناس بهذة البساطة ، هذى العيون الشاخصة احتضنت يوما
شجراً وبحراً وصيفاً قائظاً وشتاءاً زمهريراً وعصفورين عشهما على صفصافة تنثنى نحو ترعة ، الان افتش فيهما فلا
اجد الا الفراغ والصمت … والصمت والفراغ ، بالامس عبر النهر من البر الشرقى الى البر الغربى شاهراً سيفاً لامعاً
عاكساً ضوءاً لشمس بكر عفية ضوئها كحليب الضرع واشعتها رغاوى وزبد ، لم تطاردة تماسيح النهر ، كانت تهرب
منه بين اعواد الخوص وزهر اللوتس حتى يبتعد ، ما الذى حدث ؟ وكيف يقتل هكذا غيلة ولم يتحرك اهل القرية ،
اعتاد اهل قريتنا على الغناء والصمت عند الاحتياج للكلام والكلام عندما يحتاجون للصمت ،
ذات ظهيرة والحر هجير والناس فى قيلولة والعصافير تظفر بظل شجرة والغربان تنعق مرتدية ريشها الاسود الداكن
والسحالى تنسرب نحو جحورها الرطبة وافعى ذات فحيح ترقد تحت زير ينز ماءاً واسماك الترعة تهرب الى القاع من
وهج الشمس المشتعلة وفتى خط شاربة يداعب جسداً فائراً ، وامراة يفوح من موقدها رائحة طعام فقير ومهرة فى
حظيرة تصهل وقطة تموء وكلب ينبح وحياة مثل اى حياة تسير فى رتابة وملل وحياة اخرى تنادى على احلام لا تاتى
وتقبض على ايام تنفلت كريشة من جسد طائر رقيق فاجأته الريح ،
كان ممدداً بعرض النهر يصل الضفتين ببعضهما ويعقد بينهما رباط حتى لا تذهب احدهما مع التيار ، الفلايك كانت
تغنى اغنية عن عروس خطفها جنى وبنى لها قصراً فى قاع النهر ، وعن جدع شجاع مرتفع الهامة صادق المقصد
نبيل الاصل يحاول انقاذها ،
كان يردد خلف الحناجر المشروخة الغناء ، وجبينة طاهر كغرة رمضان ، قبل ان تدوى طلقة الرصاص ،وقبل ان يفزع
الحمام ويفر من ابراجه وقبل ان يتجمع اهل القرية وقبل ان تدمع العيون ويرتفع الصراخ ، حاول ان يقبض على الايام ان
يحفر بئراً يخبئ فيه الاحلام حتى اذا عاد بعد الموت يجد ما يقتات ، الحياة بدون احلام محض ادعاء كغناء بلا صوت
ولحن رتيب معاد
كان الجسد المسجى على ضفة النهر ضخم كمعبد الكرنك وكان النهر بحيرة يتقدس فيها والاعمدة شواهد ايام ، كان
الجسد محتفظاً بقليل من الحياة ، لا يموت الشجعان موتاً مكتملاً كموت الناس ، وهل يموت كموت الناس من عبر
وعلى لسانه كلام وفى حنجرته قصائد شعر وحكايا وبعض انفاس من اريج حقول قمح وفواكه ورمان ، يموت كما يموت
الناس لكنه يبعث من جديد فى كل شروق وفى كل مساء ،
اتشحت القرية بالسواد اربعين نهاراً وليلة وصرخت النسوة وانهار الرجال وبحثوا عن القاتل عاماً بعد عام فلم يجدوه
فعادوا مجدداً للغناء

صورة ثالثة

كيف انفلت العمر هكذا ، كسهم انطلق من قوس وسكن حين انتهى الوقت ، لا احد يعرف ولا احد يملك الاجابة على
السؤال الابدى لماذا البداية ؟ ومتى النهاية ؟
احداث متلاحقة كشريط سينمائى ، وادوار متنوعة لابطال مختلفة ، منذ بدء الخليقة والفيلم يتكرر والابطال ترحل
ويأتى ابطال جدد ، افاق من هذه الافكار على صوت هدير محرك سيارة مرقت بجانبه وهو يحاول عبور شارع رمسيس
عند الكتدرائية الارثوذكسية بالعباسية ، يعبر الشارع الى الناحية الاخرى يدخل الى شارع الخريف ، هذا الشارع الذى
يتردد عليه منذ اكثر من اربعين عاماً ، البداية عندما تعرف عليها فى مدرج الجامعة ، منذ التقت نظراتهم شعر بسهام
كيوبيد تصيب قلبه ، اى كلمات ممكن ان توصف تلك اللحظة واى ابجدية التى تستوعب كل هذه الاحساس وتستطيع
ان تبوح به ، لحظات الصمت التى جمعت بينهم اختصرت كل لغات العالم ، كادت وهى تقف بعيدة عنه بامتار تسمع
ضربات قلبه المتلاحقة ، تمنت هى ان يقترب وتمنى هو ان يتوقف الزمن عند هذة اللحظة وتكف الارض عن الدوران ،
