اللواء دكتور سمير فرج يكتب : حكاية 11 يورو

اللواء دكتور سمير فرج
ساقتني الظروف، للسفر إلى ألمانيا، لإجراء بعض الفحوصات الطبية، الخاصة بآلام العمود الفقري، والتي كنت قد توقفت عن متابعتها، خلال العامين الماضيين، نتيجة لجائحة كورونا، وما ارتبط بها من إجراءات احترازية. وصلت مساء الأحد، من الأسبوع الماضي، إلى مطار شتوتجارت، واستقليت سيارة أجرة إلى الفندق، فكانت أولى المفاجآت، أن وجدت الطريق الرئيسي، “الأوتوبان”، أشهر وأهم طرق التحرك السريع في العالم، Highway، مظلم بالكامل، كما لاحظت أن حركة السيارات تكاد تكون منعدمة، فلما سألت السائق عن السبب، أجاب، باقتضاب، “نحن نعيش في أزمة، ويجب أن نتحمل”. ووصلت إلى الفندق، الذي اعتدت الإقامة فيه، إن دعتني الظروف للتواجد بألمانيا، فكانت المفاجأة الثانية، بأن الغرفة باردة، بصورة مبالغ فيها، فشلت معها كل محاولات تعديل درجة حرارتها، مما دفعني للاتصال بمسئول الصيانة بالفندق، الذي حضر للغرفة، على الفور، وأبلغته بتعطل جهاز التحكم، إلا أنه أكد لي سلامة الجهاز، وسلامة نظام التدفئة، مضيفاً بالإنجليزية “We are saving energy”، أي “نحن نقتصد في الطاقة”.
وفي صباح اليوم التالي، عند تناول الإفطار بمطعم الفندق، لاحظت أن البرودة ليست قاصرة على الغرف، وإنما على جميع أركان الفندق، فأنهيت إفطاري على عجل، وطلبت سيارة أجرة لأتوجه إلى المستشفى، ورغم أنه كان أول أيام العمل، إلا أن شوارع المدينة كانت خالية من السيارات، إلا الأجرة منها، وبالاستفسار، مرة أخرى، من السائق، ضحك قائلاً، “نحن نعيش حالة 11 يورو”، ولما بدا أنني لم أفهم ما يقصد، استطرد في الشرح قائلاً، “ألمانيا تعيش أزمة طاقة، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، التي نتج عنها توقف إمداد الغاز الروسي لألمانيا، والذي يمثل 50% من احتياجاتنا. لذلك أقرت الحكومة تذكرة موحدة، بقيمة 11 يورو، يستخدمها المواطن الألماني، طوال الشهر، في كافة أنواع المواصلات العامة؛ القطارات، والترام، ومترو الأنفاق، والأتوبيس. ونجح ذلك في تقليل اعتماد المواطنين على سياراتهم الخاصة، بعدما صارت تكلفة الذهاب للعمل، والعودة منه، طوال الشهر، تعادل قيمة ثلاث زجاجات مياه معدنية، في مقابل توفير ما تبلغ قيمته حوالي 700 يورو، شهرياً، عن السيارة الواحدة، قيمة الوقود وإهلاك السيارة، وما يرتبط بذلك من تكاليف الصيانة وقطع الغيار”.
واستطرد قائلاً إن ذلك القرار، حقق للحكومة الألمانية، في الشهر الأول لتطبيقه، توفير بلغ نحو 25% من استهلاك الوقود، ارتفع في الشهر الثاني إلى 30%. وبوعي منه، وأمام تحدي وفرة الطاقة، الذي أدى لارتفاع أسعار كافة السلع، والخدمات، والمرافق، ومنها فاتورة استهلاك الكهرباء في المنازل، فقد قرر المواطن الألماني الاستغناء عن تشغيل نظام التدفئة المركزي، Central Heating، والاكتفاء بتدفئة الغرفة، أو الغرف، الضرورية فحسب. وأقر السائق، بأن قلة الطاقة، أثرت سلباً على الاقتصاد الألماني ككل، إذ اضطرت العديد من المصانع إلى إغلاق أبوابها، خاصة تلك الكثيفة الاستخدام للطاقة، مثل مصانع الحديد والصلب، كما توقفت العديد من الأعمال، مثل المطاعم والمقاهي، ودور السينما، وغيرها، نتيجة عزوف المواطنين عنها، بسبب الغلاء.
وبعد مناقشات لم تدم طويلاً، وصلنا إلى المستشفى، في زمن أقل من المعتاد، بعدما خلت الطرق من الكثافات المرورية، فوجدت المكان بارداً، وسمعت نفس الرد، من الممرضة، التي تولت تسجيل دخولي للمستشفى، بأن الأزمة الحالية اضطرت إدارة المستشفى لتخفيض درجة الحرارة في كل الأنحاء، فيما عدا غرف المرضى المقيمين وغرف العمليات. ولما التقيت طبيبي، بادرني بابتسامته المعتادة، معتذراً عن برودة الطقس في المستشفى، مضيفاً أن مثلي ممن ينعمون بدفء الشتاء في بلادهم، لابد وأنهم ممتنون لله على تلك النعمة، وعلى شمس بلادهم الرائعة. بعدها بدأنا الحديث عن حالتي الصحية، وناولته صورة الأشعة المقطعية، MRI، التي أحضرتها معي من مصر، فانبهر بجودة الأشعة، قائلاً “لقد لاحظت تطور الأجهزة الطبية في مصر، من خلال صور الأشعة الخاصة بمرضى من مختلف الجنسيات، أجروا أشعتهم في مصر، فضلاً عن دقة التشخيص بالتقارير المرفقة، التي تدل على احترافية الأطباء القائمين عليها”، فأشدت بقوة ملاحظته، وأكدت أن زيارتي كانت لاستشارته في بروتوكول العلاج الذي صرت أتلقاه في مصر.
وفور خروجي من المستشفى، قررت العودة إلى مصر، في اليوم التالي، على عكس ما كنت قد خططت، فبرودة الطقس تحيل دون أي متعة، وبالفعل توجهت إلى محطة القطار، قاصداً مطار فرانكفورت، ومنه إلى مصر، فوجدت محطة القطار وكأنها ميدان العتبة، في تكدسه بالبشر، فتذكرت أنهم يعيشون زمن 11 يورو. وفي المحطة تعرفت على اثنين من المصريين المقيمين بألمانيا، ويحملون جنسيتها، منذ أكثر من ثلاثين عام، فطلبوا مني إبلاغ رسالة إلى وزيرة الهجرة، برغبتهم في إنشاء صندوق، على غرار الجزائريين والمغاربة، يتولى تمويل نقل جثامين الراغبين في الدفن بمصر، دونما تحميل الدولة بأية أعباء، سوى وضع القوانين أو الآليات المنظمة لذلك الصندوق، على أن يقوم الراغبون في الاستفادة من خدماته، بتمويله، وأضافوا أن حتى أولادهم المقيمون في ألمانيا، منذ ولادتهم، لم يُنتزعوا من أصولهم، أبداً، ولديهم نفس الرغبة، في أن يواريهم ثرى بلادهم.
وعدت إلى مصر التي استقبلتني بروعة طقسها، وحرارة مشاعر أهلها، العاشقون لترابها، حتى وإن اضطرتهم الظروف للعيش بعيداً عنها …. ربنا يجعلك عمار دوماً يا مصر.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.