الدكتور علاء رزق يكتب : زلزال تجسيد الفوالق والفوارق
تطالعنا النماذج الدولية الناجحة ،انه لا يجب على الانسان عند شعوره بالألم والعجز أن ينكفي على نفسه،بصورة تجعله ضعيفا، لأن الانسان الموصوف بالعقل ينجز كل سنة إبتكارات هائلة لدرجة جعلت البعض يقرر أن ابتكارات عقد من الزمان الآن، تعادل إبتكارات ما تم إبتكاره منذ فجر التاريخ وحتى بدايه هذا العقد.
لذا فقد فتح الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا فجر السادس من فبراير الحالى مجموعة من التساؤلات، تاركاً خسائر إقتصادية هائلة ستترك أثرها لسنوات عديدة، على نوعية حياة السوريين والأتراك ، الأمر الذي يفترض أن يتم أخذه بالحسبان عند تقدير حاجة الدولتين للمساعدات الإقتصادية الخارجية خلال الفترة المقبلة. كما يجب أن يتم أخذ هذه الخسائر بعين الإعتبار، عند وضع الخطط الحكومية، أما أهم ما في الموضوع، فهو أن خسائر الزلزال الإقتصادية لن تقتصر على المناطق المنكوبة فقط، بل ستطال كل نواحي الاقتصادين السوري والتركي. ولهذا السبب بالتحديد، من المفترض أن تلحظ السياسات الإقتصادية العامة في الدولتين هذه الآثار، وأن تتم مواءمة هذه السياسات مع الواقع المستجد، ومدى تاثير هذه الكارثة على الخريطه العالميه بكل معانيها ومدى تأثيراتها المستقبلية، لا سيما وأن زلزال بهذا الحجم تكون توابعه الاقتصادية اكبر مما نتخيل ليس على تركيا وسوريا فحسب ،بل على المستويين الإقليمي والدولي. حيث ياتي هذا الزلزال في وقت عصيب حيث تواجه تركيا وسوريا أشد أزمة إقتصادية في تاريخهما حيث بلغ التضخم اكبر من 80% وإنخفضت العمله المحلية لهما بصوره غير مسبوقه خاصة على الجانب التركي الذي يعاني من عجز تجاري قدره 5% من الناتج المحلي الإجمالي بفعل الأزمات العالمية المتتالية وتسريح أكثر من 2.3 مليون عامل تركي، وتشييد أكثر من نصف مليون منزل للأسر ذات الدخل المنخفض، وتامين ما يقرب من 4 مليون لاجئ سوري.خلاصة الأمر أنه من المرتقب أن يتكبد الاقتصاد التركي خسائر إجمالية تزيد عن إجمالى اضرار زالزال اليابان 2011والذى قدرت خسائره بحوالي 210 مليار دولار ، والخسائر التركية ستشمل قيمة المباني والمنشآت التي دمرها الزلزال، والتي توازي حدود ٨٠ مليار دولار، بالإضافة إلى ما يزيد عن 70مليار دولار تكلفة القتلى ومثلهم تعويضات وتكاليف للمشردين واللاجئين .هذا ويمثل حجم الخسائر الإجمالية نحو 10.2% من إجمالي الناتج المحلي التركي، كما يقدره البنك الدولي، والبنك الأوروبى لإعادة الإعمار والتنمية .
الواقع الجيولوجي والزلزالي لمنطقه حدوث زلزال كهرمان مارعش أكدت لنا ان إختلاف الطبقات الموجودة في باطن الارض،والتى كانت سببا لهذه الكارثة، ولكن ما نؤكد عليه ،ونود أن نطرحه على الضمير العالمى، هو أن الطبقات الموجودة في باطن الأرض لا تنحصر فقط على باطن الارض ولكنها تتواجد أيضاً فوق أديم الارض، وهو ما تمثل في فارق التعامل الطبقي الشديد بين تركيا وسوريا، تركيا تلك الدولة الحديثة التي تدخل ضمن مجموعه العشرين الأقوى إقتصاديا على مستوى العالم، بصادرات تزيد عن 255 مليار دولار سنوياً، ظهرت الفوارق الطبقية اثناء هذا الزلزال عندما تهافت الكل إلى مساعدتها، أما سوريا فلم ينظر إلى ما تعانيه من كوارث ، حيث يبدو إحصاء الأضرار الإقتصادية التي طالت سوريا جراء الزلزال مهمة صعبة، بالنظر إلى فقدان السلطات السورية السيطرة على زمام الأمر ، فضلاً عن هشاشة المؤسسات الرسمية السورية، وضعف آليات المتابعة المتوفرة لديها. وفي وقت طال الزلزال مناطق تعاني من الفوضى الإقتصادية نتيجة الحرب السورية، ما يصعب مهمة البحث عن أرقام تساهم في الناتج المحلي أو النمو الاقتصادي.