فكم من المرات دارت الارض حول نفسها ، كم من مرة تغيرت الفصول ، كم من نهار اتى وليل ذهب والحياة هى
الحياة نفس الايقاع وبنفس الرتابة لماذا لا تتوقف الارض فى هذة اللحظة التى تتحقق فيها الاسطورة رجل يجد نصفه
الاخر كما تقول الحكايات القديمة ، اقترب منها وباح لها بسر اسرار الكون ، انه الحب ياسيدتى وياسيدة هذا الكون
جمع بيننا ولا اجد من فن الكلام ما اقوله الان ، ابتسمت فظهر وجهها مكتملا كبدر واحمرت وجنتاها كتفاحتين ثم
امطرت السماء ، دخل الى الشارع الذى اوصلها اليه اول مره التقيا ، مر شارداً متاملاً البيوت والشرفات والنوافذ تلك
التى كانت شاهدة على تردده على هذا المكان ، تغيرت الملامح سال نفسه ؟
لكن الاحساس لم يتغير تماماً مثل اول مرة جاء الى هنا ، وهو يحملها فى عينيه ويداريها فى اهدابه كان لايريد ان
يراها احداً غيره، كان يسائلها كلما التقيا وتحديداً عند لحظة الوداع ، لماذا ياحبيبتى كلما اردت ايقاف اللحظة
يداهمنى الوقت ؟
اخاف من الرحيل ، واخاف لحظة الغروب واخاف لحظة انفلات يدك من يدى وانت تفارقين ،
كان قد وصل عند البيت ، هذه شرفة حبيبتى هنا كنا نقف سوياً نعلن للعالم كله ارتباطنا ، اسمى المنقوش على
جدار دبلة الخطوبة حاول الزمن ان يمحوه ، فى كل مرة كانت تقاوم المحو كان الالم يترك فى وجهها ندبه ، كلما
نظرت اليها كانت تصمت ، شيئاً ما يفرقنا ، اعود منتشياً امشى فى الشارع عائداً مزهواً ، اريد ان اقول لكل الناس
انى كنت عند حبيبتى ، واعود الى بيتى اغنى وعندما ادلف الى حجرتى اهاتفها ونتحدث حتى الصباح ،
احببت العباسية واحببت الشارع واحببت السيارات ،
مازال واقفاً تحت الشرفة يستعيد اللحظات ، فى هذا المكان اكتمل المعنى وتوحدنا كانت المرة الاولى التى تمنحني
عطاءً بلا حدود ، منحتنى لحظتها تاشيرة الصعود الى جنتها ، اه مااجمل السفر فى لحظات التوحد ، لحظات نقترب
فيها الى نجوم السماء ونرحل بين الاقمار ، مااجمل توحدنا ومااجمل لحظات صمتها الخجلى !
يدور حول البيت مرة تلو المرة ، لا يملك القدرة على التوقف ، كلما تذكر لحظة العناق كلما طاف حول المكان يردد
اشعار قد كتبها لها ( سيدتى ان الحب اقدار .. وقدرى تحدد فى لحظة كان على ان اختار …نظرت فى عينيك تاهت
عينى واصبحت حياتى ليلاً بلا نهار …
فيا من اغرق في عيناه يامن تاسرنى شفتاة …
يامن اطمع فى لقاءة واخشاه ..
من اين والى اين استطع ان اصمد امام عيناه
وكيف ؟ وهى املى بل هى منتهاه)
تذكر سيارته القديمة وهى تخترق شارع رمسيس وهى بجانبه لا بل وهى فى حضنه تقرأ عليه كتاب الحب وتغنى
احلى الكلمات ، يتذكر عينيها اللامعتين كلما اقتربت السيارة من منزلها فيعود يدور بالسيارة مرة من نهاية شارع
رمسيس عائداً من شارع لطفى السيد مخترقاً شارع الدمرداش من الخلف ، تفرح وتدخل الى صدرى وتداعب وجهى
وتردد معى ( انا عارف نفسى وتلكيكى هعشق لياليكى من لمسه ) ثم تعانقنى وتاخذنا الاغنية حيث الفضاء ، ونظل
ندور وندور حتى الساعات الاولى من الصباح ،
انها المرة المئة بعد الالف منذ اكثر من اربعين عاماً منذ افترقا فى لحظة اسى
وهو يحاول ان يراها ، كل مايتمناه ان تلتقى عيناهما كما التقتا اول مرة ، لكنه هذة المرة سيحكى لها كيف تسلل
الشعر الابيض الى راسه وكيف وهن قلبه وكيف مر عليه طوال هذة السنين اناس لم يعرفهم ولم يعرفوة فقط تبادلوا
التحيات كالغرباء على ارصفة القطارات المسافرة نحو النهايات .
غادر العباسية ذلك النهار للمرة الاخيرة فلم يعد الى هناك مرة اخرى لمطاردة الاشباح فلقد مات ذات صباح فى صمت
كما تموت زهرة من برد الشتاء
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.