” الخروج على النص ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام

الكاتب الإعلامي محمود عبد السلام
اكفهر الجو وغابت الشمس وانذرت السماء بماء منهمر ، تقلصت بطون السحب وتعصرت كانها تلد فاخرجت من رحمها برقاً ورعداً وماءاً غزيراً، وهبت الرياح على اديم الميدان فالتفت اوراق الشجر واوراق الجرائد وبعض المهملات حول نفسها فى دوامة صنعت قرطاساً ضخماً قاعدته فى الاعلى وراسه الى اسفل ، حاول الاحتماء تحت مظلة احد الدكاكين المغلقة ، لكن الزوابع والمطر والرياح حاصرته ، فاندفع الى احد الابواب الكبيرة المزركشة الالوان واعلى الباب يافطة كبيرة مكتوبة بلمبات النيون ( المسرح الكبير)
دخل مندفعاً هارباً من الطقس المتقلب ، فوجد نفسه فى قاعة مسرح كبير ، تضم عدداً هائلاً من المقاعد مرصوصة بعناية بينها طرقات منتظمة تفضى الى ابواب على جانبى القاعة ، بعض المقاعد فى الامام وثيرة ذات الوان مبهجة وكلما تناقصت المقاعد نحو الخلف بهتت حدة الوانها وتجردت من نسيجها المحكم ، وقف فى المنتصف يتطلع الى اعلى قاعة المسرح متابعاً افريز البلكون المزخرف والستائر الخلفية من القطيفة الحمراء ، كان الضوء شاحباً غير مهيئ لكشف غموض المكان بالكامل ، فتحت الستارة ببطئ شديد كانها مترددة بين الانفتاح والانغلاق ، ثم سمع وقع اقدام قادمة من خلف خشبة المسرح بدت كاقدام رجل ضخم وئيد الخطى مهول الجسد ثم توقف وقع الاقدام ، وسمع صفير ميكروفونات لاذاعة داخلية تستعد لاستقبال تعليمات ، ثم نقرات اصابع على مقدمة ميكرفون احدثت ضجة خفيفة فى القاعة اثارت انتباهه ثم ساد صمت ترك فى نفسه شغفاً وفضولاً للاستماع للقادم ، لكن فترة الصمت طالت فاحس بالفضول اكثر ثم ترامى الى سمعه ايقاع نفس فى شكل شهيق عميق وزفير قوى فاحدث جلبه فى الميكرفون ، فرغ صبره وهو ينتظر واراد ان يذهب الى خلف المسرح ليكشف بنفسه عن المتحدث ، وقبل ان يتحرك من مكانه دوى فى القاعة صوت قاهر عميق له صدى كالريح وعريض كبحر له نغمة مقدسة كالتى تتردد فى الاحتفالات الدينية ثم قال الصوت
– جئت فى وقتك
تلفت حوله فلم يجد احداً غيره فى قاعة المسرح فانتبه ان الكلام موجه له
– لقد اتيت هنا بالصدفة ، انقلب الطقس فى الخارج فجاة واصبح الشارع خالياً من الناس فاصبحت وحيداً
وغطت السحب الداكنة السماء وصرت الرياح صريراً ارعبنى فاندفعت نحو اول باب وجدته مفتوحاً امامى فاذا بى هنا فى هذه القاعة المسرحية على ما اظن !
– مظبوط تماماً كل شئ بالخارج تم ترتيبة بهذا الشكل حتى تهرب الى هنا
– كنت اظن انه الحظ والصدفة .!
– كل من اتى هنا ظن مثلك تماماً
– هل اتى الى هنا ناس غيرى ؟
– بالطبع هذا المسرح بُنْىَ خصيصاً لياتى اليه الجميع
– لماذا ؟
– ليقوموا بدورهم المعد لهم فى المسرحية
اثناء الحوار لفت نظرة بعض الناس تمر على خشبة المسرح سريعاً من اليمين الى اليسار وتختفى . فتشتت انتباهه
الصوت :- هؤلاء دورهم هكذا ما ان يبدءوا حتى ينتهوا قبل ان يلحظهم احد
– وهل وافقوا على هذا الدور الصغير ؟
– الامر غير قابل للنقاش
مادام اتوا الى هنا
– وهل هناك من يستقبلهم بعد ان يؤدوا ادوارهم ؟
– بعد ان ينتهوا يكرموا بجلوسهم فى اعلى القاعة يتابعون بقية الاحداث
– شكراً على التوضيح استاذن سيادتك انى عائد الى الخارج اعتقد ان الطقس تحسن
-لم يعد يصلح ان تترك المسرح وتغادر
– لماذا ؟ انا حر استطيع ان اغادر فى اى وقت اشاء !
