” احتفال كوني ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام
تجمعت سحب يناير فى سماء الاسكندرية مخلفة وراءها شتاءً ثقيلا . تقلب فى فراشه مقاوماً الاحساس بالنعاس. لملم الغطاء الثقيل حول جسده النحيل فتسلل الدفئ بطيئا مارا بقدميه ثم تقدم نحو بقية جسده فشعر بالراحة فعاوده النوم.. الحجرة الصغيرة احتوت على اثاث بسيط . سرير من حديد قلبه مرتبط بأطرافه بشرائح من صاج رقيق ينتهى فى المنتصف بسوست معدنية والسرير كله مغطى بطلاء ابيض كأنه منزوع من وسط عدة اسرة بعنبر لمرضى بالقصر العينى . المرتبة من قطن جاف ترك الزمن أثاره على صلابتها فأصبح النوم فوقها مخاطرة كبيرة كركوب فرس جامح . الشباك الوحيد بالحجرة صغير لا يسمح فى النهار ألا بقليل من ضوء يتسلل على أستحياء فيضئ جزء يسير من الحجرة . أستيقظ مرة أخرى على طرق رقيق على الباب ادار وجهه ناحية الباب وحاول ان يتغافل عن الصوت . سكت الطرق برهة ثم عاد اقوى من الأول بإصرار متعمد . لم يجد بداً من ترك جنة الدفئ تحت لحاف الشتاء . نهض واضعاً بطانية على قمة رأسه مسدلاً بقيتها على منكبيه وظهره ممسكا بأطرافها من الأمام . فتح الباب فوجد محصل الكهرباء ممسكاً بيد ايصالات التحصيل وفى اليد الاخرى دفتر وضع بين جانبيه نقود التحصيل ويدخن لفافة تبغ من النوع الرخيص ترك دخانها رائحة كحريق القش . ذقنه نابتة وشعره مهوش ويبدو على المحصل اثار الاجهاد سأل بتأفف ..أنت شحاته عبد الله ؟
فرك شحاته عينه ببطء وهو يتثائب ..ايوة انا .. اخرج المحصل أيصال من بين دفتى الدفتر ونظر فيه ثم رفع نظره الى شحاته قائلا ..مطلوب 1500جنيه .. أستهلاك كهرباء عن شهر يناير تلفت شحاته حوله كأن المحصل يتحدث الى أحد غيره ثم عاود النظر موجها له الحديث أعتقد انك غلطان فى العنوان .. ماأعتقدش العنوان 9عطفة مصنع الغلابة والاسم شحاته عبد الله صحيح ؟.. العنوان والاسم صحيحان لكن لا يمكن يكون الايصال لى .. !شكلك هتتعبنى كده او كده على أى حال ستدفع .. ممكن ترجع للشركة وتعيد النظر والمراجعة ممكن يكون الايصال لشخص أخر .. كيف ؟.. ممكن يكون تشابه أسماء
لكن .. العنوان مطابق .. فعلا شئ عجيب !.. وما العجيب فى هذا ؟
الحقيقة انا لا أملك عداد للكهرباء
.. كيف ؟.. انا استأجرت هذه الحجرة دون عداد نظر اليه المحصل بأرتياب .. انت لا تصدقنى ؟
.. صحيح .. اذا تفضل حضرتك الحجرة امامك فتش كما تريد لكن عليك ان تجد العداد
دخل المحصل وهو يشعل لفافة أخرى قبل ان يطفئ الأولى واشعلها منها ثم قذف عقب اللفافة المنتهية على بعد قبل ان يدخل الحجرة ثم سحب نفسا عميقا واخرج بقية الدخان على المدخل فأنتشرت رائحة القش المحروق فى الأنحاء فشعر شحاته ان الهواء قد سحب من الغرفة وتقلص صدره .. فتح نافذة الغرفة وأطل برأسه الى الخارج وسحب نفسا عميقا من الهواء البارد أسترد به حيويته ثم نظر الى السماء فوجد السحب الرمادية قد تجمعت وازدادت كثافتها منذرة بمطر غزير سيضرب الاسكندرية .. نقل بصره تجاه البحر فوجده هائجا والموج مرتفعا فأخذ يتنقل ببصره بين السماء والبحر متناسيا هذا الضيف الثقيل الذى اصبح فى منتصف الحجرة ينفخ دخان سيجارته الرخيصة فيحول المكان الى رائحة نتنة لبقايا حريق أعشاب ضارة .
قبل هذة اللحظات الثقيلة كان ينتظر المطر حتى يرتوى من قطراته التى تنقر زجاج نافذته مستمعا لصوت فيروز ناظرا الى السماء ليبدأ بروحه الطيران متنقلا بين الغيوم ليعود الى حجرته ممتلئ بهجة ليعاود أستكمال كتابة روايته .
