بدت مئذنة المسجد الجديد من خلف زجاج النافذة شامخة تقترب من السحاب الكثيف المنتشر فى السماء بفعل برودة الجو ، رقة دينه دون الحاد أبعدته عن زيارة مساجد الله فى أوقات منتظمة ، يكتفى كل عدة شهور بصلاة احد الفروض ليؤكد لنفسه والآخرين انه مازال على علاقة طيبة بالسماء ، يستمع أحياناً بالصدفة لخطبة شيخ فى احد سرادقات العزاء فيتململ ويقول لنفسه ، ما هذا الهراء كيف تكون الحياة هكذا مثالية ، هؤلاء الذين يطلق عليهم رجال دين بالتأكيد حمقى ، حاذقون فى الكلام ليبيعوا بضاعة وهمية ، ولو استكنت لأفكارهم لكنت دائماً فى الصفوف الأخيرة ، أبحث عن لقمة العيش فى بقايا الطعام الملقى على قارعة الطريق ، كيف يدعو الناس إلى زهد الدنيا وهو يجنى فى العزاء الواحد ما يعادل ثلاث أضعاف مرتب خريج الجامعة فى شهر كامل، امتلاء جسده وبطنه المتهدل يدل بالقطع على اسرافه فى الطعام ووفرته فى حين أن نصف من يعظهم أصابهم أمراض سوء التغذية ، لا فرق بين هذا الواعظ وبين المدرس الذى يدرس نصف العلم فى المدارس ثم يبيع النصف الآخر من العلم بأضعاف سعره من خلال الدروس الخصوصية ، أو مثل الحكومة التى تطلب من شعبها التقشف وربط الحزام وهى ترفل فى نعيم الوظائف العليا تتردد بين القصور متنقلة بالسيارات الفارهة والطائرات الخاصة ، الجميع يكذب الواعظ والمدرس والحكومة وانتقلت عدوى الكذب الى بقية الرعية ، الكل كاذب يا محسن وانت تعلم ذلك ، بالأمس طلب منى مديرى بشكل صريح هدية لزوجته بمناسبة عيد جوازهما ، وعندما أظهرت له امتناني باختياره لى لأداء هذه المهمة المقدسة ، عاد إلى الخلف وتناول القلم وأخذ يداعبه بين أنامله وهو ينظر لى ويبتسم ، ثم سألنى متى تنوى الزواج ؟
– يا فندم الوقت غير مناسب الآن لهذه الخطوة
– الزواج حصن للشاب من الوقوع فى الخطيئة !
– لم أستطع ان أدارى ابتسامة ساخرة عندما ترائى لى منظره وهو يلهث كالكلب خلف إحدى السيدات المتعاملات مع البنك .
خبأت ابتسامتى خلف رداء من الجدية ثم سألته حضرتك سعيد فى زواجك ؟
لم يكن يتوقع السؤال فضحك بصوت مرتفع ثم قال ؛
الزواج يا محسن خدعة الطبيعة لاستمرار بقاء النوع ابتلاء يا ابنى ! ، تندفع اليه بكل مشاعرك أملاً فى حياة سعيدة مقرراً انك لن تكرر أخطاء الآخرين فى زواجهم ، لكن مع مرور الوقت تجد نفسك فى خندق واحد يجمع كل المتزوجين البلهاء تحاول معهم أن تدافع عن آخر ما تملك من حريتك وعن ىخر قطعة نقود فى جيبك ، عندما غادر مكتب المدير حدث نفسه قائلاً :
الجميع يا محسن متناقض حتى أنت لا يخلو يومك من هذا التناقض ، أفكارك كلها متناقضة وباهته لا تملك من المواقف إلا الصمت ، أحياناً يمر عليك أيام دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، لقد تحولت الى انسان آلى ينفذ الاوامر على اكمل وجه فى صمت ، حتى تناولك لطعامك بدون اى شهية تأكل لتعيش ، سجين انت فى رفضك لما يدور حولك ، ثم قال لنفسه : اعلم يا محسن إن هذا سيقودك يوماً حتماً الى الجنون ، الجنون الذى بدأت بوادره بالأشباح والحيوانات التى تراها حولك فى سكون الليل ثم تختفى فجأة ، زعرك فى البداية لم يشفع لك بعد ذلك اعتيادك على هذه الأشياء ، لقد تأكدت بعدها انك أصبحت على شفا مرض نفسى سيؤدى بك الى الجنون ،