لكن الأكيد حتّى اللحظة، هو أن حصيلة الدمار طالت 12,122 مبنى، بشكل كلي أو جزئي. أما المشكلة الأساسية، فتكمن في عدم قدرة السلطات السورية أو قوى المعارضة على الشروع بإعادة إعمار المباني المتضررة، بالنظر إلى الصعوبات المالية التي يواجهها كل من الطرفين.
أما الإشكالية التي ستلقى بظلالها على الوضع الاقتصادي، فتكمن في ظاهرة النازحين الذي اضطروا لترك منازلهم نتيجة الأضرار التي خلفها الزلزال، حيث تقدّر المفوضية السامية لشؤون النازحين أعداد هؤلاء بنحو 5.37 مليون نسمة. وهذه المشكلة، ستضاف إلى مشكلة النازحين الموجودة أساسا، نتيجة موجات التهجير التي نتجت عن الحرب السورية.
الواقع يبرهن على أن تركيا ستكون أكثر قدرة من سوريا على الشروع بعملية إعادة إعمار البنية التحتية والمباني المتضررة، نظرًا لتوفر الإمكانات المالية بشكل أكبر لدى السلطات التركية مقارنة بالسلطات السورية. كما ستعاني سوريا من توزع السيطرة على المناطق المتضررة بين النظام والمعارضة، ما سيمنع وضع خطة شاملة لمعالجة الأضرار في جميع المناطق السورية.ليؤكد هذا الزلزال ان الفوارق فوق الأرض قد تكون اصعب وأقوى فى تأثيراتها من الفوالق الموجودة جوف الأرض ،فوق الأرض الفوراق أوجدت دولة متجمدة في غياهب الزمن، معزولة تماماً عن الواقع المعاصر، واذا كان الزلزال قد تسبب في اضرار ماديه وبشريه جسيمه لا تقل ابدا عن 210 مليار دولار حتى الأن، بالإضافة إلى الخسائر النفسية، لكن هذا الزلزال كشف عن حجم الإنقلابات الإجتماعية الكبيرة التي تسبب فيها الخلل الإقتصادي الذى تسأل عنه العولمة ،والنظام الراسمالى غير الرحيم ،كما كشف هذا الزلزال أيضاً عن شده الصراع بين العلم من جهة، والجهل من جهة أخرى ، ذلك الجهل الذي لم يستعد لمزيد من الزلازل على الرغم من أن من هذه المنطقة التي حدث فيها الزلزال تقع بين صفيحتين عربية، وتركية، وأن الواقع الجيولوجي والزلزالي للمنطقة،كان يتحتم معه ضرورة التأقلم علمياً ونفسياً ومعماريا، والتعلم من البيئات الأخرى التي إستطاعت أن تتعامل بعلم مع الواقع الجيولوجي والزلزالي الذي فرض عليها مثل دولة اليابان، وغيرها من الدول التي تقع على منطقة زلزالية نشطة، الواقع الذي نعيشه الآن بعد الزلزال التركي السوري يحتم علينا ضرورة التعاون الدولى أو الإقليمى على الأقل ، والأخذ بتوجيهات العلم،وذلك عبر مجموعة من الركائز الأساسية للإستعداد للمواجهة ، تشمل: أولاً: وضع إستراتيجية تقوم على الإستعداد والجاهزية لما قد يفاجئنا مستقبلاً من كوارث، وكيفية التصرف أثناء وقوع هذه الكوارث، وإدارة ما بعد حدوث الكوارث. ثانياً: فاجئنا الزلزال الأخير أن 90% من إنهيارات الأبنية، كانت أبنية أسمنتية ،متعددة الطوابق، مما أدى إلى زيادة الخسائر البشرية والمادية والنفسية، عكس الأبنية التي دمرت في الريف. ثالثاً: ضرورة أن يكون لدينا خطة إستعداد حقيقية فى كيفية التعامل مع المزيد من الزلازل الكبيرة مستقبلاً، وهو أمر لا يقل أهمية عن إعادة البناء والتعمير بعد حدوث الزلازل، حيث أكد هذا الزلزال انه منذ عام 1939 حدث أكثر من 10 زلازل كبيرة كان من الممكن التقليل من أثارها لو كان هناك إستعداد لمواجهه التكرار، لكن هذا لم يحدث على أرض الواقع نتيجة عدم الإستمرار في الإستعداد لمزيد من الزلازل الكبيرة. رابعاً: أن حجم الكارثة وتقديراتها الاقتصادية سوف يستغرق العديد من