– لن تستطيع ان تغادر قبل ان تقوم بتادية دورك على اكمل وجه
– بل بالعكس استطيع بكل تاكيد ( كان يحاول ان يلف بجسده ناحية الباب ويحرك قدميه لكنه لم يستطع ، حاول ان يقاوم ويحرك قدمه اليمنى بيده ففشل
– هناك منضدة على يمينك عليها مجموعة من السيناريوهات ستجد احدهم مكتوب عليه اسمك ، تحرك بسرعة واقرأه جيداً
ما ان بدأ فى قراءة السيناريو حتى ظهر احد الاشخاص ملامحه تشى بالطيبة وعيناه تحمل حزناً عميقاً وزهداً اقرب الى زهد الانبياء ، اقترب منه فابتسم له وتقدم نحوه وربط على كتفه
– حضرتك بتدور على السيناريو خاصتك ؟
– لا
– حضرتك تعمل هنا ؟
– نعم انا مساعد المخرج
– حسناً ممكن اترك دورى لاحداً غيرى
– للاسف دورك لا يصلح الا لك
– طيب اين بقية الممثلين ؟
– كل واحد ياتى فى موعده بالتمام
– متى سنبدأ ؟
– نحن بالفعل بدأنا
– فى جزء مكتوب محتاج اغيرة
– التغير مسموح فى حدود عدم المساس بجوهر العمل
– مكتوب هنا انى انتمى لاسرة فقيرة وان ابى كى يستطع تربيتنا انا واخوتى ان يعمل فى اعمال غير قانونية وهذا شئ لا يشرفنى
– عندما تقرأ السيناريو كاملاً ستجد ان المخرج التمس لابوك العذر وسمح له ان يعدل سلوكه ويتوب
– لكن ذلك قبل النهاية مباشرة
– الاعمال بالخواتيم
– لكنه دور غير مشرف ؟كنت اريد ابى رجلاً صالحاً وغنياً مسموع الكلمة مرهوب الجانب
– وافر الاعتذار هذا دور اب لانسان اخر
– وامى لماذا تركها المخرج تعانى شظف الحياة؟
– فعلا البداية كانت بالنسبه لها صعبة وكانت تستحق حياة افضل من ذلك لكنها ختمت حياتها فى الاراضى المقدسة ودفنت فى البقيع
– واخوتى جميعهم ماتوا صغاراً فلماذا اورثنى المخرج كل هذا الحزن ؟ سيلازمنى الحزن والالم طوال الفصل الاول والثانى وفى الفصل الاخير سيلازمنى المرض واصبح منبوذاً من الجميع !
– لكنك ايضاً ستتزوج بامراة جميلة وستنجب منها بنين وبنات وستملك ثروة كبيرة ستتركها لهم
– لكنى لن استمتع بتلك الثروة ؟
– يكفى انك ستتركها لاولادك .
– الحقيقة انا لا اجد معنى لوجودى هنا من الاصل ، كان سيصبح وجودى اكثر تشويقاً لى اذا كنت اشتركت بجزء فى كتابة دورى ، اما اجد نفسى على خشبة المسرح بدور مُعَدْ لى سابقاً فهذا لا يرضينى
– سوف اتحدث مع المخرج بصفتى مساعداً له لعله يمنحك دوراً اخر او يسمح لك بالاشتراك فى كتابة دورك
انفتحت الستارة وانكشف المسرح وزادت الحركة وامتلئت القاعة بالجمهور واخذت الاضواء المتلاءلأة تتحرك ذات اليمين وذات اليسار ، وقف فى المنتصف متردداً يتقدم خطوة للامام ثم يتراجع ، همس اليه الملقن ببعض كلمات مذكراً اياه بالنص الاصلى للمسرحية ، لكنه عند مواجهة الجمهور انتابته حاله من الخوف والزعر ، اما بقية الممثلين على المسرح كانوا يؤدون ادوارهم بثقة واتقان ، دخلت من خلف الكواليس امراة جميلة ينم جمالها عن جسد بض مكتمل الانوثة تعلو جبهتها اشراقة ندية توجهت ناحيته وخاطبته فى ما يشبه الهمس،
: سوف اكون زوجتك فى المسرحية .
وعليك ان تتقن الدور حتى لا تخسر عملك هنا ويغضب عليك المخرج
– لكن انا لا اعرفك !
– ولا انا اعرفك !
– اذاً لماذا نتزوج ؟
– طبيعة دورك
– طوال عمرى كنت احلم ان اتزوج بامراة احبها .