منذ حوالى عدة سنين يحاول كتابة روايته عن حقبة هامة من تاريخ مصر ابان الحملة الفرنسية عندما أكتشف المصريين مدى تخلفهم عن العلوم الحديثة فكانت الحملة الفرنسية صدمة حضارية قبل ان تكون عسكرية وبطل الرواية هو الفتى سيد الذى كان يمتلك كنوز الحضارة الفرعونية لكنه لم يستطع أستغلالها لانه لا يملك العلم الذى يسمح له بأكتشاف أسرارها فاصبحت نهباً للاجانب ..
المحصل بصوت مشروخ يحمل الكثير من الضجيج .. أين العداد ؟.. قلت لك انا لااملك عداد وحتى لو أملك عدادا فكما ترى ان لا املك من حطام الدنيا سوى هذا المصباح الذى يضئ الحجرة
جال المحصل بنظره فى أنحاء الغرفة فلم يعثر على أى أثر لعداد الكهرباء .. المحصل ادفع الفلوس اولا ثم أذهب الى الشركة وقدم شكوى .. لماذا أدفع اذا كنت لم أستهلك قيمة الايصال ! ساد الصمت الاثنين وراح كلا منهما يفكر كيف يتخلص من هذا الموقف كان محصل الكهرباء انتهى من لفافة التبغ الثانية وقبل ان يشعل الثالثة طلب منه شحاته ألا يشعلها أستجاب المحصل على مضض فى شبه أستسلام ثم سحب كرسى قديم ووضعه ملاصقا لأحد جدران الغرفة مواجها للشباك مادا بصره للخارج متابعا أمواج البحر وبداية هطول المطر لمح شحاته فى عين المحصل نظرة أرهاق فغادره وذهب لعمل كوبين من الشاى متعمدا الغياب لفترة من الوقت ليترك للمحصل الوقت كى يلتقط أنفاسه تلكأ بعض الوقت واخذ يبطئ فى عمل الشاى وتعمد أدارة موسيقى هادئة لعمر خيرت على البيانو فساد أحساس مفاجئ بالسلام والهدوء فى الغرفة ولعب الهواء البارد القادم من ناحية البحر برائحة اليود والاعشاب البحرية فى تغيير هواء الحجرة
عاد شحاته الى المحصل فوجده ممسكا بقلم رصاص منهمكا يرسم على ظهر الدفتر نافذة تطل منها فتاه تحاول ان تمسك بيدها احد طيور النورس وفى خلفية اللوحة بحر وبعض السحب .. شعر المحصل بوجود شحاته فتوقف والتفت ناحيته ووضع القلم والدفتر جانبا وتناول من على الصينية الصدأة كوب الشاى وهو مبتسم .. وضع شحاته الصينية على المنضدة وتناول الدفتر وأخذ يتأمل اللوحة التى رسمها المحصل وهو مندهش من جمالها .. انت اذا فنان ؟
.. زفر المحصل زفرة طويلة ثم قام متوجها ناحية النافذة مرتكزاً على الحافة مخرجا يديه الى الخارج متلقيا المطر بين راحتيه .
. تركت كلية الفنون الجميلة فى السنة الثالثة .. نشأت فى محافظة الأقصر قضيت طفولتى بين المعابد والنيل كنت أرسم وجوه السياح وابيعهم رسوماتى واجمع النقود واحلم بدخول جامعة الأسكندرية لأنى أعشق البحر بعد الثانوية غادرت قريتى بالأقصر متوجها الى الأسكندرية ملتحقا بكلية الفنون الجميلة . وبعد اشهر قليلة كنت أشهر رسام شوارع فى ميدان الرمل النقود التى كنت أتقاضاها أرسل جزء منها لوالدتى بالأقصر التى ترعى أختى الصغرى بعد وفاة أبى فجأة و الباقى أشترى به أدوات للكلية مع الوقت هجر الزبائن الميدان نحو الساحل الشمالى وأصبح الرزق قليلاً وأعتمد أغلب مرتادى الميدان على اخذ الصور التذكارية بالتليفون المحمول ضاقت بى الحياة فالتحقت بالعمل كمحصل للكهرباء بالثانوية العامة ثم شيئا فشيئ أدركنى اليأس وتركت الكلية لكنى اكتشفت عالم جديد تماماً لم اكن اعرفه قبلاً . فى كل يوم أدخل بيت جديد اتعرف على قصة مختلفة فى الحياة ادخل الى قصور الاثرياء اجد عندهم أشياء غريبة لم اشاهدها قبلا الا فى أفلام السينما ومسلسلات التليفزيون يعلقون على الجدران لوحات فنية غالية الثمن لفنانيين كبار اللوحات تقطر احساسا وصدقا رغم ان قلوب أصحابها صلدة ووجوههم دائما مكفهرة لا يتمتعون بلوحاتهم اكتفوا فقط ان يعلنوا من خلالها عن مدى ثرائهم.. لا ينظرون حتى اليها