السنوات ربما قد تصل إلى اكثر من 10 سنوات، وحتى بعد إعادة الإعمار، فالأمر لا يتعلق فقط بعدد القتلى الذين وصلوا إلى أكثر من 40 الف قتيل وقد يصل العدد الى 70 ألف قتيل، وهذا لا يدخل وحده في عملية تقدير حجم الكارثة بل يدخل معه عدد حالات فقد الوظائف، والعمل وما إلى ذلك. خامساً: أفرزت هذه الأزمة الكارثية عن كارثة أخلاقية لا تقل عنها وهي التهافت على مساعدة الطرف الأقوى، وعدم النظر الى الطرف الأضعف وهي سوريا في هذا الوضع ،وهذا ما يجعلنا نؤكد المقوله التاريخية التى تؤكد تحتم على الدول بألا تكون ضعيفة ولا تدع غيرها تظن بها الضعف ،علينا الإستعداد دائماً وبكل قوة لما هو آت، وان نكون في أقوى حالاتنا الظاهرية على الأقل، حتى ولو كنا داخلياً نعاني من ضعف وعدم إستقرار. سادساً: أن تركز المساعدات على أولويات السكان المحليين بتحقيق القدرة على الصمود في المدى الطويل وهو أمر قد يعينهم في تخطي هذه المحنة وتجاوزها ،وهو ما حدث بالفعل مع الشعب الياباني بعد كارثة هيروشيما ونجازاكى عام 1945. سابعاً: هذا الزلزال قد يكون بداية تغيير إيجابي في منطقه الشرق الأوسط عامة، ومنطقه الشام خاصة فيما يتعلق بعملية الحصار الإقتصادي والسياسي لدولة سوريا، فقد يكون هذا الزلزال هو بداية فك هذا الحصار ودخول سوريا في منظومة المجتمع الدولي والعربي من جديد، كقوة لا يستهان بها ، مستندين في ذلك على ما حدث في سومطره عام 2004 عندما كان الحرب الأهلية هي الصوت العالي فيها ،الى أن جاء صوت زلزال سومطرة 2004 ، فأدى ذلك إلى إنهاء هذه الحرب الأهلية ،وتعميم حالة السلم والإستقرار فيها ثامناً: أن الازمات بطبيعتها تفرض مبدا السرعة فوق الكمال، حيث لا وقت لصياغة إستراتيجية حقيقية مثالية، وهذا يعني ببساطة ضرورة تنحية الأنانية، والسعي نحو إبراز الإبتكار الإجتماعي، لمجابهة حوادث الظواهر الطبيعية، والتاكيد على أهمية الدعم الانساني في هذه المواقف حتى يتم تجاوز هذه المحن . تاسعاً:أن المحن جراء هذه الكوارث قد تخلق منح لدى دول أخرى ،إذا أحسن تدويرها فسوف تكون أداة قوة للدعم لمجابهة حوادث الظواهر الطبيعية مستقبلاً.
وبالتالي فإنه يمكن القول بأن التعامل مع الأزمات هو أحد محاور الإدارة الجيدة ،والتى تفرض علينا ضرورة البحث، وتأمين وجود مديرين يتسمون بمهارات إبداعية، وشجاعة كبيرة، وثبات عن وقوع الأزمات، مع الإتزان المقترن بالتفكير الإبداعي للخروج من الحالة غير العادية التي تخرج عن نطاق التحكم والسيطرة،والتى قد تؤدي بالفعل إلى توقف العمل، كما حدث في تركيا وسوريا ،والتى قد تصل إلى تعطيل تحقيق الأهداف التنموية في كلا الدولتين، وبالتالي فإن الإدارة في مثل هذه المواقف تستلزم رسم التكتيكات الخاصة عبر مرحلة من مراحل التعامل مع الكوارث، سواء مرحلة ما قبل الازمة من خلال وضع منظومة للإنذار المبكر ،وتحليل الموقف، وأن يتم التدريب عليه من الآن،ثم مرحلة كيفية التعامل مع الأزمة عبر الإستجابة لهذه الأزمة من خلال تحقيق الإبتكار الإجتماعي، وخلق حالة تعبر عن نجاح تحقيق الحكومة المستجيبة ،ثم أخيراً مرحلة التعامل مع ما بعد الأزمة عبر ضمان إستيفاء جميع الإلتزامات، وتوفير جميع المعلومات اللازمة لإعادة البناء ومواصلة النمو، مع الوضع في الحسبان ما قد يقابلنا من معوقات تنظيمية، او نقص معلومات ،أو نقص إتصال، أو عدم الدعم الإنساني الكافي كما حدث في سوريا.