– الحب سيأتى بعد الزواج
– الحب لا ياتى الا فجاة
– الحب ياتى فى اى وقت قبل الزواج او بعده
– لكنى مرتبط عاطفياً بالفعل
– اجمل منى ؟
– لا اعلم ولكنى احبها والحب ياعزيزتى يضيف للجمال جمال وللحياة حياة اخرى وللشعور شعور اضافى لا نعرفه الا اذا مررنا به
– تزوج بى على المسرح وتزوج بها فى الواقع
– لا ارى فرق بين مسرحكم والواقع يخيل الى انهما شيئ واحد
– كان ممكن تعترض قبلاً لكنك الان فوق خشبة المسرح والجمهور ينتظر والمخرج يرقبك ومساعده قد ابلغك اسمح لى انت فى موقف
حرج
عند هذه اللحظة ارتفع قليلاً عند مستوى الحدث واقترب منها لاداء الدور لكنها باغتته قائلة :
اعرفك على اولادنا
– متى حدث هذا ؟
– يبدو انك لم تقرا السيناريو جيداً
– سيناريو اقل ما يقال عنه انه صادم كيف يحدث كل هذا دون اخذ راى ؟
– رايك فى الجزء الثانى
– اى جزء الذى تتحدثين عنه ؟
– جزء ما بعد انتهاء العرض
– لكنى احتاج لاشياء الان لا اجدها هنا !
– هنا مؤقت
– وهل سنتقابل مرة اخرى فى الجزء الثانى ؟
– اذا اردت
– افضل ان انهى هذه الماساة هنا
مضى الوقت واندمج فى الاداء واصبح من النجوم المميزين ولاقى القبول من الجمهور لكنه ظل يشعر بمرارة لا يعلم مصدرها ، مرراة
تشبة الندم على عدم تمكنه من لعب ادوار اخرى كان يتمنى ان يقوم بها على خشبة المسرح
حتى كان اثناء تغير الملابس بين فصول المسرحية حين قرر عند عودته لخشبة المسرح الخروج على النص ،
حجرة صغيرة مظلمة فى جانب خفى من المسرح ، فى وسطها منضدة صغيرة وكرسى خشبى ،
– اجلس
– من المتحدث ؟
– ليس مهم ان تعلم من يحدثك !
– لماذا انا هنا ؟
– دورك انتهى
– متى ؟
– منذ قليل
– واولادى وزوجتى وعملى واصدقائى وزملائى فى المسرحية اين هم ؟
– على خشبة المسرح يستكملوا عملهم على المسرح
– ولماذا لم اكمل دورى ؟
– دورك انتهى عندما حاولت الخروج على النص
– لكنى فكرت ولم انفذ
– لا نملك الوقت الذى يسمح لك بالخروج عن دورك حتى لا يختل العمل بالمسرحية
– اريد ان اعود ولن افكر هكذا مرة اخرى
– لا املك اجابة على هذا الطلب لكن ما اعلمه ان من يخرج من الرواية لا يعود اليها مرة اخرى
– لكنى ندمت وسوف اقدم بالغ اعتذارى
– الوقت مضى
– هذا ظلم ؟
– انت تعلم القوانين وقد بلغك بها مساعد المخرج
– عايز اعرف مصيرى الان ؟
– اعتقد انك ستعود الى الخارج مرة اخرى
– لكنى سعيد هنا !
– لكنك لم تحفظ العهد وتمردت
– انت قاسى
– انا انفذ الاوامر
– دعنى اعود
– ستعود فى وقت ما لتلعب دوراً اخر
– لكنى احببت هذا الدور
– ولكنك غضبت عليه !
– كنت اريد ان اجرب
– عليك ان تتحمل مسئولية اختيارك
– ممكن اقابل المخرج ؟
– ممكن بعد انتهاء العرض
– ومتى سينتهى العرض ؟
– بالنسبة لك انتهى
– هذا سخف …اين حريتى لم ادخل المسرح بارادتى دخلت هرباً من الزوابع والاعاصير فوجدت نفسى على خشبة
مسرح امثل دور لا يليق بى وفجاة انتهى دورى .. اين العدل ؟
– العدل فى اتاحة الفرصة
– واين حرية الاختيار !
– الذى انهى دورك مبكراً محاولتك اختيار امر اخر
– انى غاضب وغير سعيد
– يبدو ان الغضب جزء من تكوينك
– ابتسم فى سخرية ثم قال
وهل اعلم شئاً عن هذا التكوين؟
– كفاك اسئلة عندى مقابلة مع ناس اخرين انتهى دورهم مثلك لا تضيع وقتى
– انتظر سؤال اخير
– اخر سؤال كما ان هناك شرط . من حقى الا اجاوب
– وما قيمة السؤال اذاً ؟
– فى الحقيقة لا قيمة له
– لكن من حقى
– قاطعة الصوت قبل ان يكمل
– حقى .. حقى
واين واجباتك انت تريد ان تاخذ ولا تعطى ، تسال ولا تجاوب ، تريد ان تصبح غنياً بلا عمل ، وناجحاً دون عناء ، التزم
الصمت حتى يكون لك دور اخر قريب والا ستذهب الى الجحيم .
عاد الى الشارع من حيث اتى يواجه غضب السماء الممطرة والرياح العاتية والبرق والرعد محاولاً الاحتماء من هذا
الجو المكفهر لكن ظل سؤال يلح على عقله
ترى لو اننى لم افكر فى الخروج على النص ؟
اين كنت الان !
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.