الدكتور علاء رزق يكتب : المسار الافتصادي بين واقع حالي وانضباط مالي

الدكتور علاء رزق
تسعى إقتصاديات دول العالم الآن إلى الصمود أمام التضخم الكبير الذي لم تشهده منذ عقود طويلة بفضل السياسة النقدية الفائضة، التي إعتمدتها البنوك المركزية الكبرى، خاصة مجلس الإحتياطي الفيدرالي الأميركي والذى من المتوقع ان يرفع الفائدة للمرة السابعة على التوالي خلال هذا العام، وذلك عبر السعي نحو وضع منهجية استراتيجية تؤسس لفكرة الإنضباط المالي، لقناعتها أنه سيؤدي إلى تقليص تكلفة خفض التضخم إلى المستويات المستهدفة، في الوقت المناسب مقارنة بالأسلوب البديل الذي يترك السياسة النقدية تعمل بمفردها، ومع التأكيد بأنه في مواجهة إرتفاع أسعار الغذاء والطاقة يمكن تحسين المركز المالي عبر الإنتقال من الدعم واسع النطاق إلى مساعدة أشد الفئات ضعفا، وذلك عبر التحويلات النقدية، لأن صدمات العرض تستمر لفترة طويلة، وأن الحد من الزيادة في الأسعار عن طريق ضوابط الأسعار، أو الدعم المالي، أو التخفيضات الضريبية، سيكون باهظ التكلفة على الميزانية، وبلا أي نتيجة مستقبلاً. إن إرتفاع التضخم سيؤدي حتماً إلى ضرورة البحث عن أفضل وسيلة لتعزيز ودعم الإنضباط المالي وزيادة الإيرادات، أو إعطاء أولوية للإنفاق، بما يحافظ على الإستثمارات في رأس المال البشرى ، والمادي ،الداعمة للحماية الإجتماعية والمعززة للنمو الإقتصادى، وهو ما قد يتسبب فى تخفيض المخاطر على المستوى الدولي، وتقليل حالة عدم اليقين المسيطرة على كل الإقتصاديات العالمية، فالإرتفاعات الأقل حدة في أسعار الفائدة ،يمكن أن تحقق تشديدا أكثر تدرجا للأوضاع المالية، وتخفيضا للمخاطر على الإستقرار المالي ،والحد من التدعيات السلبية على إقتصاديات الأسواق الناشئة،والاهم تقليل مخاطر الوصول إلى المديونية الحرجة، ولكن هنا يفاجئنا البنك الدولي هذا الأسبوع بأن ديون الدول النامية زادت إلى الضعف خلال العقد الماضي ، حيث وصلت الى تسعة تريليون دولار في نهاية عام 2021, وهو ما يمثل زيادة حقيقية في مخاطر وقوع هذه الدول في أزمات مالية متلاحقة، وتأكيد البنك الدولى على أن 60% من هذه الدول تواجة بالفعل أزمات ديون ،لا سيما في ظل إنخفاض قيمه عملتها أمام الدولار، لأن الدين غالباً ما يكون مقوما بالدولار، هو أمر بالغ الأهمية ، ويتطلب التكاتف والتعاون الدولي لمنع تفاقم هذه الأزمة السحابية ، خاصة وأن إرتفاع أسعار الفائدة منذ مطلع هذا العام ، أدى أيضاً إلى زيادة المخاطر المالية، وزيادة مستويات الفقر في هذه الدول. إن الخط العام أصبح أكثر خطورة ، ومتصاعدا بصورة ملفتة، لأن كثيراً من الدول النامية تنفق اغكثر من 10% من دخلها الثانوي من الصادرات على سداد ديونها ، وهو أعلى مستوى منذ بداية الألفية الثالثة، ويبقى أهم وأخطر ما جاء في تقرير البنك الدولي، وهو التغيير فى تركيبة دائنى الدول النامية، حيث كانت قبل عقد سابق في يد الدول الأعضاء في نادي باريس والتي تشمل 20 دولة منها مجموعة السبع وروسيا، ولكنها تغيرت الآن بصورة تدعو للقلق، لتصبح في يد القطاع الخاص بنسبه 61% ،وهو ما يمثل الخطوره الكبيرة على السياسات التنموية للدول النامية، وإذا ما ربطنا هذه النتيجة بإستحواذ الصين على ثلثى النسبة الباقية من دائنى الدول النامية ، وهو ما يعني أن تعدد الجهاد سوف يؤدي إلى زيادة تكاليف الإقتراض للدول المعنية، وزيادة فى صعوبة إعادة هيكلة ديونها قبل أن تخرج من السيطرة، وهو ما حدث أخيرا في سريلانكا، يضاف إلى ذلك أن المعلومات المتعلقه بالديون ،ولا سيما بين الدول غالبا ما تكون غير متكاملة ، وهو يمثل غياب لمبدأ الشفافية، وزيادة إحتمالية الوقوع فى أزمة مالية جديدة، لأن الشفافية تسمح بفاعلية أكبر لإعادة جدولة الدين لتستعيد الدولة سريعاً إستقرارها المالي، وتحقيق النمو المستهدف . لذا تسعى الإقتصاديات العالمية اليوم للصمود أمام التضخم الكبير ، ومع ضخ الكثير من الأموال، وأسعار الفائدة التي تقترب من