وعلى النقيض دخلت أزقة وحوارى يتلمس الناس فيها الدفئ يقربهم من بعض بيوتهم متلاصقة كقطع الدومينو اذا سقطت قطعة تساقطت كل البيوت كقطع الدومينو المرصوصة مستندة الى بعضها لا يعنيهم الأرقام دائما مشغولون بيومهم يدعون ربهم فقط ان يمر اليوم بسلام .. الاثرياء يتركون لى مع ايصال التحصيل بضع جنيهات والبسطاء يتركون فى قلبى دفئاً وحباً وكوباً ساخناً من الشاى وحكاوى عن الغرباء والبحر والمسافرين للجانب الأخر من البحر بحثاً عن لقمة العيش فى قوارب خشبية متهالكة يعبرون بها البحرناحية الجانب الاخر هربا من الفقر فيستقروا فى القاع طعاما للسمك تحملهم التيارات البحرية نحو هروبهم المؤكد نحو الموت ، بالأمس رسمت لوحة لكائن خرافى يشق البحر ويبتلع الصيادين البسطاء أثناء عودتهم الليلية يحملون قليلاً من الصيد
.. الاسكندرية ياشحاته كتاب مفتوح تقرأ فيه عن حى رشدى وسرايات كفر عبده و فيلل سموحه وسبورتنج وايضا تقرأ فيه عن غيط العنب والجمرك والأنفوشى وبيوت تنهار على رؤؤس اصحابها من شدة المطر
وقصور امتدت من قلب الاسكندرية حتى نهاية الساحل الشمالى
شحاته :… الفرنسيون عندما جاءوا بحملتهم للأسكندرية وجدوا مقاومة شديدة من سكانها وحاكمها محمد كريم لكن هذه المقاومة لم تكن مجدية امام التسليح الحديث للفرنسيين الذين وجدوا شعبا صاحب حضارة لكنه فى نفس الوقت معادياً للعلم ، تصدى للبنادق والمدافع بالفأوس والسيوف وأغطية الأوانى فسقطت الاسكندرية وأعدم محمد كريم ، العلم ضاع فأضاع الوطن فكانت الحملة الفرنسية من اهم اسباب احتلال مصر من الأنجليز .. مضى الوقت وهما يتبادلان الحديث ويتابعان البحر والمطر وطيور النورس ويستمعان الى الموسيقى ويحتسيان الشاى الغامق ويتبادلان مع رشفات الشاى رشفات اخرى من الحنين للامل والشجن والمشاعر حتى شعر كلاهما بالصفاء وكأنهما عصفوران بللهما المطر فأخذا …ينفضان عنهما الماء.. برعشات متتابعة فيتناثر عنهما الماء ويستعدان للطيران سأل المحصل شحاته ،
البحر قريب من هنا ؟ نعم.. اخر الشارع كما ترى .. احتاج ان اتمشى قليلا تحت المطر ويبدو اننا سنصبح اصدقاء .. ممكن تقول اننا اصبحنا اصدقاء
هبطا على السلالم المتهالكة للبيت القديم بحى بحرى كان كلما هبطا درجة من درجات السلم صعدا اكثر نحو الاحساس بالسعادة بعد قليل سيكونان على شاطئ البحر يستقبلان المطر على اجسادهم بمرح طفولى ويودعان الأحساس بالأسى ومرارة الحلم الذى لا يتحقق بعد قليل سيطاردان طيور النورس ويطعمها بقايا الخبز الجاف وعندما يعودان الى حياتهما سيكمل شحاته روايته ويعاود المحصل رسم لوحاته ، هذه البهجة القليلة ستساعدهما كثيرا ، قطعا الشارع ركضاً خلف بعضهما حتى وصلا الى شاطئ الانفوشى بجوار مركز الشباب المغلق .. كانت الشمس تحاول ان تجتاز بأشعتها اكثر الغيوم سوادا فصنعت ثقبا لشعاع اضاء الشاطئ ببصيص من نور اوله فى السماء واخره على الرمال ، وبين حين واخر تبرق السماء فتضئ المدينة كلها يتبعه الرعد فتهتز المدينة بعنف ويختبئ الناس ماعدا هما ظلا يستقبلان المزيد من المطر حتى ابتلا تماما ، وسقطا على رمال الانفوشى يطاردهما الموج بضربات متلاحقة فتهتز جسداهُما كقاربى صيد متهالكين رسيا على الشاطئ لكن لا يملكان القدرة على المقاومة رويدا سحبهما الموج نحو البحر وهما ينظران لبعضهما باستسلام تاركين الموج يجذبهما نحو القاع فى احتفال كونى مهيب