افاق محسن من منولوجه الداخلى على صوت صاحب العزاء يمد يده له بالسلام قائلاً :
شكر الله سعيكم يااستاذ محسن ، نظر حوله وجد ان سرادق العزاء قد انفض وانه يجلس وحده فى هذا الفراغ الكئيب ، عند باب السرادق وجد ارملة صديقه على باب السرادق وهى تتشح بالسواد لكنه لاحظ اكتمال زينتها خصوصاً الأحمر القانى على شفاتها ، ارتبك قليلا ثم عاد ليقول لها البقية فى حياتك يا أستاذه مايسة ، صافحته ببرود وهى تنظر نحو احد المعزين وهو يركب سيارته الفارهة ،
مات مجدى فى أحد أيام العمل سقط مغشياً عليه ولم يجدوا مستشفى تابعة لتامين الهيئة لتستقبله رغم الاستقطاعات التى تخصم من مرتبه كل شهر ،
اللعنة يا محسن على رئيس الهيئة والمدير وزوجة مجدى والواعظ والحكومة والمدرس ،
أشار لأول تاكسى مر من أمامه وقف السائق فى تخاذل على بعد أمتار منه ، دنا محسن من الشباك بجانب السائق وقال: الدقى يا أسطى
– السائق فين فى الدقى ؟
– محسن : شارع سليمان جوهر
– السائق : هوصلك لأول الشارع من الخارج وآخد ١٠٠ جنية
– محسن : ٥٠ جنية كويس
– السائق : ٥٠ جنية لا تشترى الآن ربع كيلو جبنة يدوبك تشترى بيهم خمس أرغفة
صمت محسن قليلاً ثم تلفت حوله ثم بصق فى وجه سائق التاكسى وكأنه ببصق فى وجه كل من يلعنهم وجرى ،
فى منزله المطل على سوق الدقى بشارع سليمان جوهر استيقظ باكراً على اصوات الباعة ومرتادى السوق والشحاذين وصوت الراديوهات التى تبث آيات القران عبر إذاعة القران الكريم وأصوات المتشاحنين وهم يتشاجرون ويتبادلون السباب ، على مهل توجه ناحية النافذة واحكم إغلاقاها وعاد إلى سريره حاول أن يعاود النوم لكنه فشل ، ارتدى ملابسه وهو نصف مستيقظ متوجهاً الى البنك .
مترو الأنفاق مزدحم لاحظ وجود امرأة فى عربة السيدات تلاحقه بنظارتها ،لم يهتم فى البداية لكنها عاودت النظر اليه وأومأت له بالنزول ، على رصيف المحطة سألته
انت مش فاكرينى يا محسن ؟
لا للأسف !
انا مايسة !
مايسه مرات المرحوم مجدى ؟
ايوه
ازيك يا مدام مايسه حضرتك شكلك متغير عن أمس !
ماما قالت لى الحزن فى القلب
صحيح يا فندم
إنت بتكلمنى رسمى ليه ؟
أبداً
انا ذاهبة للهيئة لصرف مصاريف الجنازة وإجراءات المعاش
تحت أمرك ممكن أساعدك فى أى شئ ؟
أيوه محتاجة منك انت وأحد الزملاء توقيعكما كضامنان بصحة الأوراق المقدمة والتوقيع عليها
– تحت أمرك
فى الهيئة تحاشى محسن أسئلة الزملاء حول علاقته بأرملة مجدى ، وحاول أن يضع الموضوع كله فى إطار رسمى ، حين دخل مباشرة لسيادة المدير العام لوضع طلب السيدة مايسه بين يديه ، رحب المدير بالمساعدة بما يسمح به القانون ، وراح امام مايسه يعدد مناقبه وعلاقته القوية التى كانت تربطه بالمرحوم مجدى ، لكنه أيضاً لم يخف نظراته المعجبة بمايسه ، كان المدير يطيل الحوار قدر المستطاع محاولاً إيجاد ثغرة حتى يطلب من مايسه رقم تليفونها الخاص ، تدخل محسن فى الوقت المناسب لإنهاء تلك المناورة قائلاً :
– مدام مايسه ممكن تتركى بياناتك الخاصة ورقم تليفونك والطلب عند سيادة المدير وهو سيتابع طلبك بمنتهى الاهتمام .