الصفر في الإقتصاديات الكبرى، كان التضخم أمرا حتميا، ومما زاد الأمر سوءا ،أزمات الطاقة خاصة في القارة الأوروبية، وإضطرابات سلاسل التوريد العالمية، وعدم القدرة على الوصول إلى إستراتيجية عالمية للحياد المناخي ، ولسوء الحظ فإن الناتج الثانوي لخفض التضخم هو الركود ، الذي يعني ببساطة إنخفاض كبير في النشاط الإقتصادي ،المنتشر في جميع أنحاء الإقتصاد، والذي قد يستمر لأكثر من عده أشهر، والتقارير الدولية تؤكد أن إحتمال حدوث ركود للعام المقبل زادت من 3,7% الى 17.6% وهو أمر يؤكد أنه قد ينشا عن ذلك إنهيارات كبيرة في الأسواق العالمية، يترتب عليه حدوث توتر كبير بين مستثمري سوق الأسهم، وبطبيعة الحال فإن الأسواق المالية تأثرت بسبب زيادة الديون،مما تسبب فى إرتفاع أسعار الصرف، ووصول قروض الرهن العقاري لمستويات عالية ،ولكن الخطر الأكبر هو القيم الصاخبة للدولار الأمريكي إذ دفعت الزيادات المتسارعة لأسعار الفائدة من جانب بنك
الإحتياط الفيدرالي الأمريكي العملة إلى أعلى مستوياتها منذ عقود ، وهذا العام وحده إرتفعت قيمة الدولار أكثر
من 18% مقابل سلة من العملات الرئيسية الاخرى . ما نؤكد عليه أن زيادة حالة عدم اليقين من إحتمال حدوث
أزمات مالية مستقبلية والدخول في حالة من الركود العالمي، أكدها بنك التسويات الدولية، حيث أكد أن لدى
المؤسسات خارج الولايات المتحدة الأمريكية ديون تقدر قيمتها ب 65 تريليون دولار ، وهو ما يؤدي إلى الصعوبة
على صانعى السياسات العالمية من توقع الأزمة المالية العالمية المستقبلية المقبلة، وأن الإقتراض الخفي قصير
الأجل يشكل جزءا من ديون ضخمة ومتزايدة، كما أكد بنك التسويات الدولية أن المبلغ الاغجمالي للديون الدولارية
من المشتقات المالية يبلغ أكثر من 80 تريليون دولار متجاوزاً القيمة الإجمالية لأذون الخزانة الدولية وإتفاقيات
إعادة الشراء والأوراق التجارية، وأن البنوك التي يقع مقرها خارج الولايات المتحدة الأمريكية تتحمل 39 تريليون
دولار من هذا الدين، أي أكثر من ضعف إلتزاماتها في الميزانية العمومية، وعشرة أضعاف رأس مالها، مما يزيد من
إحتمالية حدوث أزمة مالية غير مسبوقة. ما يهمنا الآن هو ضرورة وضع رؤية منهجية مصرية ، تتميز بالمرونة ،
والواقعية ، والقدرة التنبؤية، عبر إيجاد مجموعة من الحلول لجعل الإقتصاد المصري أكثر جاذبية للأموال الأجنبية،
والباحثة الآن عن ملاذ آمن، وفي مختلف الظروف ،عبر مجموعة من الركائز الأساسية، أهمها: أولا: ضرورة
الإندماج في الإقتصاد العالمي وفق أسس وبيانات إقتصادية واضحة المعالم ، ووفق القدرة النسبية لكل إقتصاد
من الإقتصاديات التي سنتشارك معها ،دون تجاهل شكل النظام الإقتصادي المصري السائد والذي يقوم على
ضمان تحقيق التنمية المستدامة، والعدالة الإجتماعية، لدعم تحقيق معدل نمو إقتصادي حقيقي، ورفع مستوى
المعيشة، وزيادة فرص العمل، وتقليل معدلات البطالة، والقضاء على الفقر، عبر إلتزام النظام بمعايير الشفافية
والحوكمة، ودعم محاور التنافسية، وتشجيع الإستثمار، وضبط آليات السوق، كل ذلك من أجل ضمان تحقيق
الحياة الكريمة للمواطن المصري. ثانياً: السعي نحو دعم وتشجيع الإستثمارات المباشرة طويلة الأجل ،التي يقل
تأثيرها بالدورات الإقتصادية، مع إتباع أسلوب إقتصادي لتجنب مشكلات المضاربين الذين يؤثرون في حركة ميزان
المدفوعات في أوقات الأزمات الإقتصادية. ثالثاً: ضرورة المحافظة على أسعار أصول أمنة من خلال السياسات
الإقتصادية الداخلية التي تسعى إلى كفالة الأنواع المختلفة للملكية، والتوازن بين مصالح الأطراف المختلفة،
ومراعاة الإتزان المالي والتجاري. رابعاً: دعم وتحفيز الإستثمار الأجنبي المالي في الأسواق المالية المصرية.
ويبقى الأهم وهو إعتماد مبدا التغيير الزاحف وليس التحول في القرارات التي لها آثار سلبية في البيئة
الإستثمارية المصرية
كاتب المقال / رئيس المنتدى الإستراتيجى للتنمية والسلام
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.