فى المساء هاتفه المدير وطلب منه التوسط عند مايسه لقبول مبلغ مساعدة منه لحين انتهاء إجراءات صرف المستحقات .
استيقظ فى منتصف الليل فزعاً على صوت حركة فى صالة الشقة ، توجه مترقباً نحو مصدر الصوت ثم جال ببصره فى أركان المكان فلم يجد أثراً لشئ ، ترك الصالة متوجهاً الى بقية حجرات الشقة فلم يعثر على احد ، عاد مرة أخرى إلى الصالة لكنه تسمر مكانه صعقاً عندما وجد أمامه المرحوم مجدى جالساً على الأريكة ملتف بكفنه الأبيض ينظر اليه ويبتسم ، كان جسد محسن يرتجف بقوة وعرقه الغزير أخذ يشق طريقة على جسده من أطراف شعره إلى اخمص قدميه حتى غطى وجه تماماً وجعل رؤيته للمرحوم مجدى مشوشة كانها من خلف زجاج مغبش ، وأخذ جسده كله يرتجف .
باغته المرحوم مجدى قائلاً
– اقترب يا محسن لا تقلق !
– انا .. انا…
– انت ايه يا محسن ؟ أقولك أنا انت رجل محترم ، لكنه ممزق بين أن يعيش بمبادئه المثالية ، وبين أن يلفظ من المجتمع !
انا قادم إليك يا محسن من ارض الحقيقة ، أنا تركت دنياكم الملخبطة والمتداخل فيها الحلو والمر والصالح والطالح والقبيح والجميل ، أتيت إليك من دنيا لا مكان فيها للكذب أو النفاق ، لا فرق هناك بينك وبين مديرك أو حتى رئيس الهيئة إلا بما تقدمه لنفسك من عمل، الصدق فقط هو العملة المعمول بها هناك .
بدأت الكلمات تدخل إلى قلب محسن وتتسلل إلى عقله
– إذن ماذا تريد يا مجدى ؟
– ابداً فقط ببلغك أن كل تصرفاتك هنا نشاهدها نحن هناك بالتفصيل وأول بأول !
اقترب يا محسن لا تقلق ليس هناك ما يخيفك
انا علمت ان المدير يحاول أن يتقرب الى زوجتى وطلب منك أن تكون وسيط بينهم ، وانت تعلم يا محسن ان هذا الرجل لا يتورع عن ارتكاب محارم الله ، وهو ينتوي أن تكون مساعدة المالية لها استدراج لإقامة علاقة معها ، فلا تورط نفسك فى مثل هذا الفعل وتخلص من هذا المأزق .
فى الصباح أفاق على كلمات المرحوم مجدى تتردد أصدائها فى رأسه صانعة ضجيجاً مزعجاً ، حاول الشوشرة على ضجيج رأسه برفع صوت أغانى المذياع الصباحية ، لكن الضجيج كان مرتفعا اكثر من صوت المذياع ، ارتدى ملابسه على عجل فبدى غير منتظم الهندام ثم ربط راسه بقطعة من القماش واحكم ربطها لعل الضجيج يهدأ ثم وضع فوق راسه كاب رياضى وتوجه إلى العمل ، طوال الطريق كانت الكلمات تزداد صوتها ارتفاعاً حتى غطى على ضجيج صوت الشارع ومحركات السيارات وأصوات المارة ، عند باب المدير وقف يطلب الاستئذان للدخول وهو يمسك راسه بكلتا يديه ، ارتمى على المقعد المقابل لمكتب المدير وهو يشعر بأن جدران المكتب كلها تتساقط فوق جسده وانه قاب قوسين أو أدنى من النهاية ، تماسك ورفع وجه وتوجه ناحية المدير ، فبدأ صوت الضجيج يهدأ رويداً رويداً ، وقال : أنا جيلك ومعى رسالة من المرحوم مجدى …..!
فى المساء كان محسن يقف خلف زجاج النافذة يتأمل مئذنة المسجد الشامخة وهى تشق الهواء نحو الأعلى فى محاولة لربط الأرض بالسماء ، وهو يقف شارداً زائغ البصر يتذكر أحداث اليوم التى انتهت برفته واتهامه بالجنون ، كان ذاهلاً شارداً حقاً لكن بلا ضجيج يطحن راسه